لماذا سقطت أخلاق العرب.. حصار قطر نموذجاً

Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi (R) arrives with Arab leaders Sheikh Mohammed bin Zayed (C), Crown Prince of Abu Dhabi, and General Khalifa Haftar (L), commander in the Libyan National Army and members of the Egyptian military at the opening of the Mohamed Najib military base, the graduation of new graduates from military colleges, and the celebration of the 65th anniversary of the July 23 revolution at El Hammam City in the North Coast, in Marsa Matrouh, Egypt,

عرف العالم العربي -خلال الأربعين سنة الماضية- تحولا معرفيا وأخلاقيا غيّر موازين بنيته الثقافية، كما تغيرت فيه المفاهيم والقيم، وبات معيار التعامل الإنساني ينبني على جملة من الخصائص التي أثرت على علاقاتنا الإنسانية والدولية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا الوطن العربي وليس غيره، أو بمعنى أصح لماذا تغيرت معاييرنا الأخلاقية نحو الأسوأ؟ وهل الوطن العربي حاضنة طبيعية لهذا الاهتراء المعرفي والأخلاقي الذي ضرب الأمة خلال الأربعين سنة الماضية؟ أم إن المسألة عامة وليست موجهة أو خاصة بثقافة دون أخرى؟

نتفق جميعا على أن الوطن العربي والعالم الإسلامي حامل لمعيارية قيمية نبيلة، ورسالة حضارية لا أحد يستطيع أن ينازعه فيها، إلا أن قرون التخلف وكوارث الاستعمار وعدم الاستقلال الفعلي، جعلت الوطن العربي مادة لدراسة مأساة النخب والأنظمة التي مارست الحكم في أوطاننا طيلت الخمسين أو الأربعين سنة الماضية.

نتفق جميعا على أن الوطن العربي والعالم الإسلامي حامل لمعيارية قيمية نبيلة، ورسالة حضارية لا أحد يستطيع أن ينازعه فيها، إلا أن قرون التخلف وكوارث الاستعمار وعدم الاستقلال الفعلي، جعلت الوطن العربي مادة لدراسة مأساة النخب والأنظمة التي مارست الحكم في أوطاننا طيلت الخمسين أو الأربعين سنة الماضية

وخلال هذه الفترة تغيرت القيم السياسية والثقافية لمنظومة الفكر السياسي، وزاد تعميقَ الأزمة انهيارُ التعليم والمنظومة المعرفية والثقافية؛ فأثّر هذا على مجتمعاتنا العربية، وعلى أجيال كان يرسم لها هذا التوجه حتى لا تغير ما هو مطلوب تغييره لتصحيح مسار الصحوة الحضارية للأمة نحو الأفضل. وقد كان هذا حقيقة مطلبا تغيريا فاصلا في مجرى أحداث الارتقاء بحاضر ومستقبل هذه الكتلة الحضارية (الوطن العربي والإسلامي).

والربيع العربي لم يكن فقط ثورة سياسية على أنظمة حكم فاسدة ومهترئة، بل كان كذلك ثورة ثقافية حضارية ترنو إلى الارتقاء الأخلاقي، وتصحيح مسار هذا الجسد الحضاري العربي الذي أثخنته سنوات الاستبداد، فدمّر كل شيء من نظم سياسية وإدارية واجتماعية كان سببها هذه النخبة الفاسدة، التي تحملت مسؤولية إدارة سنوات التيه في صناعة القرار السياسي والحضاري في هذا الوطن.

فمنذ زيارة الرئيس السادات إلى القدس سنة 1977 بدأت فكرة الخلاص الفردي للنظام العربي، حتى وإن كان هذا الخلاص على حساب تسوية شاملة وعادلة للصراع العربي الإسرائيلي، تلبي حاجة العرب والمسلمين في محاولة لتقوية الموقف التفاوضي.

إلا أن المعيارية الأخلاقية الجديدة غيرت ثبات المواقف، وجعلت من اللهاث نحو الآخر -أي الغرب مستعمر الأمس- أداةً لدخول هذه الأنظمة بيت الطاعة الدولية، في مراجعة كاملة لثوابت الأمة كقضية تحرير مصيرها من استعمار النفوس، والاعتداد برموزها، ووحدة مصير قضاياها من المحيط إلى الخليج.

نعم مرت أربعون سنة من التاريخ السياسي للوطن العربي والإسلامي، تغيرت فيها القيم السياسية والثقافية فدخلنا مرحلة اهتراء معرفي لم تعرفه الأمة من قبل. وكان الربيع العربي نافذة أمل لتدارك ما مضى من زمن الركود والتخاذل، فخرجت فيه شعوب المنطقة لتحرير ما تبقى من همة النهوض نحو استعادة كرامة وعزة هذا الإنسان العربي المسلم، ومهدت لذلك أفكار الحرية والتعبير الجديدة.

وكانت قناة الجزيرة -من مقرها في الدوحة– نبراسا لأمل جديد يُخرج هذا الإنسان العربي المسلم من تيه الاستبداد وتكميم الأفواه، إلى إرساء ذاتية جديدة لمواطن عربي جديد يحمل إرث هذه القيم الفاضلة التي عاشت معه، وحاولت أنظمته السياسية البالية طمسها.

لا أحد كان يستطيع أن يتصور إمكانية هذا الانبعاث لولا الرؤية الإستراتيجية، والتصميم على الخروج من مألوف الركود والتكلس، ولولا الإصرار النبيل من صانع القرار القطري آنذاك (أمير البلاد السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني) على رسم خريطة العمل الإصلاحي.

أغدقت أنظمةُ دول الحصار المالَ على كل أشرار هذا العالم لنسف أحلام الربيع العربي، بدءا بنسف التجربة الديمقراطية المصرية وحرق آمالها في ميدان رابعة وميدان النهضة، إلى تسفيه قوى الثورة والإصلاح في تونس، مرورا -بطبيعة الحال- بتشتيت جهود الإصلاح السياسي في ليبيا بعد ثورة أطاحت بنظام مجرم

بدأ هذا العمل الإصلاحي بحراكه الإعلامي وما مثلته الجزيرة وتفرعاتها من إعادة رسم أخلاقية جديدة في التعامل بندية مع الآخر (الغرب)، وكسر حاجز العُقد والخوف الذي كان مسيطرا على قدرات الإنسان العربي المسلم، مما جعله قادرا على أن يقارع بامتياز ما وصل إليه العالم المتقدم من تطور.

كانت توليفة المال والرؤية الإستراتيجية والحرية أبرز ما ميزت هذه الثورة الثقافية، التي قادها صانع القرار السياسي القطري فأعاد بها رسم آفاق النهضة الحضارية العربية بأخلاقيات جديدة، وحّد فيها كل الطاقات العربية وغير العربية للبحث عن النافع والمفيد في بناء دولة ناهضة، وربطها بضرورة إحياء الأمة وانتشالها من الركود الحضاري والأخلاقي الذي كان لا بدّ من أن يعالَج.

وهذا -في تصوري- سبق به العقلُ السياسي القطري كلَّ نظرائه الذين كانت لهم نفس القدرات المالية أو البشرية، بل وأكثر منه؛ إلا أن صانع القرار في السعودية والإمارات لم يفهم ضرورات المرحلة، فبقي أسير عقلية شراء الذمم والنفوس في تحدٍّ لأخلاق وأعراف المنطقة.

أغدقت أنظمةُ دول الحصار المالَ على كل أشرار هذا العالم لنسف أحلام الربيع العربي، بدءا بنسف التجربة الديمقراطية المصرية وحرق آمالها في ميدان رابعة وميدان النهضة، إلى تسفيه قوى الثورة والإصلاح في تونس، مرورا -بطبيعة الحال- بتشتيت جهود الإصلاح السياسي في ليبيا بعد ثورة أطاحت بنظام مجرم.

لم يشفع لقطر انتماؤها إلى المنظومة السوسيولوجية الخليجية الراسخة في أخلاقيات معروفة، فأدى ضرب نسيج هذه الوحدة القيمية الرمزية إلى فرض للحصار على دولة شقيقة في شهر رمضان، وتشتيت للعوائل، وخنق متعمد للشعب القطري.

وعندما رأت دول الحصار أن كل هذه الإجراءات لم تكن كافية لتركيع صانع القرار القطري، نظرا لصلابة الجبهة الداخلية القطرية، ورسوخ وطنية شعبها؛ غيّرت هذه الدول -مستمرة في مسلسل السقوط الأخلاقي- الخطة إلى شن حرب على كل من يساند قطر حتى ولو بالهمس، ولو أمكن لحاولت دخول قلب وعقل كل حر وشريف من أبناء الخليج العربي الواحد.

فحصار قطر الظالم سبقته رؤية إستراتيجية قطرية حكيمة وطموحة، أرادت أن تجعل من العرب والمسلمين أفرادا مساهمين بندّية في القرن الواحد والعشرين، الذي دخلت فيه الأمم تتنافس على القيادة الحضارية والثقافية وحتى الرياضية، فكانت هذه النجاحات -بما فيها شرف احتضان كأس العالم2022- فاتحة لأبواب حسد الحاسدين وناشري الأراجيف، حتى من أقرب الجيران.

حصار قطر الظالم سبقته رؤية إستراتيجية قطرية حكيمة وطموحة، أرادت أن تجعل من العرب والمسلمين أفرادا مساهمين بندّية في القرن الواحد والعشرين، الذي دخلت فيه الأمم تتنافس على القيادة الحضارية والثقافية وحتى الرياضية، فكانت هذه النجاحات -بما فيها شرف احتضان كأس العالم 2022- فاتحة لأبواب حسد الحاسدين وناشري الأراجيف

وتلك ثقافة أخلاقية لم تعرفها المنطقة، لكن دول الحصار حاولت عبرها اختلاق التشويش، وتنكيس الجهود الجبارة لصانع القرار الرياضي في قطر، وإحراجه مع السلطات الرياضية الدولية (مثل الفيفا)، وتواصل هذا التشويش حتى على مستوى إثارة القلاقل القانونية الزائفة في مدى أحقية ونصاعة سجلها الحقوقي، في مجال تعاملها مع حقوق المقيمين في الشغل الكريم.

وقد توصلت منظمة العمل الدولية إلى تبرئة موقف قطر من ابتزاز عمالها، وشكرتها على التعامل السريع والجدي معها في تسوية هذا الملف، الذي سبقت فيه دولة قطر العديد من دول الحصار في تحدٍّ ثوري لكل صور الظلم.

ولن نستطيع أن نفهم السقوط الأخلاقي لدول الحصار دون أن نتمعن ما جرى في عملية الانتخابات التي شهدتها مؤخرا منظمة اليونسكو، وسجل فيها التاريخ محطة هامة كشفت الاهتراء الأخلاقي المدوي للإمارات والسعودية وتوابعهما، بما أبدوه من فرح بخسارة المرشح القطري الذي انتصر بأخلاقه في معركة ثقافية وحضارية، أحرجت خصومه وسفهت دول الحصار.

ويجدر بنا كذلك ألا ننسى أن هذا السقوط القيمي -الذي أبانته أزمة حصار قطر– أصاب المنظومة الخليجية (رسمية كانت أو اجتماعية أهلية)، ولن تخرج سالمة منه. بل إن هذه الأزمة أسقطت الأقنعة الزائفة التي كانت تتمظهر بها هذه الوجوه، بما فيها رموز الفن الخليجي الذي طالما تغنى بتميزه، فسقط هو كذلك في الإسفاف والتشنيع الفني عندما انقاد للتنابز حتى بالأغاني التي قدحت في قطر.

وفي المقابل؛ تخرج دولة قطر (قيادة وشعبا) بعلو أخلاقي ومعرفي، والتزام شعبي عبرت عنه رفعة أخلاق هذا الشعب العربي الخليجي المسلم، مما جلب له تعاطف كل العرب والمسلمين وأحرار العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.