تونس.. فرصة تعديل المسار السياسي بين خريفيْن

Tunisia's President Beji Caid Essebsi (C) attends a meeting of the new government in Tunis February 18, 2015. REUTERS/Zoubeir Souissi (TUNISIA - Tags: POLITICS)

قبل سنة لم يكن من الصعب إصدار حكم إيجابي على الأوضاع العامة في تونس؛ فالمسار السياسي يتقدم رغم الصعوبات، وهناك تهدئة على جبهة الهوية على أرضية الدستور السمحة والمرنة. أما التعثر فكان خاصة في المسار التنموي، وكانت هناك فرص للتدارك. مؤشرات لوحة القيادة كانت بين اللونين الأخضر والأصفر، وكانت خالية من اللون الأحمر.

واليوم لا يمكننا أن نكون على نفس تلك الدرجة من الاطمئنان؛ فالمسار التنموي يتفاقم الغموض بشأنه، وأغلب مؤشراته سلبية: المقدرة الشرائية، وقيمة الدينار، والبطالة وخاصة لدى خريجي الجامعات، والاختلال الجهوي، وعجز المالية العمومية والميزان التجاري وضغط الدين الداخلي والخارجي.

لا يمكننا إلا أن نسجل المجهود الملحوظ لتحسين شبكة الطرقات، وهو مؤشر إيجابي ولكنه غير كافٍ. والمناخ الاجتماعي -وهو أحد شروط إطلاق عجلة الاستثمار والإنتاج- ليس في أحسن حالاته، والطبقة الوسطى تتعرض لمسار تآكل لا يتوقف.

في ساحة الهوية يزداد التوتر إثر مبادرات سياسية في مجال حساس يتعلق بمنظومة المواريث وزواج المسلمة بغير المسلم، وقد تنتقل المبادرة إلى الساحة التشريعية، ونتيجة كثير من المظهرية والاستفزاز في مهرجان قرطاج السينمائي، الذي هو إحدى الفعاليات الثقافية الكبرى وواجهة البلاد على الخارج.

أهم مستجد في تونس هو تسلل الضبابية إلى المسار السياسي، الذي هو عامل تميز التجربة التونسية ومنطقة الأمان الأساسية فيها؛ فإقرار قانون العفو الإداري -الذي شمل المئات من مسؤولي نظام زين العابدين بن علي- ترك إحساسا بالغَبن وتبييض الفساد والإفلات من العقاب. وتأجيلُ الانتخابات يثير حيرة لدى الرأي العام ولدى الحريصين على المسار من الشركاء

الاستفزاز لم يكن فقط في الجانب الأخلاقي وهو معتبر؛ وإنما أيضا في الجانب الاجتماعي، وكأن تونس تونسان في المرجعيات ونمط العيش ومستوى العيش أيضا. وهنا يعود النقاش حول الهوية وموقع الدين وتغذيه بعض تحركات المجتمع المدني.

ولكن أهم مستجد هو تسلل الضبابية إلى المسار السياسي، الذي هو عامل تميز التجربة التونسية ومنطقة الأمان الأساسية فيها؛ فإقرار قانون العفو الإداري -الذي شمل المئات من مسؤولي نظام زين العابدين بن علي– ترك إحساسا بالغَبن وتبييض الفساد والإفلات من العقاب. وتأجيلُ الانتخابات يثير حيرة لدى الرأي العام ولدى الحريصين على المسار من الشركاء.

إنها حيرة بشأن مدى ديمقراطية الفاعلين، ولا ديمقراطية دون ديمقراطيين. وبالإجمال تنتقل لوحة القيادة من ساحة الاطمئنان الحذر إلى منطقة دق ناقوس الخطر.

يمكن التساؤل عن أسباب هذا التداخل بين المسار التنموي ونظيريْه الثقافي والسياسي في بلاد ليست بمنأى عن الاعتداءات الإرهابية، وهو تداخل قد يهدد التجربة. وبالطبع يدرك الجميع صعوبات عمليات الانتقال.

وقد عاش التونسيون انتقالهم عبر تدافع في السطح السياسي -وخاصة في العمق الاجتماعي- لتحقيق طلب التوازن والعدالة والمساواة، في دولة كانت -منذ الاستقلال- منحازة جغرافياً واجتماعيا وثقافيا. وفي إدارة الانتقال؛ كان الحسّ الشعبي أكثر عقلانية من نخبة مسكونة بحساباتها الحزبية والأيديولوجية.

هكذا نقرأ منطق السنوات السبع الماضية بفضاء سياسي أميل للصراع، وعمق شعبي أميل للتجميع والمصالحة، وكانت نتائج انتخابات 2014 تعبيرا عن الرغبة في التعايش بين الكتلتين "العصرانية" و"المحافظة"، ومسعى لإلغاء حواجز المواجهة وسوء الفهم التي غذّاها ووظفها الاستبداد.

ولكن المشهد الذي أفرزته الانتخابات لم يفِ بوعوده؛ لقد حقق قدرا من الاستقرار في البلاد وحَمَى كيان الدولة، ولم يستطع تحويل هذا الاستقرار إلى ثمار وتنمية. إن الاستقرار في البلاد لم يصاحبه استقرار في المشهد الحكومي، يتجلى ليس فقط في التغييرات الحكومية وإنما أيضا في ضعف قدرتها على الإيفاء بوعودها، وكل ذلك يؤدي إلى ضبابية وتردد.

ولئن كان التمثيل السياسي للكتلة المحافظة يتمتع بقدر من الاستقرار؛ فإن التمثيل السياسي للكتلة الثانية -التي كانت الأولى في الانتخابات- ليس له نفس القدر من الاستقرار، فلا مكوناتها قدرت على التّقارب في البرامج لتشترك في الحكم، ولا هي قبلت المعطى الانتخابي وتخلت عن هوسها بالتصنيف الأيديولوجي، ولا استطاع مكونها الرئيسي أن يحافظ على تماسكه الداخلي والتصرف بمقتضى موقعه الجديد.

وهكذا نجد أنفسنا أمام حكومات لا تشكو من غياب الرؤية والبيداغوجيا والتواصل فقط؛ بل نجدها ضحية عدم الاستقرار الحزبي، مما أدى إلى الإشكال القيادي، وهو ما نعتبره الأصل في المشكل التونسي اليوم.

الوضع يزداد تعقيدا بضغط الانتخابات المحلية، والتي تكمن خطورتها ليس فقط في نتائجها الخاصة وإنما فيما توحي به بالنسبة لاستحقاقات 2019 التشريعية والرئاسية. والمناورات الحزبية الحالية لا يمكن أن تفهم إلا ضمن إستراتيجيات التموقع للسنوات القادمة.

فمنطق الانتخابات المحلية ملائم أكثر للأحزاب ذات الامتداد الهيكلي الواسع، وللقوائم المستقلة؛ ولذلك تخشاها الأحزاب الصغيرة وربما أيضا الأحزابُ الكبيرة المترهلة هيكليا، فتحاول توحيد الصفوف أو الانطلاق -من الآن- في إستراتيجية رئاسية من خلال إبراز بعض الوجوه في صورة المنقذ.

لا مخرج إلا بتحول التشارك إلى قناعة لدى الجميع، وبالمزج الحكيم بين التنافس والتكامل، وبالانطلاق في المعالجة الجماعية للمطالب المحسوسة والمستعجلة، وفي نفس الوقت إيجاد قنوات لتصريف الاحتقان في ملفات الهوية الحساسة. بهذا فقط تتحول الفرصة إلى مسار، وبدونه قد يقضي الاستعجال على الجميع

يخيّم الرهان على الرئاسيات على الأجواء ويضغط على الحسابات، وخاصة مع احتفاظ بعض المرشحين المحتملين بنوع من "الغموض الإستراتيجي".

هناك جيل جديد من الساسة له طموحاته وتراوده نفسه بشأن خوض معركة تجديد الطبقة السياسية التونسية من موقع الرئاسة، ولكنه لم يحسم بعدُ جملة من القضايا: هل سيعمل تحت جبة الرئيس الحالي أم في مواجهته؟ وهل سيخوض تنافسية بينية أم سيفسح المجال أمام أحد مرشحيه؟ ومن هو؟

وما هي هندسة المعركة الانتخابية القادمة: هل هي هندسة انتخابات 2014 (النهضة/ضد النهضة)، أم هي هندسة جديدة: (منظومة الحكم الحالي وخاصة النهضة النداء/ضد مناوئيها)؟ وما هو موقع رئيس الحكومة الحالية؟ وهل ستوفر له ظروف النجاح باعتباره رئيسا لحكومة ائتلافية أم سيعرقل باعتباره منافسا محتملا في المستقبل؟

ستشهد الأشهُر القادمة صراعا بين منطقين: معالجة حالة النفور من المشهد الحزبي واللامبالاة بالشأن العام، من خلال تحويل الاستقرار الحالي إلى استقرار مثمر بالدخول الشجاع في الاستجابة لطلب استحقاق الكرامة. وهذا يتطلب تضامنا بين المنتظم السياسي والاجتماعي لإنقاذ نفسه أولاً، وهو يحتاج لذلك؛ ولإعطاء دفعة قوية لمسار بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية المستقلة.

أو الاستغراق في حرب الكل ضد الكل في إستراتيجيات انتخابية -وخاصة رئاسية- متعالية عن المطالِب الشعبية الملحة. وحينها ستتوسع رقعة الحرب، وتزداد هشاشة الحكومة، ويتفاقم عجزها عن الإنجاز. وعندها لن تجدي محاولات التكتل الضدي، ولا محاولات إعادة البناء التي نشاهد من وجوه أنها أخذت وقتها وقد لا تقدم جديدا.

في المعركة الشرسة لإعادة ترتيب خرائط النفوذ على الساحة الدولية، وفي محيط إقليمي شديد الاضطراب؛ نجد معادلة تونسية شديدة البساطة، ونجد شعبا صبورا وعقلانيا، ونجد خبرة في إدارة الأزمات الكبرى. ورغم الصعوبات لا تزال الفرصة متوفرة، والحل سياسي أولا.

فلا مخرج إلا بتحول التشارك إلى قناعة لدى الجميع، وبالمزج الحكيم بين التنافس والتكامل، وبالانطلاق في المعالجة الجماعية للمطالب المحسوسة والمستعجلة، وفي نفس الوقت إيجاد قنوات لتصريف الاحتقان في ملفات الهوية الحساسة. بهذا فقط تتحول الفرصة إلى مسار، وبدونه قد يقضي الاستعجال على الجميع، وقد يقضي خريف 2019 على خريف 2017.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.