تطور الرؤية الترکية تجاه سوريا في حسابات إيران
عندما عُقد اجتماع موسکو الثلاثي -الذي ضم وزراء خارجية کل من إيران وترکيا والدولة المضيفة- لمناقشة الملف السوري وإمکانات الحل السياسي في الظرف الجديد؛ أُعلِن وبشکل ضمني تغيير واقع الاصطفافات الدولية والإقليمية تجاه الأزمة السورية.
فقد شارکت ترکيا دون غيرها من الدول الداعمة للمعارضة المسلحة کراعية لهذه المعارضة، إلی جانب روسيا وإيران کدولتين داعمتين ومتحالفتين مع النظام السوري.
فغياب الدول العربية التي دعمت التنظيمات المسلحة منذ اليوم الأول للأزمة من جهة، والولايات المتحدة التي مثّلت البُعد الدولي المناوئ للنظام السوري من جهة أخری؛ أضفى علی الاجتماع طابعاً مختلفاً عن أسلافه. وأقل ما يمکن قوله حول هذا التطور هو أنه أدى إلى بروز ديناميات جدیدة في الأزمة السورية خلال المرحلة الجديدة.
تغير سلوك ترکيا في تعاطيها مع إيران وروسيا من المرجح أن يؤثر علی التطورات الميدانية؛ فتدخل الأزمة السورية مرحلة مختلفة في الأشهر الآتية علی غرار تأثير تطورات حلب علی الحسابات الترکية. فها هي ترکيا تتوصل إلی اتفاق مع روسيا لوقف إطلاق النار في سوريا قبل تحديد موعد لوصول الأطراف المعنية إلی أستانا |
وتغير سلوك ترکيا في تعاطيها مع الدولتين -وخاصة روسيا- من المرجح أن يؤثر علی التطورات الميدانية؛ فتدخل الأزمة السورية مرحلة مختلفة في الأشهر الآتية علی غرار تأثير تطورات حلب علی الحسابات الترکية. فها هي ترکيا تتوصل إلی اتفاق مع روسيا لوقف إطلاق النار في سوريا قبل تحديد موعد لوصول الأطراف المعنية إلی أستانا.
تغيّرت رؤية ترکيا للأزمة السورية بعد استحالتها من فرصة تاريخية -کما رأتها النخب الترکية في المراحل الأولى- إلی عبء إستراتيجي أثر سلباً علی أمن ترکيا القومي.
فقد أتى التغير المذکور نتيجة تطورين هامين لم يکن بمقدور الإستراتيجي الترکي غض الطرف عنهما: التطور الأول هو تقدم "قوات سوريا الديمقراطية" والأکراد والدعم الأميرکي للمکون الکردي، الذي أبدی لأنقرة خطورة الاستمرار في الخيارات السابقة من التمسّک بموقفها الداعي لإسقاط النظام السوري.
أما التطور الثاني فنتج عن التدخّل الروسي بدعوة من الحکومة السورية في الأزمة، وكانت أخرى نتائجه نجاح عملية حلب وإخراج التنظيمات المسلحة منها. والعالِم بوضع حلب والدور الذي مثلته في الأزمة السورية يعلم أن ما بعد عودة حلب لسلطة الدولة السورية لن يکون کما قبلها. هکذا يبدو فهم النخب الترکية للواقع الجديد.
ونتيجة لهذه التطورات، غيّرت ترکيا إستراتيجيتها علی ثلاث مراحل: ففي المرحلة الأولی أرسل الرئيس رجب طيب أردوغان رسالة اعتذار لموسکو علی الشکل المطلوب روسياًّ، سائلا الروس بدء مرحلة جديدة بعد قبوله دفع تعويضات لقاء إسقاط المقاتلة الروسية في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
وبعد قبول موسکو الاعتذار الترکي، دخلت أنقرة المرحلة الثانية فأدخلت قواتها العسکرية الأرض السورية مدعومة مِنْ وداعمة لحلفائها بعملية أطلقت عليها "درع الفرات"، لمنع اتصال المناطق الکردية داخل سوريا، ولإبقاء شيء من النفوذ هناك مع التقدم شبه المطرد لقوات النظام السوري وحلفائه من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة أميرکياً من جهة أخری.
المرحلة الثالثة في تغير الإستراتيجية الترکية بدأت بعودة حلب لسلطة النظام السوري؛ فالبادي من هذا التطور يشير إلی استدارة ترکيا من أصدقائها العرب في دعم المعارضة السورية إلی الحلف الروسي/الإيراني، بغية الحد من سلبيات الواقع السوري علی الأمن القومي الترکي ودورها في نسج مستقبل سوريا. هکذا قرأ کثير من المتتبعين بالمنطقة وإيران تطور الموقف الترکي.
بالنسبة لإيران مثّلت استدارة ترکيا فرصة کانت النخب الإيرانية تتوق إليها؛ فمنذ بداية الأزمة السورية لم ترد طهران علی التصعيد الترکي ضدها وضد حلفائها في الأزمة السورية بالمثل، وأبقت العلاقات الثنائية بعيدة عن التطورات الإقليمية وتناقض مواقف الدولتين من الأزمة السورية بشکل خاص.
عند بدء العمل العسکري الروسي في سوريا وخاصة بعد فرض عقوبات علی ترکيا إثر إسقاط المقاتلة الروسية؛ اتضح لأنقرة -وكذلك طهران- أن المشروع الداعي لإسقاط النظام السوري بات في مهب الريح. أدرکت ترکيا هذا الواقع من جهة وباتت متخوفة من تغوّل القوة الکردية في سوريا من جهة ثانية |
ولم تُبقي إيران فرصة إلا واستثمرتها لتغيير الأولويات الترکية إزاء سوريا، لكن الدبلوماسية الإيرانية والمحاولات المستمرة في تغيير الموقف الترکي لم تثمر کما أثمرت التطورات الميدانية، ولم تتعاون الدولتان -منذ بدء الأزمة- کما تتعاونان الآن.
فقد قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف -في المؤتمر الصحفي الذي أعقب لقاء موسکو، وبعد تأکيده الحاجة إلى تعاون دولي لمکافحة الإرهاب، وإنهاء العنف، وإيصال المساعدات الإنسانية إلی کافة المناطق السورية- إن الأطراف الثلاثة تتعاون الآن في إخراج غير العسکريين والمسلحين من حلب.
قبل ذلک بأقل من شهر؛ قال الرئيس الإيراني حسن روحاني -مخاطباً ضيفه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو– إن إيران وترکيا متفقتان مبدئيا بشأن التطورات الإقليمية، وعليهما أن تعملا معاً بغية إعادة الأمن والاستقرار للعراق وسوريا.
أي أن إيران تنظر إلی ترکيا کشريک يمکن للعمل معه أن يترجَم أمناً واستقراراً للدول المحيطة بهما، والترکيز هنا علی العراق وسوريا. وبذلک مثّل تغير الموقف الترکي إضافة هامة لسياسة طهران في سوريا، وذلک لثلاثة أسباب:
خروج ترکيا من الحلف الداعي لإسقاط النظام السوري هو السبب الأول، ويضم هذا الحلف دولاً کالسعودية وقطر. وقد أدی تمسّک هذا الحلف بالإسقاط خياراً لا تراجع عنه إلى صعوبة التقاء رؤی المتحالفين مع النظام السوري والمعادين له، وأدی ذلک بدوره إلی تطويل الأزمة وزيادة مستوی العنف فيها.
وعند بدء العمل العسکري الروسي في سوريا وخاصة بعد فرض عقوبات علی ترکيا إثر إسقاط المقاتلة الروسية؛ اتضح لأنقرة -وكذلك طهران- أن المشروع الداعي لإسقاط النظام السوري بات في مهب الريح. أدرکت ترکيا هذا الواقع من جهة وباتت متخوفة من تغوّل القوة الکردية في سوريا من جهة ثانية.
بذلک -ورغم استمرارها في المشاورات والمجاملات مع أصدقائها العرب- ذهبت ترکيا إلى موسکو لتتفق مع الحلف الروسي/الإيراني على الخطوط العريضة للمرحلة المقبلة. ويعني ذلک لطهران خروج ترکيا العملي من الحلف الداعي للإسقاط، وهي الحلقة الأهم فيه لوجستياً علی الأقل.
السبب الثاني تمثّل في اقتراب أولويات وأهداف ترکيا من الأهداف الإيرانية، نتيجة لتطورات الأزمة السورية من جهة وتداعياتها الإقليمية والدولية من جهة أخری. وعند قراءة الأهداف الترکية المعلنة اليوم، تجد طهران أن تقارب أهداف البلدين يکاد يصل حد التطابق في الخطوط العريضة علی الأقل.
فقد أعلِن من موسکو مثلاً أن الدول الموقعة على "إعلان موسكو" تؤکد دعمها الکامل لسيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية، وأن الأزمة السورية تتطلب حلاً سياسيا ستعمل الدول الموقعة علی دعمه. وقد شُطب منذ حين شعار ضرورة إسقاط الرئيس بشار الأسد من الدعاية والبيانات الرسمية الترکية.
کما أن ترکيز ترکيا علی ضرورة صيانة وحدة التراب السوري ينزل برداً وسلاماً علی طهران. وبذلک باتت أولويات ترکيا وأهدافها هي الأقرب لإيران من بين الدول التي دعت لإسقاط الحکومة السورية، ودعمت وسلّحت المعارضة طوال سنوات.
من الصعب تصوّر معارضة الرئيس الأميرکي الجديد دونالد ترمب لهذا المسعی، أما الدول المؤکِّدة لحتمية تنحي الرئيس السوري -سلماً أو حرباً- فقد باتت خارج اللعبة إلی حين. إلا أن الوضع السوري يتطلب جهداً إقليمياً ودولياً للمصالحة والبناء، ولذلک لا يمکن بل يجب ألا يُستثنى أي لاعب صغر دوره أو عظم |
السبب الثالث أن عدول أنقرة عن سياستها السابقة يعني فيما يعنيه أن الدولة التي ساهمت سياسياً وإعلامياً -وخاصة علی المستوی اللوجستي- في استنزاف حلفاء إيران بسوريا، لم تعد مصدراً للاستنزاف.
وبعبارة أخری؛ فإن عدول أنقرة عن سياستها السابقة باعتبارها الدولة "البوابة" للمشروع الداعي لإسقاط الحکومة السورية في السنوات الست الماضية؛ سيوقف -ما لم توقفه التطورات الميدانية وأبعادها الإقليمية والدولية- مَنْ زحف لإسقاط النظام السوري.
بذلک وبانتهاء حرب الاستنزاف التي أتت علی جميع الأطراف في الأزمة السورية؛ ستتفرغ هذه الأطراف للعملية السياسية لإنهاء الأزمة بأساليب مختلفة، لن تؤدي -کما تأمل نخب المنطقة- إلی حروب استنزاف أخری.
لذلک وبانطلاق العملية السياسية الجديدة التي بدأت في موسکو يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 2016، ندخل مرحلة جديدة مفادها أن جميع الأطراف الرئيسية المؤثرة ومنها ترکيا باتت تضع ضرورة إيقاف الحرب السورية هدفاً للمرحلة المقبلة.
ومن الصعب تصوّر معارضة الرئيس الأميرکي الجديد دونالد ترمب لهذا المسعی، أما الدول المؤکِّدة لحتمية تنحي الرئيس السوري -سلماً أو حرباً- فقد باتت خارج اللعبة إلی حين. إلا أن الوضع السوري يتطلب جهداً إقليمياً ودولياً للمصالحة والبناء، ولذلک لا يمکن بل يجب ألا يُستثنى أي لاعب صغر دوره أو عظم.
ومع بدء العملية السياسية الجديدة؛ يبقی علی الدول الداعية لإسقاط النظام السوري الاختيارُ بين الاستمرار في الدعوة إلى إسقاطه -دون تأثير حقيقي علی الأرض- والمشارکة في نسج الواقع السوري الجديد.
إن خيارات هذه الدول في الحالة العراقية بعد عام 2003 لا تشجّع المتتبع، فقد بقيت تصر علی رفض الواقع الجديد، رغم علمها بأن مقدراتها لا تمکّنها من تغييره وأن الماضي ولّی إلی غير رجعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.