إيران وترمب والاتفاق النووي.. إلى أين؟

كومبو يجمع الرئيس الإيراني حسن روحاني والرئيس الأميركي دونالد ترمب

ترمب والاتفاق النووي
طهران وتفادي المبادرة
السيناريو الأقوى رجحانا 

تتحرك الدول تحقيقاً لمصالحها الوطنية أو ذوداً عن أمنها القومي، وتأتي سياستها الخارجية امتداداً لسياستها الداخلية وتطبيقاً لفهمها للمصلحة القومية والأمن القومي. وتتغيّر السياسة الخارجية إما بتغيّر في محيط الدولة المعنية أو لطارئ يأتي على الحسابات السالفة للأمن والمصلحة القوميين.

فقد رجّحت النخب الحاكمة في إيران بناء علی فهمها لمصلحة إيران القومية توقيع وتطبيق الاتفاق النووي منذ يوليو/تموز 2015. كما أولت الإدارة الأميركية السابقة التوصل لتسوية سلمية لملف البرنامج النووي الإيراني اهتماماً، نبع من فهمها لمصلحتها القومية باعتبارها الدولة الراعية للنظام الدولي.

ترمب والاتفاق النووي
بعد مرور أقل من عامين على توقيعه؛ دخل البيتَ الأبيض رئيسٌ يعادي الاتفاق النووي ويعتبره الأسوأ من نوعه. ومن المهم فهم سياسة ترمب تجاه الاتفاق النووي وإيران لقراءة المستقبل؛ فعلی خلاف الإدارة السابقة، يُرجح ترمب التهديد والضغط بغية إجبار إيران علی التنازل والتراجع، لكن لا مكمل لتلك السياسة حتی الآن.

فالإدارة السابقة استخدمت العقوبات المعطِّلة (crippling sanctions) أداة لإخضاع إيران للتفاوض بغية فرض قيود علی ملفها النووي، والمكمل كان إيقاف العقوبات النووية الأحادية والدولية.

بعد مرور أقل من عامين على توقيعه؛ دخل البيتَ الأبيض رئيسٌ يعادي الاتفاق النووي ويعتبره الأسوأ. ومن المهم فهم سياسة ترمب تجاه الاتفاق النووي وإيران لقراءة المستقبل؛ فعلی خلاف الإدارة السابقة، يُرجح ترمب التهديد والضغط بغية إجبار إيران علی التنازل والتراجع، لكن لا مكمل لتلك السياسة حتی الآن

ورغم اختلاف الرؤی بشأن أسباب قبول إيران (هل هو إلغاء العقوبات أو عدول الولايات المتحدة عن سياسة تغيير النظام)؛ فقد قبلت طهران بالتفاوض أداة لتحقيق الهدفين، أي أن مكمّل السياسة الأميركية شجّع طهران علی التفاوض وتوقيع الاتفاق.

بينما لا تأتي الإدارة الأميركية الجديدة في سياستها الإيرانية -التي أعلنها الرئيس دونالد ترمب في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2017- بمكمل يشجع إيران، أو حتى يقنع حلفاء واشنطن الأوروبيين بنجاعة السياسة الجديدة. وليس بمقدورها حتی إقناع شركائها في الداخل بصحة قراءتها الجديدة لمصلحة الولايات المتحدة القومية بشأن إيران.

أضف إلی ذلك أن هذه السياسة تعود إلى الوراء بالحوافز التي دفعت طهران للقبول بالتفاوض علی ملفها النووي؛ فها هو وزير الخارجية الأميركي ركس تيلرسون يتبنی علناً سياسة تغيير النظام في إيران، ولم تكن تلك سياسة معلنة لأي من الإدارات السابقة. وها هو الرئيس ترمب يتحدی الاتفاق مطالباً الكونغرس بإعادة فرض عقوبات علی إيران، ويتكلم عن تعديل الاتفاق أو نسفه.

لقد تغيّرت إذن سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران بشكل جذري. ورغم ندرة التغيير الجذري فإن الطارئ حدث في الولايات المتحدة بتتويج ترمب رئيساً، آتياً بمفهوم مختلف لمصلحة الولايات المتحدة القومية في سياستها تجاه إيران.

ولكن، ماذا عن إيران المستهدفة؟ وكيف ستتعاطی مع هذا الموقف المستحدَث؟ وكيف ستنسج سياستها مع إدارة أميركية معادية؟

ترد مجموعة من النخب الإيرانية علی هذه التساؤلات، وثمة نقاش مستمر حول السبيل الأمثل لذلك. وقد شجع رد الاتحاد الأوروبي -المفنّد لادعاء ترمب عدم التزام إيران بالاتفاق- النخبَ الداعية لتبنّي سياسة دولية مواجهة لتفرّد ترمب والتعويل علی عزله دوليا. إلا أن الرد الأقوی والأوضح أتي علی لسان المرشد الأعلی علي خامنئي بقوله "إن نقضوا (أي الأميركان) الاتفاق فسنمزقه نحن".

طهران وتفادي المبادرة
والواضح أن السياسة الإيرانية ستأتي رداً علی السياسة الأميركية الجديدة تجاه الاتفاق النووي، وستتفادی طهران المبادرة في هذه المرحلة بغية عدم المجازفة بإعلانها الطرف الناقض للاتفاق، وثمة ثلاثة أسباب لذلك:

الأول، أن أكبر إنجاز لإيران نتج عن توقيعها الاتفاق النووي هو إلغاء العقوبات الدولية وإخراج الملف النووي الإيراني من مجلس الأمن، ولا تريد طهران المجازفة بهذا الإنجاز بإعلانها الطرف الناقض للاتفاق. فسيُسهّل أي نقض إيراني للاتفاق مهمة الإدارة الأميركية الساعية لإعادة الملف النووي إلی مجلس الأمن.

الثاني، أن الرئيس ترمب واجه معارضة مهمة من قبل حلفائه والأطراف الموقعة علی الاتفاق بعد عدم مصادقته علی التزام إيران به، ومثّل ذلك انتصارا أخلاقياً لإيران علی إدارة ترمب. ولا تريد طهران خسارة هذا الموقف الدولي أمام تشدد الإدارة الأميركية الجديدة.

الرئيس ترمب واجه معارضة مهمة من قبل حلفائه والأطراف الموقعة علی الاتفاق بعد عدم مصادقته علی التزام إيران به، ومثّل ذلك انتصارا أخلاقياً لإيران علی إدارة ترمب. ولا تريد طهران خسارة هذا الموقف الدولي أمام تشدد الإدارة الأميركية الجديدة

الثالث، أن الإدارة الجديدة تبحث عن ربط الملف النووي بملفات أخری تشمل قدرات إيران الصاروخية وسياستها الإقليمية. وأي تحرّك إيراني يُلقي باللوم علی طهران -باعتبارها الطرف غير الملتزم- سيبرر قبول الأطراف الدولية بالسياسة الأميركية الجديدة. وإيران في غنی عن ذلك.

حتی الآن يُبدی الطرفان التزامهما بالاتفاق ويحاول كل منهما إلقاء اللوم علی الآخر واعتباره الطرف غير الملتزم، ومن هنا ينبع الحديث عن روح الاتفاق؛ فأمام التزام إيران بـ"نص الاتفاق"، تتكلّم إدارة الرئيس ترمب عن عمل إيران ضد "روح الاتفاق".

والواضح أن المجتمع الدولي والأطراف الموقِّعة علی الاتفاق لا تبتاع تلك السردية عن الاتفاق، فالاتفاق واضح المعالم والحدود. ولذلك من المستبعد أن يؤدي الشد والجذب بشأن "روح الاتفاق" إلی زيادة قبول المجتمع الدولي، وتلك حجة عوّلت عليها إيران قبل ترمب دون نتيجة تُذكر.

الواضح أن الالتزام بالاتفاق النووي أو عدمه يبقی هو المحور الذي يمكننا من استشراف المستقبل. ولأن إيران لن تُبادر إلی اتخاذ سياسة جديدة وستأتي بردود محتملة علی السلوك الأميركي، تبقی سياسة إدارة ترمب محورية في التطورات المستقبلية. فثمة عنصرا عدم قطعية يمكن اعتبارهما محاور في قراءة المستقبل.

العنصر الأول هو التزام الإدارة الأميركية بالاتفاق أو عدم التزامها به. والعنصر الثاني هو فرضها لعقوبات مناقضة لنص الاتفاق أو الاستمرار دون فرض عقوبات كهذه. وبناء علی هذين العنصرين يمكن رسم أربعة سيناريوهات:

– السيناريو الأول، أن تلتزم الولايات المتحدة بالاتفاق ولا تقوم بفرض عقوبات تناقض نصه. ورغم ابتعاد إدارة ترمب عن هذا السيناريو بخطی مضطربة؛ فإنه يبقی السيناريو الأمثل إيرانياً كما لدی باقي الشركاء الدوليين الموقعين علی الاتفاق.

وفي هذا السيناريو ورغم استمرار عداء واشنطن لسياسة إيران الإقليمية ومحاولتها تقزيم دور إيران الإقليمي وقوتها الصاروخية؛ فإن الأرجح هو أن يبقی التزام إيران بالاتفاق مع مجابهتها سياسات واشنطن في الإقليم. وأن تستمر الولايات المتحدة في فرض عقوبات علی إيران بسبب باقي ملفاتها الإقليمية والداخلية. إلا أن الاتفاق سيُبقي علی شعرة معاوية الرادعة للتصعيد العسكري بين الجانبين.

السيناريو الأقوى رجحانا
– السيناريو الثاني، أن تلتزم الولايات المتحدة لفظياً بالاتفاق إلا أنها تقوم بفرض عقوبات تأتي مناقضة لنص الاتفاق. وهذا السيناريو هو الأقرب لواقع السياسة الأميركية حتی الآن، لكنه بالتأكيد ليس سيناريو مفضلا لدى باقي الموقعين علی الاتفاق.

وستقوم إيران -في تلك الحالة- بمطالبة اللجنة المشتركة (المكلفة بمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق النووي الإيراني) بعقد جلسة لتقديم حججها ضد سلوك الولايات المتحدة المناقض للاتفاق. وستتمخض الجلسة عن إعلان انتهاك الولايات المتحدة للاتفاق، مزودة طهران بالحجة القانونية لمقاضاتها دوليا. ومع استمرار دعم المجتمع الدولي لحجج إيران أمام واشنطن، فإن إيران ستبقی علی الأرجح ملتزمة بالاتفاق.

بشكل عام، تبدو إدارة الرئيس ترمب حبیسة لخطابها المعادي للاتفاق النووي ولإيران، ولذلك فهي في وضع صعب. إذ ليس بمقدورها جرّ إيران للقيام بانتهاك الاتفاق النووي.

– السيناريو الثالث، أن ترفض واشنطن الاستمرار في الالتزام بالاتفاق -كما وعد بذلك الرئيس ترمب- وتقوم بفرض عقوبات مناقضة له. ويعني هذا السيناريو نسف الاتفاق وهو أمر مرفوض من قبل كل الموقعين علی الاتفاق ما عدا الولايات المتحدة؛ فهو الخيار المحبذ لدی أطراف في واشنطن تعمل علی تقويض الاتفاق.

وفي تلك الحالة أيضاً؛ ستراجع إيران اللجنة المشتركة وبعد التأكيد علی عدم التزام الولايات المتحدة وإلقاء اللوم في نسفه عليها، تُنهي طهران التزامها بالاتفاق النووي.

وإن طلبت الدول الأوروبية إمهالها وقتاً لإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق أو للحد من تأثير خروجها علی عوائد إيران الاقتصادية من تنفيذ الاتفاق؛ فإن طهران قد تجد في ذلك خياراً لا ضير فيه إلی حين. إلا أن الخروج يبقی مرجحاً إما بشكل سريع أو بعد الإمهال السالف الذكر. 

– السيناريو الرابع هو الأقل رجحاناً، وفيه ترفض الولايات المتحدة الاستمرار في الاتفاق إلا أنها لا تفرض عقوبات مناقضة له. لكنّ تحمّل الولايات المتحدة لوم المجتمع الدولي لتراجعها عن التزاماتها الدولية -دون الإتيان بعقوبات علی إيران- سياسة بعيدة عن عقلية مجابهة إيران.

ستكون خيارات إيران أمام هذا السيناريو قريبة من خياراتها أمام السيناريو الثالث، مع فارق أن إمهالها الاتحاد الأوروبي فرصته كبرى لعدم فرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة، وسيكون ذلك أقرب من ترجيح طهران الانسحاب بشكل متسرّع، لأنها تريد تفادي فرض عقوبات جديدة عليها بسبب ذلك. 

بشكل عام، تبدو إدارة الرئيس ترمب حبیسة لخطابها المعادي للاتفاق النووي ولإيران، ولذلك فهي في وضع صعب. إذ ليس بمقدورها جرّ إيران للقيام بانتهاك الاتفاق النووي بغية إعادة الإجماع الدولي ضدها، لكنها لا تستطيع العدول عن خطابها المعادي لإيران دون فعل شيء يحفظ مصداقية الرئيس. كما أن انسحابها من الاتفاق أو فرض عقوبات تناقض نصه سيأتيان علی مصداقية الولايات المتحدة لدی حلفائها وأعدائها علی حد سواء.

وفي المقابل؛ توجد إيران أيضاً في وضع حرج، فالعداء الأميركي يحد من عوائد الاتفاق النووي الاقتصادية والمالية، وليس بمقدور طهران التنصّل من التزاماتها النووية دون مواجهة تداعيات خطيرة. وفي وضع كهذا، تبقی طهران في انتظار أخطاء إدارة ترمب لاستثمارها دولياً وإقليميا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.