الصراع بين أربيل والسليمانية.. الأسباب والمآلات

A picture taken on October 2, 2017 shows Kurdish regional president Massoud Barzani (C) meeting with Kirkuk provincial Governor Najim al-Din Karim (3-L) and Kurdish political parties representatives in Kirkuk. / AFP PHOTO / Marwan IBRAHIM (Photo credit should read MARWAN IBRAHIM/AFP/Getty Images)

خلافات عميقة وقديمة
صفقة سليماني والسليمانية
مرحلة السيناريوهات المفتوحة 

وجهت خسارة الكرد لمدينة كركوك -وبشكل درامي- الأنظارَ إلى عمق الخلافات بين السليمانية وأربيل، وهي خلافات عميقة تتفاعل على وقع الاستقطاب الحزبي، والانقسام الجغرافي، والتنافس على السلطة والثروة، والأبعاد الإقليمية.

لقد أظهرت الاتهامات المتبادلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الاتحاد الوطني الكردستاني عقب خسارة كركوك؛ مدى هشاشة العملية السياسية الجارية في إقليم كردستان العراق، رغم مرور أكثر من ربع قرن عليها.

كما أظهرت مدى خطورة أحوال المشهد السياسي الكردي واحتمال تفجره في أي وقت، خاصة في ظل الاختراقات الإقليمية التي ساهمت على الدوام في جعل التاريخ الكردي حافلا بالحروب الداخلية وبالعداوات، بل وبالخيانة.

خلافات عميقة وقديمة
منذ انشقاق الراحل جلال الطالباني عن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الراحل الملا مصطفى البارزاني عام 1976، ومن ثم تأسيسه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني؛ ظلت العلاقة بين الحزبين تخضع لقواعد التنافس والصراع.

وعندما فرض الحظر الجوي على شمال العراق عام 1991 (إثر غزو الكويت)؛ تأسست إدارتان في الإقليم: الأولى في السليمانية معقل الطالباني، والثانية في أربيل معقل مسعود البارزاني (نجل مصطفى البارزاني وخليفته)، وكانت لكل إدارة مؤسساتها المحلية والخدمية والأمنية، وكأنهما بلدان مختلفان وليستا منطقتين في إقليم واحد.

ولفهم جذور الخلافات بين أربيل والسليمانية؛ لا بد من التوقف عند الأسباب والعوامل التالية:

1- العامل الاجتماعي: فمقابل البنية العائلية والعشائرية المحافظة للحزب الديمقراطي، وحفاظه على هذه البنية رغم مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيسه؛ اتسمت بنية حزب الاتحاد الوطني باليسارية والعلمانية.

منذ انشقاق الراحل جلال الطالباني عن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الراحل الملا مصطفى البارزاني عام 1976، ومن ثم تأسيسه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني؛ ظلت العلاقة بين الحزبين الكرديين الكبيرين تخضع لقواعد التنافس والصراع

فقد ساعد وجود نخبة يسارية -عقب تأسيسه عام 1976- على انتشار نفوذه بين الطلبة وأبناء المدن، مع أن التطورات داخل الحزب أفضت إلى وصول أبناء الطالباني إلى سدة القيادة، حيث تقود زوجته هيرو أحمد عمليا الحزب بعد رحيله.

2- العامل الثقافي واللغوي: يمكن القول إن الحساسية التاريخية بين السليمانية وأربيل تتجاوز الخلافات الحزبية والسياسية إلى خلافات أخرى أعمق تتعلق بالثقافة واللغة، إلى درجة أنها شكلت عقدة اجتماعية صامتة بين الجانبين.

فاللهجة "السورانية" هي السائدة في السليمانية ثقافة ولغة وصحافة ومنهاجا تعليميا، في حين تسود اللهجة "البهدينانية" في أربيل. والاختلافات هنا ليست بسيطة بل جوهرية لجهة الفكر والثقافة، فهي قد تصل إلى حد عدم التفاهم بين المتحدثين باللهجتين المذكورتين.

وعليه، يمكن القول إن الفروق الثقافية واللغوية تشكل معضلة حقيقية بين الطرفين، خاصة مع تطور الاستخدام الثقافي والإعلامي والتعليمي، إلى درجة أن حكومة الإقليم اضطرت لاعتماد اللهجتين معاً بشكل رسمي في مناهج التعليم، وهو ما يعني تكريسا للخلافات القائمة.

3- إرث الصراع الدموي: منذ عام 1978 خاض الحزبان سلسلة حروب على النفوذ والسلطة والمناطق، كانت أشرسها عام 1996 عندما قاد حزب الطالباني هجوما على أربيل بمساعدة إيران، ونجح في السيطرة على المدينة فهرب مسعود البارزاني مع قواته إلى محافظة نينوى.

ثم استنجد البارزاني بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أرسل إليه قوات الحرس الجمهوري، فطردت مقاتلي الطالباني من أربيل إلى حدود إيران قبل أن تساعد الأخيرة في إعادتهم إلى مناطقهم. ولم يهدأ الصراع بينهما إلا بعد تدخل الولايات المتحدة وعقدها اتفاق مصالحة بينهما بواشنطن 1998.

4- العامل الإقليمي: عند الحديث عن علاقة البعد الإقليمي بالكرد؛ سرعان ما تتجه الأنظار إلى إيران التي تشكل الداعم الأساسي للاتحاد الوطني الكردستاني -ولاحقا حركة التغيير الكردية (غوران)- في مواجهة البارزاني وحزبه. وفي المقابل؛ كانت تركيا حليفة قوية للبارزاني قبل قراره التوجه إلى الاستفتاء على الانفصال وإصراره عليه، وهو ما وضع نهاية لهذا التحالف.

وبغض النظر عن أسباب وعوامل علاقة كل من تركيا وإيران بالأطراف الكردية؛ فإنها شكلت على الدوام عاملا للانقسام وتفاقم الخلافات الكردية/الكردية.

صفقة سليماني والسليمانية
وجه السقوط السريع لكركوك في أيدي قوات الحشد الشعبي والجيش العراقي الأنظار إلى بشمركة حزب الاتحاد الوطني لكونها كانت تسيطر على كركوك، ودفع قادة من الحزب الديمقراطي إلى توجيه اتهامات بالخيانة الكبرى لقادة من الاتحاد الوطني وتحديدا إلى بافيل نجل جلال الطالباني.

إذ تؤكد مصادر الحزب الديمقراطي أن صفقة جرت بين قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني (كان يزور السليمانية بحجة التعزية بوفاة الطالباني الأب) وأفراد من عائلة الطالباني، وأن مضمون هذه الصفقة هو: انسحاب بشمركة الحزب من كركوك والقواعد العسكرية وآبار النفط مقابل تقديم امتيازات للحزب.

ومن هذه الامتيازات إعادة الملاحة إلى مطار السليمانية، وتعيين محافظ لكركوك من الحزب، ودفع رواتب بشمركة الحزب، وتعزيز علاقة السليمانية ببغداد على حساب أربيل عبر العمل على تشكيل حكومة جديدة في الإقليم.

بغض النظر عن تداعيات صفقة قاسم سليماني في السليمانية على الخلافات الكردية/الكردية في المرحلة المقبلة، وعلى حزب الاتحاد الوطني الذي يعاني انقساما بعد رحيل زعيمه وإعلان عدد من قادته استقالتهم أو تجميد عضويتهم؛ فإن الصفقة نجحت في قلب الموازين ضد البارزاني

ولعل ما يدعم وجود مثل هذه الصفقة جملة مواقف صدرت عقب خسارة كركوك؛ فعلى الجانب العراقي، وجهت الحكومة وقادة من الحشد الشعبي الشكر إلى البشمركة التي انسحبت من أربيل دون قتال، وعلى جانب السليمانية، أصدرت النائبة آلاء الطالباني بيانا قالت فيه بالحرف: "لا يمكن أن نضحي بقطرة دم واحدة من أجل الحفاظ على آبار نفط مسروقة في كركوك ذهبت أموالها لجيوب أحزاب وأشخاص"، في إشارة إلى البارزاني وحزبه.

كما صدرت دعوات عن عدد من قادة حزب الاتحاد الوطني وحركة التغيير تدعو البارزاني إلى الاستقالة، وتحمّله مسؤولية ما حصل بسبب تعطيله للحياة السياسية في الإقليم، وذهابه إلى الاستفتاء وإصراره عليه رغم رفض معظم الأحزاب الكردية لتنظيمه.

في الواقع، وبغض النظر عن تداعيات صفقة السليمانية على الخلافات الكردية/الكردية في المرحلة المقبلة، وعلى حزب الاتحاد الوطني الذي يعاني انقساما بعد رحيل زعيمه وإعلان عدد من قادته استقالتهم أو تجميد عضويتهم؛ فإن الصفقة نجحت في قلب الموازين ضد البارزاني، خاصة بعد خسارته -خلال فترة قصيرة- معظم المناطق المتنازع عليها.

هذا فضلا عن خسارته الاستفتاء كمسار كان يؤمّل منه إعلان الدولة الكردية المستقلة، إذ إن الخلافات بين الحزبين ليست مهمة بالنسبة لإيران وتركيا وبغداد بقدر أهمية منع إمكانية قيام دولة كردية، وقطع الطريق أمام البارزاني وربما إجباره على دفع الثمن. وبذلك يمكن فهم حديث حيدر العبادي المتكرر عن أن الاستفتاء أصبح من الماضي.

ويبدو أن البارزاني نفسه اقتنع بهذا الواقع الجديد الصعب عندما وافق على فتح الحوار مع بغداد وفقا لدستور عام 2005، ولعل مثل هذا الموقف يعبر عن خياراته الصعبة، وربما يأسه من أي دعم إقليمي أو دولي لخيار الاستفتاء وسط خوف متنامٍ على الوضع الداخلي.

مرحلة السيناريوهات المفتوحة
دخل المشهد الكردي -بعد خسارة كركوك- مرحلة صعبة تبدو مفتوحة على جملة سيناريوهات، لعل أهمها:

1- سيناريو الصدام: يستمد هذا السيناريو مشروعيته من جملة الخلافات التي تفجرت على وقع خسارة كركوك، والعلاقة التي تعززت بين السليمانية وبغداد. ولعل ما قد يفجّر الصدام تمسك البارزاني بالاستفتاء الذي يجد صعوبة في التراجع عنه، لما سيلحقه به ذلك من خسارة لنهجه ومصداقيته، ولمصير العملية السياسية التي رسمها للمرحلة المقبلة.

إما أن تتجاوز قيادات إقليم كردستان خلافاتها وصراعاتها العميقة على أساس من التوافق السياسي، عبر انتهاج عملية إصلاحية جذرية تُنهي أزمة الرئاسة والمحاصّة الحزبية واحتكار السلطات…إلخ، أو الدخول في سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات

2- سيناريو الإدارتين: أي العودة إلى وضعية الإدارتين المنفصلتين قديما، ويستمد هذا السيناريو مشروعيته من مطالبة البعض بإعلان السليمانية إقليما إذا واصل البارزاني التمسك بسياسة التفرد بقيادة الإقليم.

وهناك مجموعة من العوامل التي قد تدفع بهذا السيناريو إلى النهاية، لعل أهمها تشجيع بعض الأطراف العراقية والدعم الإيراني، والتطلع إلى جني مكاسب اقتصادية وسياسية.

ومن تلك العوامل أيضا قناعةُ الاتحاد الوطني بأن الظروف باتت مناسبة لإنهاء تحالفه الإستراتيجي مع البارزاني الذي تم التوصل إليه عام 2006، وكان من أهم بنوده أن تكون رئاسة الإقليم للحزب الديمقراطي على أن يكون منصب رئاسة الجمهورية العراقية من حصة الاتحاد الوطني.

3- سيناريو التوافق: وتنبثق مشروعيته من أن التجربة التاريخية للصراع الكردي/الكردي تقضي بضرورة انتصار الحكمة والعقل على المصالح الحزبية والشخصية. وثمة أسباب قد تشجع على هذا السيناريو، مثل أن يقوم البارزاني بإصلاحات واسعة، ويتم تفعيل البرلمان، وتوضع آلية جديدة لإدارة الحكومة والوضع الاقتصادي في الإقليم.

في الواقع، من الواضح أن لكل سيناريو أسبابه وعوامله، وهي سيناريوهات تضع الإقليم أمام خيارات مفتوحة بعد أن استفحل الصراع بين قواه السياسية، التي تبدو وكأنها تنتظر مسار التطورات الجارية في مرحلة ما بعد كركوك لتحديد بوصلته، وهو ما يضع الإقليم أمام تحدٍّ مصيري.

فإما أن تتجاوز قيادات الإقليم خلافاتها وصراعاتها العميقة على أساس من التوافق السياسي، عبر انتهاج عملية إصلاحية جذرية تُنهي أزمة الرئاسة والمحاصّة الحزبية واحتكار السلطات…إلخ، أو الدخول في سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات.

والخلاصة هي أن تداعيات الخلافات والانقسامات طالت مختلف مناحي الحياة في الإقليم، على شكل استنزاف للقدرات، وانهيار للاقتصاد وتوقف للمشاريع، وهجرة للكفاءات والاستثمارات، وصراع مع بغداد، وحصار إقليمي رافض للانفصال. إنه التحدي الأصعب الذي ينتظر إقليم كردستان بعد سنوات من الازدهار والحديث عن الريادة والتطلع إلى الاستقلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.