تونس المرَوَّعة

قوات أمن منتشرة قرب وزارة الداخلية التونسية/نوفمبر/تشرين الثاني 2016/قرب مقر وزارة الداخلية/العاصمة تونس

تُلقي الهجمة الإرهابية الأخيرة التي ضربت إحدى أسواق الكريسماس (عيد الميلاد) في برلين -والتي أسفرت عن مقتل 12 شخصا، وإصابة أكثر من خمسين آخرين- بظلال كئيبة على احتفالات الأعياد هذا العام في مختلف أنحاء أوروبا.

وبالنظر إلى هذا الحدث من تونس -حيث تزامن وجودي فيها مع وقوع الحادث والتداعيات التي ترتبت عليه- أستطيع أن أجزم بأن هذا الهجوم خَلَّف أيضا تأثيرا كبيرا آخر، وإن كان مختلفا. فتونس على أية حال هي موطن أنيس العمري، الذي هو الجاني المزعوم.

مثلهم كمثل الأوروبيين، يخشى التونسيون الإرهاب. ولكنهم لا يخشون وقوع هجمات إرهابية فردية فحسب،كتلك التي استهدفت متحف باردو في تونس العاصمة وأحد فنادق الشاطئ بمدينة سوسة عام 2015، أو حتى الاغتيالات السياسية العديدة التي شهدتها تونس منذ بدأ تغيير النظام في عام 2011.

بل يساور التونسيين القلق الشديد من اضطرابات اجتماعية محتملة تدمر ديمقراطيتهم الشابة الرائعة، والتي لا تزال هشة رغم ذلك. وتقدم لهم ليبيا المجاورة مثالا توضيحيا صارخا للكيفية التي قد تبدو عليها مثل هذه الاضطرابات.

الواقع أن مشهد الحكومة التونسية -وهي تحاول إدارة الموقف وحدها- ليس بالمشهد الجذاب. إذ يعلم التونسيون أن دولتهم ضعيفة وغير قادرة على حمايتهم حقا. وقد تنتهي بهم الحال إلى ما انتهت إليه مِصر التي تتحول إلى دولة بوليسية. أو ربما يتحركون في الاتجاه الذي سلكته الجزائر، حين أفسحت فترة وجيزة من مغازلة الإسلام السياسي -قبل 25 عاما- المجال لحملة قمعية صارمة وسنوات من الصراع العنيف

والواقع أن مشهد الحكومة التونسية -وهي تحاول إدارة الموقف وحدها- ليس بالمشهد الجذاب. إذ يعلم التونسيون أن دولتهم ضعيفة وغير قادرة على حمايتهم حقا. وقد تنتهي بهم الحال إلى ما انتهت إليه مِصر التي تتحول إلى دولة بوليسية. أو ربما يتحركون في الاتجاه الذي سلكته الجزائر، حين أفسحت فترة وجيزة من مغازلة الإسلام السياسي -قبل 25 عاما- المجال لحملة قمعية صارمة وسنوات من الصراع العنيف.

وما يزيد الأمور سوءا هو المخاوف بشأن الإرهاب التي قتلت صناعة السياحة الكبيرة في تونس، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الاقتصاد بشدة. ونتيجة لهذا، تحاول الدولة -التي تتلقى الدعم من صندوق النقد الدولي بالفعل- شراء الاستقرار الاجتماعي بزيادة التوظيف في الدولة. ولاحتواء عجز الموازنة المتزايد الضخامة؛ اختارت تونس زيادة الضرائب، وهو ما من شأنه أن يزيد تراجع النمو.

وقد اكتسب هذا التدهور طابعا مؤسسيا برفض النقابات الرئيسية لأي تسوية وإصابة المجتمع المدني بخيبة الأمل. ويفتقر الشباب التونسي -بشكل خاص- إلى الثقة في المؤسسات، وهي مشكلة بالغة الخطورة في بلد تقل أعمار 38% من سكانه عن 25 عاما.

يأتي الشباب -الذين التقيت بهم في تونس، وجمعت بينهم المنظمة البريطانية غير الحكومية "الفِكر التقدمي" التي تروج للتفاهم بين وجهات النظر العلمانية والدينية للعالَم- من مختلف ألون الطيف السياسي. ولكن يجمع بينهم قاسم مشترك واحد: فهم يعتبرون أنفسهم من ضحايا العولمة.

ومن منظورهم، يتآمر المجتمع الدولي عليهم فيقوض فرصهم في العثور على فرصة عمل وتكوين أسرة. وقد خلق هذا التصور أرضا خصبة لتجنيد الإرهابيين؛ فقد أرسلت تونس عددا منهم أكبر من أي دولة أخرى للقتال في سوريا والعراق.

كان تهديد الإرهاب العابر للحدود سببا في اجتذاب اهتمام المجتمع الدولي بتونس. ولكن هذا ليس السبب الوحيد الذي يحتم علينا الاهتمام بمصير هذه البلاد. إذ إن تونس تبقى منارة الأمل للديمقراطية والحرية السياسية في المنطقة.

قمت بزيارة تونس بصحبة مسؤول سابق من أوكرانيا، وهي البلد الذي تجمع بينه وبين تونس قواسم مشتركة عديدة، على الرغم من اختلاف تاريخ وثقافة البلدين. فقد شهدت أوكرانيا أيضا ثورة دَفَعَت بزعيمها السابق إلى المنفى، غير أن الإصلاحات هناك كانت متعثرة.

وقد واجه البلدان ارتباكات وعراقيل خطيرة جراء الحرب (في ليبيا المجاورة بالنسبة لتونس)، بما في ذلك تدفق النازحين (كل من البلدين يؤوي نحو مليونيْ لاجئ).

يتعين على المجتمع الدولي أن يساعد في ضمان تمكين كل من تونس وأكرانيا من تحقيق كامل إمكانات ثورتيهما. ولابد أن يتضمن ذلك المساعدة في التعامل مع اللاجئين، فضلا عن دعم الإصلاحات العريضة الداعمة لقوة الدولة، وهو الأمر الأكثر أهمية.

الواقع أن الحوار السياسي -الذي انطلق في تونس بفضل حركة النهضة الإسلامية والأحزاب غير الدينية في البرلمان- أنقذ البلاد من الهاوية السياسية، بالرغم من كل العيوب التي تشوبه. ولكن ما لم تتمكن الحكومة من تنفيذ الإصلاحات، فسينهار الحوار وتنهار معه آفاق الشباب التونسي.

يتعين على المجتمع الدولي أيضا أن يقدم لتونس الموارد اللازمة لتعزيز أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء. هذا فضلا عن رؤية لتكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي للمساعدة في توجيه العملية السياسية، كما حدث في أوكرانيا

تحمل أوكرانيا درسا مهما هنا أيضا؛ فقد ترسخت عملية الإصلاح هناك جزئيا بفضل دعم خارجي كبير، ولكن أصحاب المصالح الراسخة ما زالوا يقاومون التقدم. وفي حين ينبغي للإصلاحات أن تكون ملكا خالصا لأهل البلاد، فمن الممكن أن تساعد قوى خارجية -وخاصة الاتحاد الأوروبي– في تعزيز الرؤية المحلية بتوفير مسار قابل للاستمرار نحو التغيير المؤسسي.

يصب مد يد العون لمثل هذه البلدان في مصلحة الاتحاد الأوروبي الذاتية. فهو أيضا يواجه أزمة اللاجئين التي لن يتمكن من التصدي لها من دون شراكات فعّالة. فعلى سبيل المثال، نجحت المؤسسات الأوروبية والحكومة الإسبانية في احتواء تدفق المهاجرين عبر مضيق جبل طارق.

ويتطلب استيعاب أزمة الهجرة الأوسع -وفي الوقت نفسه جعل الهجرة أقل خطورة على المهاجرين أنفسهم- عقدَ المزيد من الصفقات مع شركاء جديرين بالثقة. وهنا تشكل تونس مرشحا جيدا. وقد تمكنت أوروبا بالفعل من التفاوض مع تونس على ترتيبات لتقييد تدفقات المهاجرين وإعادة أولئك الذين رُفِضوا كلاجئين.

بيد أن هجوم برلين يسلط الضوء على حدود القدرة المؤسسية التي قد تتمتع بها أي دولة. ويبدو أن طرد أنيس العامري من ألمانيا تأخر بسبب تباطؤ البيروقراطية التونسية في تأكيد جنسيته.

لهذا السبب، يتعين على المجتمع الدولي أيضا أن يقدم لتونس الموارد اللازمة لتعزيز أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء. هذا فضلا عن رؤية لتكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي للمساعدة في توجيه العملية السياسية، كما حدث في أوكرانيا.

ولا يرتبط الأمر بعضوية الاتحاد الأوروبي، بل يتعلق بفتح الأسواق، وتخفيف القيود المفروضة على تأشيرات الدخول الذي ينبغي لنا أن نعترف بصعوبته بعد مذبحة برلين.

تخشى كل من تونس وأوكرانيا أن تزيد أوروبا من إحكام غلق أبوابها. وقد رأيت الضيق والهم في أعين الإصلاحيين الأوكرانيين بعد تصويت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، واستشعرت استجابة مماثلة في تونس عندما ظهرت هوية الشخص الذين نفذ هجوم برلين.

ولن تُفضي محاولات أوروبا لعزل نفسها عن العالَم إلا إلى حرمان مواطني هذه الدول من أي أمل في حياة أفضل داخل أوطانهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.