السودان.. رفع العقوبات ورهان الاستقرار

Supporters of Sudan's President Omar Hassan Ahmad al-Bashir wearing Sudanese Jalabiya react during a National Dialogue campaign event in Khartoum February 8, 2016. The Arabic words on the clothings read: "No to American sanctions" (L) and "Sanctions violation to human rights". REUTERS/Mohamed Nureldin Abdallah

كلفة العقوبات وتأثيراتها
أسباب رفع العقوبات
التحدي الأصعب

قبل أن يغادر الرئيس الأميركي باراك أوباما البيت الأبيض بأيام قليلة، وقع في 13 يناير/كانون الثاني، أمرا تنفيذيا برفع العقوبات الاقتصادية والتجارية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على السودان منذ عشرين عاما.

وكان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون قد اتخذ قرارا بفرض حظر تجاري شامل على السودان عام 1997، بتهمة رعاية الإرهاب الدولي وإيواء زعيم تنظيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن الذي كان يقيم في الخرطوم. بيد أنه مازالت هناك عقوبات سوف ينظر في إلغائها بعد ستة شهور إذا تأكدت واشنطن مما تعتبره تطورات إيجابية من جانب الخرطوم، وحينئذ سوف تلغى بقية العقوبات لمدة عام قابل للتجديد.

وفور صدور القرار سادت حالة غير مسبوقة من الاحتفاء والفرح في الخرطوم رسميا وشعبيا نظرا للآثار الكارثية التي تسببت فيها تلك العقوبات على مدى 20 عاما؛ لكن رفع العقوبات لن يكون عصا موسى ولن يغير الأوضاع ويحل مشاكل السودان الاقتصادية، ما لم تنفذ الحكومة حزمة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية تتعلق بدعم الإنتاج والصادرات، وتخطي الإجراءات البيروقراطية التي تعطل الاستثمارات الأجنبية وقطاع الصادرات، وترشيد الاستهلاك ودعم الصناعة والزراعة، فضلا عن محاربة الفساد الحكومي المستشري.

يقدر بعض الخبراء إجمالي الخسائر المباشرة خلال عقدين من الزمان جراء العقوبات الأميركية بنحو 500 مليار دولار؛ أي بمعدل أربعة مليارات دولار سنويا، مع العلم أن حجم صادرات السودان في موازنة العام الماضي 2016 لم يزد عن نحو 3 مليارات دولار

ويأتي رفع العقوبات الأميركية عن الخرطوم في إطار خطوات مماثلة تجاه كل من كوبا وإيران؛ ومع دخول الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1" حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2016، رفعت واشنطن عقوباتها على طهران، حيث تمكنت إيران من فتح أبواب قطاعاتها الاقتصادية للشركات الأميركية، في مقابل تمكن الشركات الأميركية من عقد صفقات تجارية مع إيران. كذلك أعلنت الولايات المتحدة في 15 مارس/آذار 2016، رفع العقوبات المفروضة على كوبا في المجالين المصرفي والسياحي، وهي عقوبات استمرت لأكثر من 50 عاما.

كُلفة العقوبات وتأثيراتها
ليس من السهل الإحاطة بشكل كامل بحجم وتأثير عقوبات اقتصادية قاسية امتدت لنحو 20 عاما، لأن تأثير الخسائر طال مجمل نواحي الحياة في السودان، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويقدر بعض الخبراء إجمالي الخسائر المباشرة خلال عقدين من الزمان بنحو 500 مليار دولار. أي بمعدل أربعة مليارات دولار سنويا، مع العلم أن حجم صادرات السودان في موازنة العام الماضي 2016 لم يزد عن نحو 3 مليارات دولار.

كان المواطن السوداني البسيط أكبر ضحية لقرار العقوبات؛ فقد زادت من عدد السكان القابعين تحت خط الفقر، الأمر الذي شجع زيادة حالات الاتجار بالبشر والهجرة السّرية والاتجار بالمخدرات والتطرف والإرهاب. وخطت البلاد خطوات واسعة نحو تصنيف الدولة الفاشلة، والعاجزة عن ضبط حدودها الأمر الذي شكل تهديدا حقيقيا للأمن الإقليمي والدولي.

وأشارت دراسة سودانية إلى أن عدد السكان كان في العام 2009 تقريبا 31.9 مليون نسمة فيما بلغت مصروفات التنمية في نفس العام 1139 مليون دولار بنصيب 35.7 دولارا للفرد. وكانت نسبة السكان تحت خط الفقر في ذات الوقت 46%. ومع اشتداد وطأة العقوبات تفاقم الوضع ليصل عدد السكان تحت خط الفقر في العام 2014 نحو 57.9% في حين انخفضت مصروفات التنمية إلى 806 مليون دولار وانخفض نصيب الفرد من مخصصات التنمية إلى 21.6 دولارا.

وأصاب الدمار كل مقومات البنية التحتية للتنمية؛ فانهارت مؤسسات اقتصادية عريقة مثل الخطوط الجوية السودانية التي حرمت من الحصول على قطع الغيار والصيانة الدورية لطائرتها، وتعرضت السكك الحديدية لخسائر بالغة بسبب تلك العقوبات وفقدت 83% من بنيتها التحتية، وتمثل السكك الحديدية قطاع النقل الرخيص ذو الفائدة الاقتصادية لصغار المنتجين. كذلك تأثّر أكثر من ألف مصنع بشكل مباشر بالعقوبات بسبب عدم حصولها على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية، وشمل ذلك الأجهزة الطبية والأدوية، فقد أوقفت التدابير الاقتصادية الأميركية الاجهزة الطبية التي تصنعها شركة جي اي الأميركية، وغيرها من ذات التصنيع الأوروبي.

هذا بالإضافة إلى حرمان الباحثين والطلاب وأساتذة الجامعات، من الزمالات والمشاركة في البحوث والدوريات العلمية. وكانت العقوبات عقبة كأداة في طريق قطاع التعليم العالي والتقني ومنعته من مواكبة التكنولوجيا. وبالرغم من أن قطاع البترول وجد في بعض دول شرق آسيا والصين بعض السلوى لكن منع شركات البترول الأميركية ذات الإمكانات الفنية والمادية الضخمة من الاستثمار فيه، كان له تأثير بالغ، وقد شمل ذلك الشركات الأوروبية وانسحبت شركة تلسمان الكندية تبعا لتلك العقوبات. وهز قرار العقوبات الثقة في التعامل مع المؤسسات المالية الدولية والإقليمية والدول المانحة مما أفقد السودان موارد متوقعة كانت كفيلة بسد الفجوة الخارجية.

أسباب رفع العقوبات
ما الذي دعا واشنطن لرفع العقوبات؟ هناك أسباب عدة يتداخل فيها السياسي مع الاقتصادي، ولا غرو فقد أرادت الإدارة الأميركية على مدى العقدين المنصرمين استخدام العصا الاقتصادية لتحقيق أغراضها السياسية.

بُعيد وفاة الزعيم الإسلامي حسن الترابي في الخامس من مارس/آذار 2016 قالت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها عن الترابي -الذي وصفته بأنه مهندس حكومة الإنقاذ الإسلامية- إن غيابه سيؤثر في إحياء المشروع الإسلامي بالسودان والذي شهد تراجعا مستمرا منذ خروجه من الحكومة أواخر تسعينات القرن الماضي.

تقول كواليس الحزب الحاكم بالخرطوم إن نقطة التحول المركزية في العلاقة مع واشنطن، كانت حينما امتنع جهاز الأمن والمخابرات السوداني عن التعامل مع الـ (سي آي أيه) في مشروع مكافحة الإرهاب، بعد أن ظلت الخرطوم لعدة سنوات تعطي ثم تنتظر خطوة إيجابية من واشنطن دون جدوى

وخلص التقرير إلى أن غياب الترابي يجب أن يشجع الغرب على استكشاف واتباع نهج أكثر إيجابية في تعامله مع الخرطوم التي وصفتها بأنها لاعب نشط على نحو متزايد في منطقة الشرق الأوسط المضطربة. فليس في الخرطوم -حسب التقرير- ما يستدعي الإبقاء على الحصار والعقوبات، فلا أحد اليوم في السودان يملك مشروعا يشكل خطرا على الغرب. ويذكر البعض تصريحا شهيرا للرئيس البشير في مارس/آذار 2009 قال فيه "لو أن أميركا رضيت عنا يوما فإن ذلك يعني أننا فارقنا الشريعة والدين."

ولعل ملف مكافحة الإرهاب وتعاون الخرطوم في هذا الصدد كان له قدح مُعلى في قرار رفع العقوبات، وليس صعبا الربط بين غياب الترابي والابتعاد عن المشروع الإسلامي من جانب وبين التعاون في ملف مكافحة الإرهاب من جانب آخر. وأول تواصل رسمي بين الحكومتين الأميركية والسودانية فور صدور قرار رفع العقوبات، كان بين مديري المخابرات في البلدين حيث أجرى جون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) اتصالا هاتفيا مع محمد عطا مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني وأكد المسؤولان على استمرار العمل بين الجهازين من خلال خارطة الطريق التي قادت لرفع العقوبات.

ولاحقا قال مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني في تصريح صحافي "ننسق ونتعاون مع الولايات المتحدة منذ ما قبل العام 2000 في مجال مكافحة الإرهاب" مضيفا "نفعل ذلك لأننا جزء من هذا العالم ونتأثر بما يحدث في دول الجوار مثل ليبيا وحتى بما يجري في سوريا". وأكد أنه التقى مدير الـ (سي آي أيه) مرتين منذ أكتوبر/تشرين الأول 2015. وشدد على أن الخرطوم مستعدة "لتحمل أعباء مكافحة الإرهاب".

وتقول كواليس الحزب الحاكم الخرطوم إن نقطة التحول المركزية في علاقة الخرطوم بواشنطن، كانت حينما امتنع جهاز الأمن والمخابرات السوداني عن التعامل مع الـ (سي آي أيه) في مشروع مكافحة الإرهاب، وذلك بعد أن ظلت الخرطوم لعدة سنوات تعطي ثم تنتظر قيام واشنطن بخطوة إيجابية تجاه تطبيع العلاقات لكن دون جدوى. بيد أن الخرطوم اختارت الوقت والظرف المناسب لجرِّ الولايات المتحدة الأميركية لنقطة التعاطي المتبادل. وخلال 6 أشهر عقد 23 اجتماعا سريّا بين مسؤولين أميركيين وسودانيين في الخرطوم.

ومما عزز فرص إصدار قرار رفع العقوبات أيضا وجود مُتغيِّرات دولية وإقليمية جعلت من استقرار السودان وحماية سلطته المركزية من الانهيار جزءا من الأمن الإقليمي والعالمي، فضلا عن منع تدفقات المهاجرين إلى الدول الغربية.

وسبق قرار واشنطن ظهور بيانات أميركية بصورة لافتة تشيد بحكومة السودان وما تحرزه من تقدم. وعبر آخر هذه البيانات عن ارتياح واشنطن الشديد لتعاون السودان المخُلص في مضمار مكافحة الإرهاب.

ومثّل العامل الاقتصادي جانبا مهما في دفع الإدارة الأميركية نحو إصدار قرار رفع العقوبات، وظلت دوائر عديدة تلفت نظر الإدارة الأميركية إلى ثروات السودان التي تحول العقوبات بينها وبين الشركات الأميركية. وبدأت واشنطن منذ نحو عام في إقرار بعض الاستثناءات، واستنادا إلى صحيفة الكونغرس الأميركي (ذي هيل The Hill) فإن الإدارة الأميركية قد أحدثت في الآونة الأخيرة ثغرات في نظام العقوبات عبر استثناءات، وهو ما يجعل العقوبات تنتهي بشكل جزئي حال توسع تلك الاستثناءات. وبدأت الدائرة تتسع، فبعد أن شملت أجهزة الاتصالات رفع الحظر عما نسبته 55% عن مشاريع الزراعة والبيئة بالبلاد.

وبدأت واشنطن تنتبه إلى أن الاستمرار في العقوبات ستستفيد منه الصين بشكل مباشر، على سبيل المثال كانت اللبنات الأولى لمشاريع تنقيب النفط قد وضعتها واشنطن عبر شركة شل وشيفرون وتوتال واستفادت الصين منها في بناء علاقة نفطية إستراتيجية مع السودان.

مما عزز من فرص إصدار قرار رفع العقوبات أيضا وجود مُتغيِّرات دولية وإقليمية جعلت من استقرار السودان وحماية سلطته المركزية من الانهيار جزءا من الأمن الإقليمي والعالمي، فضلا عن منع تدفقات المهاجرين إلى الدول الغربية

في 2014 قال الكاتب الأميركي دوغ باندو في مقال له على الموقع الرسمي لمعهد كاتو الأميركي المتخصص في السياسات العامة: "حان الوقت لرفع العقوبات الأميركية عن السودان". وأشار الكاتب إلى تمدد الصين على حساب أميركا ومصالحها.

التحدي الأصعب
لعل رفع العقوبات يبدو في أحد وجهي الحقيقة رفعا لحمل ثقيل ظل السودان ينوء بحمله، أما الوجه الثاني للحقيقة فيتمثل في أنه يمثل تحديا عظيما أمام الحكومة. ويتكئ هذا التحدي على أمرين: أولهما كيف يحافظ النظام الحاكم على ورقة التوت ولا تنكشف عورة التنازلات السياسية لواشنطن، حفاظا على الحد الأدنى من المرتكزات الأيديولوجية التي برر بها النظام في أول عهده استيلاءه على السلطة بقوة السلاح. فلا يجب المضي أكثر في منزلق البراغماتية السياسية، فكوبا وإيران لم تقدمان لواشنطن أي تنازلات أيديولوجية. ومن المؤكد أن هناك عملا كثيرا يحب القيام به عبر وضع ما يلزم من تدابير لاجتياز فترة الأشهر الستة القادمة، لمنع حدوث انتكاسة تُعطي مُبرِّرا لإدارة ترمب المتربصة، للتراجع عن القرار والعودة القهقري.

أما الأمر الثاني التي يقوم عليها التحدي فهو متعلق بكيفية الاستفادة من قرار رفع العقوبات في دعم الاقتصاد السوداني ورفع المعاناة عن الشعب، ودوران عجلة التنمية، فلم يعد هناك مجال لتعليق أسباب الفشل الاقتصادي على العقوبات الأميركية. وفي حالة إيران لم تكن العقوبات التي كانت مفروضة عليها مسؤولة إلا عن 20% فقط من مشاكل اقتصاد البلاد. فالخرطوم مطلوب منها ابتدار تحرك سريع وفاعل لإعفاء الديون الخارجية، لأن السودان هو البلد الوحيد من مجموعة الدول المثقلة بالديون (الهيبك) الذي لم يستفد من المبادرة العالمية لإعفاء ديونه، والحكومة مطالبة أيضا بتهيئة الظروف المناسبة لجذب استثمارات ضخمة في الاقتصاد تحريكا لإمكاناته الطبيعية الزراعية والحيوانية والمعدنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.