العراق "الجديد".. مرة أخرى

Saudi Arabia's King Salman bin Abdulaziz Al Saud welcomes Iraqi Prime Minister Haider Al-Abadi in Riyadh, Saudi Arabia October 21, 2017. Bandar Algaloud/Courtesy of Saudi Royal Court/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

كل دول المحيط العربي والإقليمي -باستثناء إيران– تريد للعراق أن يعود قويا معافى ليحقق التوازن المطلوب في الشرق الأوسط والعالم، بعد أن غُيّب عن المشهد السياسي والإستراتيجي جزئيا بدءا من عام 1990 ثم كليا منذ 2003.

وللحقيقة التاريخية؛ يجب القول والاعتراف بأن المحيط العربي تحديدا كان السبب الأبرز في عزل العراق، وإغفال الرؤية الإستراتيجية لدوره المحوري في كل مجريات الأمور وتفاعلاتها بالمنطقة، سواء أكان هذا بعد غزو العراقللكويت 1990، أم بعد الجهود الحثيثة والأموال الطائلة والتنازلات غير المسبوقة التي قدمتها دول عربية بعينها للقوى الإمبريالية.

وذلك من أجل الإطاحة بنظام الحكم في العراق، لا بل واجتثاث أي صورة من صوره، دون أدنى حساب إستراتيجي لتداعيات هذا الأمر عليهم وعلى الإقليم والأهم على العراق ذاته.

الجميع يعلم أن العراق بعد أن احتلته الولايات المتحدة وبريطانيا في ربيع 2003، كان يوسم بـ"العراق الجديد"؛ وسعت وسائل الإعلام بكل توجهاته الخليجية (باستثناء قناة "الجزيرة") وكذلك نظيرتها العربية الموالية للغرب أو المعادية لنظام صدام حسين، وبعض الإعلام الغربي؛ إلى إبراز الهالة الوردية والصورة الديمقراطية المشرقة التي سيتسم بها هذا النظام الجديد، لأنه باختصار سيكون مصنوعا بإشراف وتخطيط أميركي مباشر.

العراق بعد أن احتلته الولايات المتحدة وبريطانيا في ربيع 2003، كان يوسم بـ"العراق الجديد"؛ وسعت وسائل إعلام عربية كثيرة موالية للغرب أو معادية لنظام صدام حسين، وبعض الإعلام الغربي؛ إلى إبراز الهالة الوردية والصورة الديمقراطية المشرقة التي سيتسم بها هذا النظام الجديد، لأنه باختصار سيكون مصنوعا بإشراف وتخطيط أميركي مباشر

ويعني ذلك أنه سيكون أنموذجا للديمقراطية الحقة في الشرق الأوسط، حتى إن الكثير من الأنظمة الشرق أوسطية تسلل الخوف إلى كياناتها، بعد أن بدأت تصدر من واشنطن ولندن وسواهما إشارات لها بعدم "ديمقراطيتها" في إدارة الحكم.

تلك المرحلة ما زالت مستمرة بطبيعة الحال، وقد عرف الجميع الآن بطلان جميع فرضياتها وتطبيقاتها على أرض الواقع في العراق، حتى إن الكثير من الباحثين الإستراتيجيين ومراكز الدراسات والساسة المخضرمين، يصفون العراق بـ"الدولة الفاشلة"؛ بسبب الإخفاق الشامل -على كل صُعُد الإدارة والأمن والقضاء- واستشراء الفساد.

وأيضا بسبب إحلال سلطة "الإيراني" (المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران) محل سلطة "العراقي" (صدام حسين)، وممارسة عقد التاريخ القديم والحديث بحق أبناء شعب وادي الرافدين دون استثناء لأحد، وإن بدا بشكل واضح السمة الطائفية البحتة لنظام الحكم هناك.

وبعد إصرار رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني على إجراء استفتاء الانفصال عن العراق في 25 سبتمبر/أيلول الماضي، والتداعيات التي أعقبت هذا الاستفتاء بطريقة درامية ومرسومة بعناية؛ بدا أن العراق يمضي إلى سيناريو جديد ليس من إعداده، بل هو من ضرورات العلاقات الإقليمية المتوترة بين الرياض وطهران، وكذلك رياح التصعيد الأميركي تجاه سياسات إيران الداعمة للإرهاب في المنطقة.

نعم، فالسعودية -التي تظن قيادتها أن العراق يمكن جذب ساسته من ساحة النفوذ الإيراني إلى العمق العربي، وبالتالي توظيف هذا الأمر لصالح تشذيب الهيمنة الإيرانية على العراق أولا وبقية أجزاء المشرق العربي لاحقا- قامت بإبداء مرونة كبيرة تجاه حكومة حيدر العبادي، وقدمت له الكثير من عروض الدعم السياسي والمالي.

وقد بلغ الأمر ذروته بإنشاء مجلس التنسيق السعودي العراقي، وحضر الملك سلمان بن عبد العزيز و ورئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي مراسم الإعلان الرسمي، بوجود وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، لتتجاوز العلاقة بين البلدين حدود العلاقات الدبلوماسية التقليدية إلى ما وصفه مختصون بأنه "ظاهرة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة، بين بلدين يمتلكان أكبر الاحتياطات النفطية في الشرق الأوسط".

مؤخرا، حققت القواتُ العراقيةُ المختلفةُ التشكيلاتِ نجاحاتٍ كبيرةً على أرض الواقع، سواء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي، أو فيما يتعلق بإعادة بسط سيطرة الدولة العراقية وهيبتها على المناطق المتنازع عليها، واستردادها من قبضة قوات البشمركة الكردية بعد إفشال عملية استفتاء كردستان بالمطلق.

وقد تحرك العبادي إثر ذلك -بشكل لافت- دوليا وإقليميا ليحصل على مزيد من النقاط الإيجابية لصالح دعم حكومته، وتقويض القوى التي تريد إزاحته عن سدة القرار فيها؛ فكانت زياراته لباريس والرياض والقاهرة وعمان وأنقرة، ثم طهران التي أعلن منها إستراتيجيته لإعادة "جميع المناطق لسلطة الدولة".

والسؤال الذي ربما يطرحه الجميع هو: هل ستكون قرارات أو تحركات العبادي نافذة بشكل ثابت ومستمر سواء داخل العراق أو مع من يوقع معهم اتفاقات أو ينشئ بمعيتهم مجالس للتنسيق أو لإدارة العمليات؟

يرى مركز "جيوبوليتيكال فيوتشرز" الأميركي في موضوع تطور العلاقات بين العراق والسعودية أنه "من غير المحتمل أن تؤتي جهودُ المملكة ثمارَها في ظل المناخ الإقليمي الطائفي الشديد الاستقطاب، والجماعات الشيعية العراقية هي الطرف المستفيد من هذه العلاقة مع الرياض، حيث يمنحها الانخراط مع السعودية اعترافا بنفوذها في العراق".

الجميع يتطلع إلى أن تكون تحركات رئيس مجلس الوزراء العراقي وإعادة علاقات العراق مع محيطه العربي؛ طوقَ نجاة لهذا البلد، الذي لم يبق لديه من الخيارات إلا تلك المرتبطة بالعودة إلى حاضنته الطبيعية، والتي يشكل هو ذاته أحد أهم أعمدتها. ولعل الرياض وسواها يراهنون على استغلال الخلافات داخل القيادات الشيعية، وتململ المجتمع الشيعي العراقي تجاه إيران

آخرون يرون في تحرك العراق صوب أشقائه العرب مناورة إيرانية لإبقاء المجال الحيوي لإيران مفتوحا إذا ما تطورت الأمور بشكل سلبي أكبر مع واشنطن، وذلك باعتبار العراق -بوضعه الحالي وقياداته الراهنة- واقعاً تحت ضغط كبير من القوى العراقية ذات الولاءات الإيرانية الصرفة، والتي تشكل رأس حربة في موضوع التصدي "للوهابية" السعودية والقومية العربية، حتى يتم تحقيق آمال وطموحات القائمين على مشروع تصدير الثورة الإيرانية الإسلامية إلى عموم المنطقة.

ربما تكون بعض المخاوف في محلها وبعضها الآخر مبالغا فيه، خصوصا منح إيران هذه القدرة الخارقة على التحكم في مجريات الأمور؛ لكن ما يمكن اعتماده حقيقة -بالتجربة والممارسة الفعلية- هو أن مشروع العراق "الجديد" (الذي جاءت به واشنطن 2003) لم يكن سوى مشروع كبير لتهديم كل بناء حضاري في هذا البلد، ثم جعله مركزا لتتابع الانهيارات في عموم الشرق الأوسط والوطن العربي تحديدا؛ من سوريا حتى اليمن ومن لبنان حتى المغرب مرورا بكل الدول التي بين هذه وتلك؛ وقد نجح.

الآن، وتحديدا بعد الزمن الفاصل الذي أشعل فتيله مسعود البارزاني بموضوع استفتاء إقليم كردستان العراق؛ هناك في الأفق عراق "جديد" سيتشكل برعاية أميركية أيضا، ولكنها هذه المرة ستكون مرتكزة على استثمار العراق في حقليْ الغاز والنفط.

وهو ما يستوجب ضمه مع السعودية التي وضعت مواردها تحت مظلة الاستثمار الأميركي أيضا؛ فتكون واشنطن قد ضمنت لأكثر من قرن مصدريْ الطاقة والطاقة النظيفة من أكبر دولتين في احتياطيات هاتين المادتين، مقابل ضمان استقرار وأمن هذين البلدين.

الجميع يتطلع إلى أن تكون تحركات رئيس مجلس الوزراء العراقي وإعادة علاقات العراق مع محيطه العربي؛ طوقَ نجاة لهذا البلد، الذي لم يبق لديه من الخيارات إلا تلك المرتبطة بالعودة إلى حاضنته الطبيعية، والتي يشكل هو ذاته أحد أهم أعمدتها.

ولعل الرياض وسواها يراهنون على استغلال الخلافات داخل القيادات الشيعية، وتململ المجتمع الشيعي العراقي تجاه إيران، وكذلك حاجة المكونات السنيّة إلى راعٍ يفتح لهم آفاق العودة مجددا إلى دائرة الفعل والقرار داخل بلدهم.

وأيضا -وهذا هو الأهم ربما- حاجة الحكومة العراقية ذاتها للمساعدة سياسيا واقتصاديا وأمنيا، لتستطيع تصريف أمور بلدها وإدامة العلاقة مع شعبها الذي فقد الثقة بها تماما، حتى أثبتت الأحداث والتحركات الأخيرة أن العراق ربما ما زال حيا، وسينهض من جديد ليكون فاعلا ومتفاعلا مع أشقائه والمجتمع الدولي، ونابذا لكل الأفكار والممارسات السُّود التي استوطنته منذ عام الانحطاط (2003).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.