فخ كيندلبرغر

U.S. President Barack Obama meets with Chinese President Xi Jinping during the APEC Summit in Lima, Peru November 19, 2016. REUTERS/Kevin Lamarque TPX IMAGES OF THE DAY

فيما يعكف رئيس الولايات المتحدة المنتخب دونالد ترمب على تحضير السياسة التي ستنتهجها إدارته في التعامل مع الصين، ينبغي له أن يتوخى الحذر واليقظة خشية الانزلاق إلى فخين رئيسيين أعدهما له التاريخ.

الأول هو "فخ ثيوسيديدز" الذي استشهد به الرئيس الصيني شي جين بينغ، ميشيرا إلى التحذير الذي أطلقه المؤرخ اليوناني القديم من احتمال اندلاع حرب كارثية إذا أصبحت قوة راسخة (مثل الولايات المتحدة) شديدة التخوف من قوة صاعدة (مثل الصين). ولكن ينبغي لترمب أيضا توخي الحذر من "فخ كيندلبرغر": الصين التي تبدو أضعف مما ينبغي وليس أقوى مما ينبغي.

زعم تشارلز كيندلبرغر -وهو المهندس الفِكري لخطة مارشال الذي اشتغل في وقت لاحق بالتدريس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا- أن عقد الثلاثينيات الكارثي حدث عندما حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا باعتبارها القوة العالمية الكبرى، ولكنها فشلت في الاضطلاع بدور بريطانيا في توفير المصالح العامة العالمية. فكانت النتيجة انهيار النظام العالمي الذي انزلق إلى الكساد، والإبادة الجماعية، والحرب العالمية.

اليوم ومع نمو قوة الصين، هل تساعد في توفير المصالح العامة العالمية؟ في السياسة الداخلية توفر الحكومات المصالح العامة مثل حفظ الأمن والنظام أو البيئة النظيفة، والتي يستفيد منها كل المواطنين ولا يُستَبعَد منها أحد. وعلى المستوى العالمي تعمل تحالفات تقودها القوى الكبرى حجما على توفير المصالح العامة

واليوم ومع نمو قوة الصين، هل تساعد في توفير المصالح العامة العالمية؟ في السياسة الداخلية توفر الحكومات المصالح العامة مثل حفظ الأمن والنظام أو البيئة النظيفة، والتي يستفيد منها كل المواطنين ولا يُستَبعَد منها أحد. وعلى المستوى العالمي تعمل تحالفات تقودها القوى الكبرى حجما على توفير المصالح العامة، مثل المناخ المستقر، والاستقرار المالي، وحرية البِحار.

الدول الصغيرة ليس لديها حافز كبير لتحمل ثمن مثل هذه المصالح العامة العالمية. ولأن مساهماتها الصغيرة لا تُحدِث فارقا كبيرا في مدى استفادتها من عدمها، فمن المنطقي -في نظر هذه الدول- أن تركب بالمجان. ولكن القوى الكبرى من الممكن أن ترى تأثير مساهماتها وتستشعر فوائدها.

لذا فمن المنطقي -في نظر الدول الكبرى- أن تتولى القيادة. وعندما لا تفعل، تُصبِح المنافع العامة العالمية أقل من الضروري. فعندما أصبحت بريطانيا أضعف من أن تضطلع بهذا الدور بعد الحرب العالمية الأولى، استمرت الولايات المتحدة الانعزالية في ممارسة الركوب بالمجان، وكانت النتائج كارثية.

يخشى بعض المراقبين أن تمارس الصين الركوب المجاني مع نمو قوتها بدلا من المساهمة في النظام الدولي الذي لم تشارك في خلقه. وحتى الآن، كان السجل مختلطا. فالصين تستفيد من نظام الأمم المتحدة وتتمتع بحق النقض في مجلس الأمن. وهي الآن ثانية الدولة الكبرى الممولة لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، كما ساهمت في برامج الأمم المتحدة المتصلة بفيروس أيبولا وتغير المناخ.

كما استفادت الصين إلى حد كبير من المؤسسات الاقتصادية المتعددة الأطراف، مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي 2015، أطلقت الصين البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي رأى فيه مراقبون بديلا للبنك الدولي؛ ولكن المؤسسة الجديدة تلتزم بالقواعد الدولية وتتعاون مع البنك الدولي.

من ناحية أخرى، كان رفض الصين حكم محكمة التحكيم الدائمة العام الماضي ضد مطالباتها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي سببا في إثارة تساؤلات مزعجة. ولكن حتى الآن لم يسع سلوك الصين إلى إسقاط النظام العالمي الليبرالي الذي تستفيد منه، بل إنها تسعى إلى زيادة نفوذها في إطاره.

ولكن إذا مورِسَت عليها الضغوط وعُزِلَت بسبب سياسات ترمب، فهل ستصبح الصين راكبا مجانيا يدفع العالم إلى "فخ كيندلبرغر"؟

ينبغي لترمب أن يخشى أيضا "فخ ثيوسيديدز" الأكثر شهرة: الصين التي تبدو أقوى مما ينبغي وليس أضعف مما ينبغي. لا شيء في هذا الفخ قد يكون حتميا، وتأثيره مبالغ في تقديره غالبا. فمثلا، زعم العالِم السياسي غراهام أليسون أنه في 12 من بين 16 حالة منذ عام 1500، كانت النتيجة اندلاع حرب كبرى عندما تواجه قوة راسخة قوة أخرى صاعدة.

ولكن هذه الأرقام غير دقيقة، لأنه من غير الواضح ما الذي يشكل "حالة". فمثلا كانت بريطانيا القوة العالمية المهيمنة في منتصف القرن التاسع عشر، ولكنها سمحت لمملكة بروسيا بإنشاء إمبراطورية ألمانية جديدة في قلب القارة الأوروبية. وبطبيعة الحال، خاضت بريطانيا حربا ضد ألمانيا بعد نصف قرن عام 1914، فهل ينبغي لنا أن نعتبر هذا "حالة" واحدة أم اثنتين؟

لم تكن الحرب العالمية الأولى ببساطة حالة استجابة من قِبَل بريطانيا الراسخة لألمانيا الصاعدة. فبالإضافة إلى صعود ألمانيا، كانت الحرب العالمية الأولى راجعة إلى الخوف داخل ألمانيا من قوة روسيا المتنامية، والخوف من صعود القومية السلافية في الإمبراطورية النمساوية المجرية المنحدرة، هذا فضلا عن عوامل أخرى مختلفة ولا حصر لها عن اليونان القديمة.

ينبغي لترمب اليوم أن يخشى الصين التي هي أضعف مما ينبغي وأقوى مما ينبغي في نفس الوقت. ولكي يتسنى له تحقيق أهدافه، يتعين عليه أن يتجنب "فخ كيندلبرغر" وأيضا "فخ ثيوسيديدز"

أما عن أوجه التشابه الحالية، فإن فجوة القوة بين الولايات المتحدة والصين اليوم أكبر كثيرا مما كانت عليه بين ألمانيا وبريطانيا في عام 1914. وقد تكون المقارنة مفيدة كاحتياط عام، ولكنها تُصبِح خطيرة عندما تنقل حس الحتمية التاريخية.

فحتى الحالة اليونانية الكلاسيكية ليست مباشرة كما عرضها ثيوسيديدز. فقد زعم أن السبب وراء الحرب البيلوبونيزية الثانية كان نمو قوة أثينا والخوف الذي أحدثه ذلك في إسبارطة.

ولكن المؤرخ دونالد كاغان من جامعة ييل أثبت أن قوة أثينا لم تكن تنمو في حقيقة الأمر. فقبل اندلاع الحرب في عام 431 قبل الميلاد، بدأ ميزان القوى يستقر. وقد دفعت الأخطاء السياسية التي ارتكبتها أثينا أهل إسبارطة إلى الاعتقاد بأن الحرب ربما تستحق المجازفة.

كان نمو أثينا سببا في اندلاع الحرب البيلوبونيزية الأولى في وقت سابق من ذلك القرن، ولكن الهدنة التي دامت ثلاثين عاما أخمدت النار. ويزعم كاغان أن بدء الحرب الكارثية الثانية كان يتطلب شرارة تسقط على إحدى حفر النار المتأججة النادرة والتي لم تنطفئ بشكل كامل، ثم تأججت بشكل مستمر وقوي بسبب الاختيارات السياسية الرديئة. بعبارة أخرى، لم تندلع الحرب بسبب قوى غير شخصية، بل بقرارات رديئة في ظروف صعبة.

هذا هو الخطر الذي ينتظر ترمب مع الصين اليوم. وينبغي له أن يخشى الصين التي هي أضعف مما ينبغي وأقوى مما ينبغي في نفس الوقت. ولكي يتسنى له تحقيق أهدافه، يتعين عليه أن يتجنب "فخ كيندلبرغر" وأيضا "فخ ثيوسيديدز". ولكن يتعين عليه -في المقام الأول من الأهمية- أن يتفادى الحسابات والتصورات الخاطئة والأحكام السريعة التي يُبتلى بها التاريخ البشري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.