أوروبا في زمن ترمب

U.S. President Donald Trump leaves the Great Hall of the People in Beijing, China November 9, 2017. REUTERS/Damir Sagolj

يبدو أن التحالف عبر الأطلسي -الذي أسَّس عقودا من الزمن للاستقرار العالمي، وحَصَّن الديمقراطية، وصان الغرب كما نعرفه- أصبح خاضعا لضغوط شديدة، وبات مهددا بالانهيار إلى الأبد.

ولا شك أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب -الذي دأب على تحدي تحالفات أميركا التقليدية، بما في ذلك عبر الهجوم على حلف شمال الأطلسي (الناتو)- يتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية عن هذا التدهور. ولكن أوروبا ساهمت في هذه الحال بتقاعسها، والآن يتعين عليها أن تساهم في إصلاحها.

لا شك أن الوعكة التي يمر بها الغرب ناجمة عن تحديات حوكمة الاقتصاد التي خلقتها العولمة ولا تزال بلا حلّ. وتشتد حدة هذه التحديات في الاتحاد الأوروبي، حيث منع الشلل السياسي الحكومات من تنفيذ كامل الإصلاحات اللازمة، للتغلب على الأزمة الماليةالتي اندلعت قبل عشر سنوات.

لا شك أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب -الذي دأب على تحدي تحالفات أميركا التقليدية، بما في ذلك عبر الهجوم على حلف شمال الأطلسي (الناتو)- يتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية عن التدهور الذي أصاب علاقات أطراف حلف الناتو، ولكن أوروبا ساهمت في هذه الحال بتقاعسها، والآن يتعين عليها أن تساهم في إصلاحها

يتفق القادة الأوروبيون على أن الهيكل المؤسسي الحالي في منطقة اليورو معيب، وهم يعرفون ماذا يتعين عليهم أن يفعلوا. ولكن تظل آفة الجمود متمكنة منهم، ويقيد الاتجاه المحافظ حركتهم، وتشغلهم السياسة الداخلية، ويسمح العديد من القادة لأنفسهم بالوقوع رهينة للتشكك الشعبوي في أوروبا.

وقد فشلوا نتيجة لهذا في اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان استقرار الاتحاد الأوروبي في الأمد البعيد، بما في ذلك الاتحاد المصرفي الكامل لدعم الموارد المالية الأوروبية، ونظام حقيقي للحوكمة الاقتصادية على نطاق الاتحاد الأوروبي بالكامل.

بيد أن غياب رئيس أميركي مقنع ومستعد وقادر على تشجيع الاتحاد الأوروبي على إحراز المزيد من التقدم نحو التكامل؛ يجعل الأمور أكثر تعقيدا. ولكن يتعين على القادة الأوروبيين أن يتحملوا المسؤولية عن تصلبهم، ويتخذوا التدابير اللازمة لإنقاذ الاتحاد.

الخبر السار هنا هو أن الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي تحسن بشكل ملحوظ منذ صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران 2016، الأمر الذي أتاح الفرصة لإحداث إصلاح حقيقي. ولكن نافذة الفرصة لن تظل مفتوحة لفترة طويلة. وحتى الآن، فشل قادة الاتحاد الأوروبي في الاستفادة من الدعم المتجدد للمشروع الأوروبي لعرض الحجج الداعمة للتغيير.

هذا لا يعني أن الخطوات الإيجابية غائبة تماما؛ ففي تناقض مرحَّب به مع نزوع ترمب الجاهل نحو فرض تدابير الحمائية، واصل الاتحاد الأوروبي دفع عجلة التجارة الحرة عبر إبرام اتفاقيات تجارية مع كندا واليابان، وفتح المفاوضات مع أستراليا، وكتلة "ميركوسور" في أميركا اللاتينية، ونيوزيلندا.

ونظرا لقدرة الاتفاقيات التجارية الأوروبية على المساعدة في ضمان اتخاذ نهج أكثر تقدمية في التعامل مع قضية العولمة -وهو أمر بالغ الأهمية لإنقاذها- فإن تكثيف مثل هذه الجهود ضرورة أساسية. ولكن من الأهمية بمكان تحويل التركيز من التجارة الحرة إلى التجارة العادلة.

ولابد أن يكون أداء قادة أوروبا أفضل في التواصل مع المستفيدين المحتملين من اضطلاع الاتحاد الأوروبي بوضع قواعد التجارة العالمية. وينطبق الأمر نفسه على المجالات الأخرى حيث يُبدي الاتحاد الأوروبي زعامته القيمة.

فعلى سبيل المثال، تقود المفوضية الأوروبية الطريق نحو كبح جماح إساءة استخدام انفتاح الحساب الرأسمالي، وبشكل خاص عبر الحد من التهرب الضريبي من جانب الشركات المتعددة الجنسيات داخل الاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى.

وينبغي للقادة الأوروبيين أن يعملوا على إبراز هذه الجهود. فبعد مرور ما يزيد على العام قليلا -منذ أكدت "أوراق بنما" حجم التهرب الضريبي من قِبَل أثرياء العالم- جاء إطلاق ما يسمى "أوراق الفردوس" ليفضح مرة أخرى أولئك الذين ضخوا مبالغ طائلة في ملاذات ضريبية آمنة بالخارج، بما في ذلك عدد كبير من الوزراء في حكومة ترمب.

والآن حان الوقت لكي يعكف الاتحاد الأوروبي على وضع سجل عام كامل لمالكي الائتمان المستفيدين، في حين يضاعف جهوده في سبيل الإصلاح العالمي. ومن الخطوات الأخرى الإيجابية التي من المتوقع أن يتخذها الاتحاد الأوروبي هذا الشهر -في إطار قمة غوتنبرغ الاجتماعية- إقرار الدعامة الأوروبية للحقوق الاجتماعية من قِبَل المجلس الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، والبرلمان الأوروبي.

لا تملك أوروبا أي اختيار سوى التحرك الآن؛ فعلى نحو شبه يومي، تظهر أدلة جديدة تشير إلى أن ترمب يظل ملتزما بنهج "أميركا أولاً"، الذي يتبرأ من دور الولايات المتحدة التقليدي بوصفها المدافع الرئيسي عن الديمقراطية الليبرالية. وسيواصل الشعبويون المنتمون إلى اليمين والأنظمة الاستبدادية  مساعيهم الرامية لاستغلال فراغ الزعامة العالمية

تركز الدعامة الأوروبية للحقوق الاجتماعية على ضمان تكافؤ الفرص، والقدرة على الوصول إلى سوق العمل، وظروف العمل العادلة، والحماية الاجتماعية والإدماج. وهنا أيضا لا بد من أن تكون الدعاية لهذه الجهود -التي تدحض الادعاءات بأن الاتحاد الأوروبي ليس سوى نادٍ للنخب الرأسمالية النيوليبرالية- أكثر فعالية.

إذا أخفق الاتحاد الأوروبي في اغتنام الفرصة لتنفيذ الإصلاحات الفعّالة، فقد تستعيد الاتجاهات السياسية غير الليبرالية داخل الكتلة قوتها، وخاصة إذا سُمِح للدول الأعضاء التي تتحرك فعلا في هذا الاتجاه (تحديدا بولندا والمجر) بالاستمرار في مسارها الحالي.

وخارج حدود الاتحاد الأوروبي؛ يتعين على قادة الكتلة أن يسارعوا إلى عرض نوع جديد من العلاقات -لا يقوم في نهاية المطاف على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي- على تركيا، حيث ركز الرئيس رجب طيب أردوغان السلطة السياسية بين يديه.

لا تملك أوروبا أي اختيار سوى التحرك الآن؛ فعلى نحو شبه يومي، تظهر أدلة جديدة تشير إلى أن ترمب يظل ملتزما بنهج "أميركا أولاً"، الذي يتبرأ من دور الولايات المتحدة التقليدي بوصفها المدافع الرئيسي عن الديمقراطية الليبرالية.

وسيواصل الشعبويون المنتمون إلى اليمين والأنظمة الاستبدادية -في أوروبا وغيرها- مساعيهم الرامية لاستغلال فراغ الزعامة العالمية الناتج عن انسحاب أميركا. والسبيل الوحيد لحماية النظام العالمي الليبرالي هو أن تتقدم قوى أخرى -بدءا بالاتحاد الأوروبي- لشغل هذا الفراغ.

يتعين على قادة العالَم أن يقاوموا ضغوط القَبَلية السياسية القصيرة الأجل، وأن يتصدَّوا للتحديات الجيوسياسية والاقتصادية التي تنتظرهم. وسيفشل الشعبويون وأنصار تدابير الحمائية -من اليمين واليسار- حتماً في الوفاء بوعودهم التبسيطية. ولكن لا بد من أن تكون القوى الوسطية والتقدمية في أوروبا جاهزة ومستعدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.