المشهد الليبي وجدل النوايا السيئة

حكومة الوفاق ومعركة سرت ضد تنظيم الدولة

كان قرار البرلمان الليبي يوم الثاني والعشرين من أغسطس/آب برفض منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني بمثابة صدمة هزت قلب المشهد السياسي الليبي الذى ظل منذ اتفاق الصخيرات في حالة شلل رغم ما يجرى حوله من معارك وضجيج.

لاشك أن هذه الصدمة أعادت نوعا من الحياة ليس فقط لإحداثيات المشهد ورموزه، بل أيضا إلى الشارع الذى فوجئ حقا بماجرى، ورغم التباين في تفاصيل ردات الفعل فإنه يمكن تصنيفها في تيارين يؤيدان ما حدث كل حسب تفسيره ورغبته.

فالأول يرى في قرار البرلمان برفض التشكيلة الحكومية المقترحة صفعة في محلها وموقفا شجاعا طال انتظاره ضد ما يسميه هؤلاء "حكومة الوصاية المفروضة من الخارج". ولهذا السبب فأصحاب هذا الرأي مؤيدون للقرار دون تحفظ غير أن هؤلاء يأملون في أن يؤدى عدم منح الثقة لهذ التشكيلة إلى سقوط المجلس الرئاسي سواء لعدم تمكنه من تقديم تشكيلة جديدة في المدة المحدد، أو لعدم نيل التشكيلة الجديدة لثقة البرلمان.

وسيؤدي ذلك في نهاية المطاف -حسب هؤلاء- إلى نهاية اتفاق الصخيرات والعودة إلى التفاوض من جديد، وهذا الأمر يبدو للكثيرين تطرفا بالغ الخطورة لأنه لا يفتح بابا للحوار بل مرحلة أخرى من التناقضات والصراع الدامي الذى لا يملك أيا من أطرافه أدوات حسمه عسكريا.

 

أما التيار الثاني -ويبدو أنه يمثل الأغلبية- فيرى أن هذا القرار -رغم ما قد يثور حوله من جدل شكلي وقانوني- قد حقق جملة من النتائج الإيجابية التي من أجلها يجب تأييده دون النظر إلى تحفظات تضر ولا تنفع بالنظر إلى الواقع الليبي الذى ينغمس في العبثية والفوضى كل يوم.

ولعل أهم الإيجابيات التي ينسبها هؤلاء إلى قرار البرلمان تتمثل في التالي:

1- أنه حرك المشهد الراكد وخلق ديناميكية جدلية وحوارا بين أطراف توقف بينها الحوار منذ مدة طويلة.
2- أعاد العلاقة بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب من خلال الفعل والاستجابة بغض النظر عن الشكل الذى ظهر من خلاله.
3- فتح الباب أمام ديناميكية جديدة في الجدل بين مختلف فئات المجتمع نظرا لبروز موضوعات أثارها صدور القرار.

هكذا بدت ردات الأفعال والمواقف بين الناس، ولكن لعل الأهم هي المواقف وردود الأفعال التي أبدتها الأطراف المنخرطة في الصراع والحوار سواء كانت مؤسسات أو قوى لها فاعليتها على الأرض، فالملاحظ أنها جاءت خالية من الرفض المبدئي، ولهجة التصعيد كما كان معتادا في السابق عند صدور تصرف أو فعل من أحد الأطراف، مما أوحى للبعض بأن هناك تفاهمات مسبقة قبل صدور القرار شاركت فيها أطراف متعددة محلية ودولية.

ومع ذلك فإن ما صدر عن مجلس النواب من تصريحات وإجراءات مصاحبة ولاحقة للقرار أضفت شيئا من الغموض المتعمد على مقاصد القرار، مما أدى في المقابل إلى جعل المجلس الرئاسي يبدى قبوله للقرار في صيغة لا تخلو من تحفظات بين السطور، وعلامات استفهام مبطنة تضفي بدورها غموضا مقصودا على فحوى قرار القبول الصادر عن المجلس الرئاسي.

لعل أهم مواطن الغموض من جانب مجلس النواب هو طلب رئيس المجلس المصاحب لقرار حجب الثقة عن تشكيلة الحكومة المقترحة والذى أفصح فيه عن منح المجلس الرئاسي مهلة عشرة أيام لعرض تشكيلة جديدة، ثم عاد وصرح لاحقا بأن ذلك مجرد اقتراح من أحد أعضاء مجلس النواب وأنه في كل الأحوال سيعرض على اللجنة التشريعية في مجلس النواب، وكذلك تصريحات بعض أعضاء مجلس النواب التي أكدوا فيها بأن غرضهم من التصويت ليس حجب الثقة عن التشكيلة المقترحة فقط، بل إسقاط المجلس الرئاسي بالتبعية، لأنه فشل مرتين في تقديم تشكيلة يرضى عنها مجلس النواب، كذلك دعوة النائب على القطراني والوزير المفوض عمر الأسود للالتحاق بالمجلس الرئاسي التي تبدو متناقضة تماما مع الدعوى لإسقاط المجلس كمحصلة لقرار حجب الثقة عن التشكيلة المقترحة.

لاشك أن مثل هذه الإعلانات والتصريحات التحوطية تعنى أن ليس هناك شيئا واضحا ولا أكيدا ولا نهائيا في كل ما جرى ما عدا حجب الثقة، وأن كل الأبواب مشرعة أمام التراجع أو التقدم على ضوء ردة فعل الطرف الآخر قبولا أو رفضا للموضوعات التي ستطرح بعد صدور القرار.

في المقابل لم يخل بيان المجلس الرئاسي من مؤشرات تدل على وجود تناقضات بين سطوره، ففي الوقت الذى يرحب فيه بالقرار الصادر عن مجلس النواب، يطلب من الوزراء الذين يسميهم بالمفوضين أن يستمروا في أداء مهامهم إلى حين اعتماد النواب لتشكيلة الحكومة الجديدة في جلسة صحيحة، وكأن هؤلاء الوزراء هم فعلا وزراء في حكومة سبق وأن نالت الثقة من البرلمان لكى تستمر في تسيير الأعمال لحين اعتماد حكومة جديدة.

ويعني هذا أن المجلس الرئاسي سيظل محتفظا بما يسميه الحكومة المفوضة إلى أن يتم اعتماد تشكيلة حكومة التوافق، وأنه لا يقبل أن تقوم الحكومة المؤقتة المنبثقة عن مجلس النواب بإدارة شؤون البلاد إلى حين نيل حكومة التوافق ثقة مجلس النواب.

إن ما يمكن استخلاصه من مشهد الأفعال وردود الأفعال بين الطرفين هو مجموعة من الحقائق لا تساعد على الخروج من المأزق الليبي وأهم هذه الحقائق هي:

1- وجود أزمة ثقة عميقة بين الطرفين تجعل كل منهما يفكر في التحوطات والضمانات قبل أن يقوم بأي فعل أو رد فعل تجاه الآخر، وهذه الحالة عندما تسود بين أي طرف وآخر فإن أسلوب التعامل بينهما سيغلب عليه الطابع التآمري أكثر من روح التعاون، وقد لا تكون الأضرار كارثية عندما يتعلق الأمر بصراع بين أشخاص عاديين أو شركات أو جماعة محدودة الأهمية، ولكن إذا كانت القضية التي يجرى على خلفيتها مثل هذا المشهد هي الوطن فإن نتيجة هذا الصراع تكون كارثية لأن ضحيتها هو الشعب.

2- تربص كل طرف بالآخر، فهناك تيار في مجلس النواب لايستهان به يطمح إلى الإطاحة بالمجلس الرئاسي وليس إلى التعاون معه، وبالتالي فإن تفكير هؤلاء يستغرقه البحث عن الوسائل والفرص التي تؤدى إلى التخلص من المجلس الرئاسي وليس البحث عن إمكانية إيجاد السبل للالتقاء والتعاون، كما أن ما يظهر من حراك المجلس الرئاسي وتصرفاته يدل على أنه يرى في مجلس النواب خصما له، وبالتالي ينبغي مواجهته وتحجيم قدرته على الفعل بأية وسيلة ممكنة، حتى لا يكون قادرا على اتخاذ مواقف وقرارات تتعارض مع رغبات المجلس الرئاسي ولاسيما الأعضاء الذين يرفضون من منطلق أيديولوجي كل قرارات ومواقف البرلمان المتعلقة بالمليشيات المسلحة والإرهاب والجيش.

لعل إحدى أهم إشكاليات المشهد السياسي الليبي تكمن في حقيقة أن المجلس الرئاسي يمثل ملتقي التناقضات بين أطراف الصراع في هذا المشهد، ولهذا فإن كل طرف من هؤلاء يخشى أن يتحول هذا المجلس إلى أداة في يد خصمه يفرض من خلاله إرادته ويمرر أجندته السياسية أو الأيديولوجية.

هذا ما يبدو عليه المجلس الرئاسي إذا ما نظر إليه كل طرف من أطراف الصراع على أنه إحدى المؤسسات التي أفرزها اتفاق الصخيرات، أما إذا نظرنا إليه من الداخل كشبكة من العلاقات بين مجموعة من الأفراد كل منهم يمثل طرفا من أطراف الصراع، فإننا نجد طبيعة العلاقة السائدة بين كل عضو وآخر داخل هذه المؤسسة تتسم بالشك والريبة والتوجس حيال ما يصدر عن الآخر من تصرف أو تفسير لأى إجراء أو موقف.

لاشك أن عدم التوافق والانسجام التام داخل مؤسسة تجمع بين فرقاء متخاصمين أمر متوقع، ولكن كان يمكن لهذا الاختلاف أن يجرى تحت سقف متفق عليه وفي حدود واضحة يضطر الجميع إلى مراعاتها وعدم تجاوزها وهذا على ما يبدو لم يتوافر في اتفاق الصخيرات.

كان اتفاق الصخيرات محصلة التقاء شكلي لإرادات لم يكن أي منها راضيا على ما توصل إليه من نتائج لهذا الاتفاق، لأن الدافع الحقيقي وراء لقاء هذه الأطراف كان في المقام الأول هو اتقاء ضغوطات وردود أفعال القوى الدولية التي كانت تلوح وتدفع المتصارعين نحو اللقاء والتحاور, فلم يكن سبب مجيء هؤلاء إلى طاولة الحوار هو قناعة كل واحد منهم بضرورة التحاور وتقديم تنازلات واضحة ومحددة من أجل تحقيق غاية جماعية كبرى وهى بناء وطن يسعهم جميعا في ظل دولة مدنية خالية من المليشيات والتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.

لقد جاءت نصوص اتفاق الصخيرات المتعلقة بأخطر القضايا الخلافية فضفاضة أو غامضة ومثيرة للجدل لتتوافق-بطبيعة الحال- مع "سوء النوايا" المبيتة للأطراف التي ستقوم لاحقا بتفسيرها في مرحلة التنفيذ، فالمليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود ومؤسسة الجيش ومحاربة الإرهاب ظلت موضوعات شائكة داخل الاتفاق؛ لأن نصوصها الملغمة وتفسيراتها القابلة لتأويلات كثيرة لم تحظ بتوافق واضح خال من اللبس وسوء النية.

وبما أن هذه القضايا هي المسائل الجوهرية في حالة الصراع الليبي، فإن بقية نصوص الاتفاق وما أفرزته من مؤسسات كالمجلس الرئاسي ومجلس الدولة والبرلمان أصبحت رهائن وضحايا عدم وضوح التوافق في هذه المسائل. ومن هنا بدت العلاقة بين هذه المؤسسات التي لم يكتمل تأسيس بعضها بعد، علاقة خصومة وتربص لتعكس الغموض وسوء النية المضمرة في ما سمى بالتوافق حول هذه المسائل الجوهرية التي تعتبر هي العمود الفقري لهذا الاتفاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.