الأسد في روسيا.. بين زيارتين
محطة موسكو
محطة سوتشي
عقبات أميركية
على غرار زيارته الأولى لموسكو عام 2015؛ شكّلت زيارة بشار الأسد الأخيرة لمدينة سوتشي الروسية مفاجأة لمتابعي الشأن السوري. وإذا كانت الزيارتان تتماهيان في الشكل والإخراج، فإنهما تتباينان في التوقيت والحمولات السياسية والعسكرية، بحيث يمكن القول إن كل زيارة حملت عنوانا واضحا لمرحلتها الزمنية.
محطة موسكو
جاءت زيارة الأسد الأولى لموسكو يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015، أي بعد نحو عشرين يوما من التدخل العسكري الروسي في سوريا. وكان الهدف الرئيسي لهذه الزيارة هو إعطاء الشرعية لهذا التدخل العسكري، وتحقيق بروباغندا إعلامية يحتاجها الروس على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وذلك بإبراز نجاحات الآلة العسكرية الروسية في مدة زمنية قصيرة، والقول إن موسكو وحدها القادرة على الإمساك بالملف السوري المعقّد وامتلاك مفاتيح الحل، أو على الأقل امتلاك أدوات تغيير الدفة العسكرية والسياسية.
كانت لزيارة الأسد الأولى لروسيا أهداف أعمق، إذ كانت روسيا بحاجة لوضع إستراتيجية متكاملة بسوريا لا تقف عن الحدود العسكرية، في ظل تحركات دبلوماسية أميركية لإطلاق مبادرة سياسية لبحث سبل تسوية الأزمة السورية، ترجمت -بعد عشرة أيام من زيارة الأسد لموسكو- باجتماع فيينا الأول للمجموعة الدولية الخاصة بسوريا |
فخلال العشرين يوما الفاصلة بين بدء التدخل الروسي وزيارة الأسد لموسكو؛ استطاع النظام السوري -مع حلفائه على الأرض- فتح جبهات عسكرية عدة، كان غير قادر على فتح جزء بسيط منها:
– جبهة ريف حلب الجنوبي والغربي.
– جبهة ريف حلب الشرقي: محور السفيرة/كويرس.
– جبهة ريف اللاذقية الشرقي.
– جبهة ريف حماة الشمالي: محور مورك/كفرزيتا/كفرنبودة.
– جبهة حمص.
– جبهة الغوطة الشرقية.
– جبهة درعا.
– جبهة القنيطرة.
– جبهة دير الزور.
وجدت موسكو في الإنجازات العسكرية السريعة فرصة لتعويم نفسها على الساحة الدولية من البوابة السورية، في ظل عزلة دولية بسبب الأزمة الأوكرانية ومشكلة شبه جزيرة القرم.
لكن كانت للزيارة أهداف أعمق، إذ كانت روسيا بحاجة لوضع إستراتيجية متكاملة بسوريا لا تقف عن الحدود العسكرية، في ظل تحركات دبلوماسية أميركية لإطلاق مبادرة سياسية لبحث سبل تسوية الأزمة السورية، ترجمت -بعد عشرة أيام من زيارة الأسد لموسكو- باجتماع فيينا الأول للمجموعة الدولية الخاصة بسوريا.
وأمام هذا الوضع، تضمن لقاء الرئيس الروسي فلادمير بوتين مع الأسد مناقشةً للإستراتيجية الروسية بشقيْها العسكري والسياسي، وقد جاء بيان الكرملين آنذاك واضحا حين أعلن "أن بوتين ونظيره السوري أكدا أن العمليات العسكرية يجب أن تتبعها خطوات سياسية تساهم في إنهاء النزاع المتواصل في سوريا".
لكن النظرة الروسية سرعان ما تحطمت على صخرة الواقع السوري العصي على الفهم، فاضطرت موسكو إلى تطوير إستراتيجيتها بعد إدراكها أن احتفاظ فصائل المعارضة بقوتها وبقاء تنظيم الدولة الإسلامية، لن يخدما المشروع الروسي.
وعليه فقد تضافرت الجهود الروسية/الأميركية خلال العامين الماضيين لتغيير الوقائع الميدانية، عبر تحجيم فصائل المعارضة المسلحة والمنظمات الإرهابية، ليقترب المشهد من ثنائية النظام/المعارضة، وهو مشهد يتطلب أدوات ومفاهيم ولغة مختلفة.
وباختصار، جاءت زيارة الأسد إلى موسكو قبل عامين عنوانا لبداية مرحلة عسكرية بأدوات روسية لا تخلو من تأييد دولي وإن كان مضمرا، فيما جاءت زيارته الأخيرة عنوانا لمرحلة مغايرة في شكلها ومضمونها.
محطة سوتشي
يُجمع المراقبون للشأن السوري على أن زيارة الأسد الأخيرة لمدينة سوتشي غير عادية، وليست لأجل تحقيق ضربة إعلامية، وإنما هي زيارة تعكس بداية مرحلة سياسية بعدما أنجِزت المهام العسكرية الإستراتيجية.
كان توقيت الزيارة واضحا وحاسما؛ فقد جاءت قُبيل انطلاق القمة الثلاثية بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران، وانطلاق مؤتمر "الرياض 2″ للمعارضة السورية، وقبل أيام من انطلاق مؤتمر "الحوار الوطني السوري"، وجولة "جنيف8″.
كان توقيت زيارة الأسد الثانية لروسيا واضحا وحاسما؛ فقد جاءت قُبيل انطلاق القمة الثلاثية بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران، وانطلاق مؤتمر "الرياض 2" للمعارضة السورية، وقبل أيام من انطلاق مؤتمر "الحوار الوطني السوري"، وجولة "جنيف 8". ومن الواضح أن بوتين كان بحاجة ضروية إلى مثل هذا اللقاء للتفاهم مع الأسد أو تبليغه بحقيقة المرحلة المقبلة |
من الواضح أن بوتين كان بحاجة ضروية إلى مثل هذا اللقاء للتفاهم مع الأسد أو تبليغه بحقيقة المرحلة المقبلة، وضرورة التزام دمشق بالمبادئ الأساسية للحل السياسي التي تنوي روسيا طرحها، ذلك أن موسكو ليست في وارد حصول خلل ما، وهي تستعد لتخطي العتبة العسكرية ودخول الحلبة السياسية بقوة وثبات.
وقد شعر الكرملين -خلال الفترة الماضية- بفتور من النظام السوري تجاه انعقاد مؤتمر "الحوار الوطني السوري" الذي تنوي روسيا استضافته، إذ أعلن النظام -عبر وسائل إعلامية مقربة منه- أن المؤتمر يجب أن يركز على المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار، بدلا من التركيز على الدستور والانتخابات.
ومع أن مطالب النظام هذه غير مستبعدة من مؤتمر الحوار، إلا أنها وحدها غير كافية لنجاح مؤتمر ترجو منه موسكو أن يكون بمثابة خريطة طريق أو إطار ناظم لأي تفاهم مستقبلي، دون أن يكون بديلا عن مسار جنيف ومرجعياته. ولذلك لا بد -بحسب الرؤية الروسية- من انخراط جدّي للنظام السوري في العملية السياسية، وتقديم تنازلات فعلية.
ومن هنا يبدو أن لقاء بوتين/الأسد نُظّم بشكل مستعجل كي يسبق قمة سوتشي الثلاثية، التي تهدف إلى تثبيت المشتركات السياسية والعسكرية للدول الثلاث بسوريا، ودورها في مواجهة المخططات الأميركية فيها.
وخلال قمتيْ سوتشي صرح بوتين بعبارات في غاية الأهمية؛ فأثناء لقائه الأسد ذكر العملية السياسية مرات عدة، وركز على مرجعية جنيف ومرجعية الأمم المتحدة، في رسالة واضحة للأسد بأن الحل السياسي لن يكون على طريقته، رغم أن الحل الروسي يلبي معظم احتياجاته.
وفي القمة الثلاثية؛ قال بوتين "إنه تم بلوغ مرحلة جديدة في الأزمة السورية، لكن الوصول إلى حل سلمي يتطلب تنازلات من كل الأطراف بمن فيهم الحكومة السورية"، وتلك رسالة موجهة إلى الطرفين التركي والإيراني:
فبالنسبة لأنقرة؛ فإن تقديم النظام السوري لتنازلات سياسية سيعزز ثباتها في المحور الروسي، وهي حاجة لا غنى لموسكو عنها في المرحلة المقبلة. وبالنسبة لطهران؛ فإن تصريح بوتين يضع قواعد للعمل على إيران الالتزام بها.
لكن هذه العبارة لم يكن ليقولها بوتين لولا حصوله على تنازل ما من الأسد، فهي أول مرة يتحدث فيها الرئيس الروسي بهذا الوضوح، ولعل اتصالاته مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب وأمير قطر تميم بن حمد والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز -عقب اللقاء- دليل على أن في جعبته جديدا.
عقبات أميركية
من نافلة القول إن زيارة الأسد لسوتشي وما نتج عنها من تصريحات سياسية، ستكون لها تداعيات إقليمية ودولية؛ فمثل هذا اللقاء سيصل صداه إلى العواصم المعنية بالشأن السوري، لا سيما واشنطن والرياض.
حتى الآن لا تزال طبيعة المبادرة الروسية غير معروفة، وكذلك حجم التنازل الذي تحدث عنه بوتين؛ لكن مخرجات قمة سوتشي الثلاثية وضحت الإطار العام للمبادرة:
رغم أنه لم يصدر موقف أميركي من هذه قمة سوتشي الثلاثية؛ فإن نتائج مؤتمر "الرياض 2" جاءت بمثابة الرد على قمتيْ سوتشي. فعلى خلاف المناخ الذي كان سائدا قُبيل انعقاد المؤتمر؛ جاءت مسوّدة البيان الختامي للمؤتمر مطابقة -بشكل كبير- لمخرجات مؤتمر "الرياض 1" |
1ـ الأسد سيكون جزءا من عملية التغيير السياسي من دون سقوف زمنية، أي من دون مرحلة انتقالية.
2ـ إصلاح سياسي يتضمن مشاركة المعارضة بعد تهجينها في الحكم، ودستور جديد، ومن ثم انتخابات حرة.
3ـ شرعنة الوجود الإيراني لضرورات مكافحة الإرهاب.
4ـ منح تركيا فرصة إضافية لتأمين مصالحها القومية في سوريا، وهو ما عبر عنه رئيسها رجب طيب أردوغان، دون أن يُفصح عن ذلك صراحة.
ورغم أنه لم يصدر موقف أميركي من هذه القمة؛ فإن نتائج مؤتمر "الرياض 2" جاءت بمثابة الرد على قمتيْ سوتشي. فعلى خلاف المناخ الذي كان سائدا قُبيل انعقاد المؤتمر؛ جاءت مسوّدة البيان الختامي للمؤتمر مطابقة -بشكل كبير- لمخرجات مؤتمر "الرياض 1".
ويتمثل هذا التطابق في مطالبتها بدولة ديمقراطية لامركزية إداريا، وبالحفاظ على مؤسسات الدولة وإعادة هيكلة المؤسستين الأمنية والعسكرية، وتأكيد التمسك ببيان "جنيف 1″ وبنوده، وبضرورة مغادرة الأسد في بداية المرحلة الانتقالية. وهذه المخرجات -التي تم التوافق عليها بين اللجنة التحضيرية للمؤتمر- كانت سببا في عدم مشاركة مجموعة المعارضة المعروفة بـ"منصة موسكو".
لكن، ما الذي تغير؟ إذ إن تصريحات المعارضة السورية قُبيل المؤتمر، وكلمة رياض حجاب بمناسبة تقديم استقالته قبل أيام، كلها توحي بأن مؤتمر "الرياض 2" سيشكل انعطافة فارقة في مصر المعارضة.
فهل أقدمت السعودية وحدها على اتخاذ قرار الحفاظ على المبادئ الأساسية للثورة السورية؟ أم إن هناك توجيها من واشنطن بذلك بعدما استشعرت المخطط الروسي؟
أغلب الظن أن هناك قرارا أميركياً برفع مستوى السقف السياسي، وهي رسالة واضحة منها لموسكو بأن قواعد اللعبة السياسية في سوريا لن تكون أبدا في يدها وحدها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.