آفات الإسلاميين

غلق المساجد والتضييق على الإسلاميين

هروب من الواقع
أزمة وعي
دعاة لا قضاة

الفهم المشوه للحرية كأحد أهم أعمدة وقواعد الدين الإسلامي، تشكل آفة الآفات لدى قطاعات معتبرة من المنتسبين إلى الجماعات الإسلامية في المنطقة العربية، وتعتبر أحد أهم الأسباب وراء مزالقهم الأخيرة وانحدارهم المريع تحت سياط النزعة المتشددة والفكر المتطرف.

هروب من الواقع
يتفنن العديد من المنتسبين إلى الجماعات الإسلامية في الهروب من الواقع في ظل الانهيارات المتلاحقة للمشروع الحركي الإسلامي العام على مستوى المنطقة والعالم، ويعتقدون أن إعادة إنتاج التشدد والتطرف الديني تحت مسمى الأصالة والالتزام كفيل بنصرة الدين والحفاظ على القيم والأخلاق الإسلامية في المجتمع.

لم يبتدر هؤلاء أي محاولة جادة لفهم تطورات الواقع، ومراجعة الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها الجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة، والشروع في استخلاص العبر من مسيرة الآلام والدموع التي ألمت بالأمة مؤخرا، وبالتالي إعادة إنتاج رؤية جديدة ونهج جديد قادر على مواجهة تحديات المرحلة وتحمل أعبائها والعبور بالأمة وشعوبها إلى شاطئ المسؤولية وبر الأمان.

وحدها حركة النهضة التونسية، ومن قبلها الحركة الإسلامية المغربية والجزائرية، استدركت الموقف قبل فوات الأوان، وشرعت في مراجعات مهمة للحال والمسار، فيما البقية في أوهامهم سادرون.

وعندما أخطأ هؤلاء توجيه البوصلة، ساروا في الاتجاه الخطأ والطريق المعاكس، حتى صارت الأمة إلى ما صارت إليه، وأصبح الفكر المتشدد وتضييق الخناق على الناس والمجتمعات مهمتهم الأولى باسم الدين وتحت شعار الإسلام، والإسلام من ذلك بريء براءة الذئب من دم سيدنا يوسف عليه السلام.

يتفنن العديد من المنتسبين إلى الجماعات الإسلامية في الهروب من الواقع في ظل الانهيارات المتلاحقة للمشروع الحركي الإسلامي العام، ويعتقدون أن إعادة إنتاج التشدد والتطرف الديني تحت مسمى الأصالة والالتزام كفيل بنصرة الدين والحفاظ على القيم والأخلاق الإسلامية في المجتمع

ولعل أبرز مظاهر التشدد الحاصل ما يحمله هؤلاء من قناعات سوغت لهم ادعاء الوصاية على الدين، وأن فكرهم ومنهجهم هو الفكر والمنهج السليم، وأن ما عدا ذلك من أفكار ومناهج وسلوكيات وتطبيقات شيء دخيل ومرفوض في حده الأدنى، وقد يصل إلى الحكم على صاحبه بالكفر والزندقة في بعض الأحوال.

لذا، تجد هؤلاء منشغلون بترصد أحوال الناس في مجتمعاتهم، ومراقبة حركاتهم وسكناتهم، وتفحص كل شاردة وواردة لديهم، تحت زعم الدفاع عن الدين والقيم الدينية، وإذا ما مارس أحد أو نفر ما سلوكا يخالف رؤيتهم أو ما يعتقدون أنه عين الحق والصواب لديهم، ثارت ثائرتهم، وتشنجت ملامحهم، وأغمدوا خناجرهم في قلب مفهوم الحرية التي كفلها الشرع الحنيف، وتجلت، أيما تجلٍّ، في تطبيقات السيرة النبوية المشرفة والخلافة الراشدة.

بل إن التشدد والشطط بلغ بهؤلاء حد نبذ ومعاداة كل من يختلف معهم داخل الساحة الإسلامية الواحدة، حيث تصدرت شخصيات وجماعات إسلامية جبهة العداء مع شخصيات وجماعات أخرى تحت حجج وذرائع واهية، معتقدين أن لهم الحق المطلق والحرية الكاملة في احتكار الخطاب الديني وتمثيله والنطق باسمه، وأن الآخرين ينبغي أن يلتحقوا بهم وينضووا تحت عباءتهم في كل الأحوال والظروف.

أزمة وعي
ما يتقاذف المنطقة العربية من فكر متشدد يعبر أساسا عن اختلال في ميزان الفهم الديني الوسطي، ونقص في منسوب الوعي المطلوب، ما يدلل على أن الأزمة هي في جوهرها أزمة وعي، وما كان لنا أن ننعتها بــ "الأزمة" لولا جذورها الضاربة في كثير من عقول أبناء الجماعات الإسلامية التي افتقدت العمق المطلوب، ولاذت بالسطحية والاستعجال، ولم تلامس المعاني الراقية لفقهي الأولويات والموازنات، في إطار الواقع المعقد الذي نعيش تفاصيله المتشابكة ونواجه تطوراته المتلاحقة لحظة بلحظة.

الجهل الكبير بكليات الدين ومقاصد الشرع الحنيف، والعنصرية الفكرية والحزبية التي تكرس الفكر والنهج الأحادي، يشكلان ضلعين أساسيين للأزمة الراهنة التي لا تعبر عن روح الفهم الوسطي للدين، ولا تجسد سمات وخصائص الدعوة الإسلامية التي تركز على نشر الوعي وبث القيم بالحكمة والموعظة الحسنة بعيدا عن وسائل القوة والإكراه، وتعتمد التدرج في الخطوات لتحقيق الأهداف والغايات بمعزل عن حرق المراحل والقفزات غير محسوبة النتائج والعواقب.

من أروع ما قرأت تلك الدرر البهية والنفائس الغالية التي نثرها الإمام حسن البنا على شكل كلمات قليلة العدد، عميقة الأثر والدلالة والمضمون، فيما يخص علاقة أبناء الجماعات الإسلامية بالناس والمجتمع.

كلمات الإمام البنا رائعة، وفيها يعلمنا درسا عميقا في أصول وسبل الدعوة الإسلامية، ويرسم لنا خارطة طريق حول كيفية احترام الناس والتعامل مع المجتمع، قائلا: "إن الناس قد بنوا لهم أكواخا بالية من عقائدهم، فلا تهدموا عليهم أكواخهم فيتنكرون للحق، ولكن ابنوا لهم قصرا من العقيدة السمحة، فيهدمون أكواخهم بأيديهم ويدخلون القصر".

كلمات الإمام البنا يفترض أن تشكل دستورا حقيقيا لأبناء الجماعات الإسلامية، وأن ترد بقوة على المتنطعين ودعاة التشدد والتطرف الذين انحرفوا عن جادة الوسطية الدينية، وسوّل لهم تفكيرهم القاصر اقتحام ساحة مجتمعاتهم دون هدى راشد أو كتاب منير.

لا تصدر أخطاء الإسلاميين إلا عن غبي جاهل، أما صاحب البضاعة السليمة والزاد الفكري العميق فيتمهل كل التمهل في طرق أبواب المجتمع، ويلتمس كل سبل الحكمة والرحمة والتفاهم والموعظة الحسنة في التعامل مع الناس، اقتداء بسنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، وامتثالا للتجارب الإسلامية الحديثة التي وعت أبلغ الدروس والعبر، وأدركت أن تقصير الطرق لبلوغ الأهداف الإسلامية النبيلة يكمن في فهم تضاريس الناس والمجتمع، وانتقاء الأدوات الصحيحة والوسائل المناسبة للتعامل معهم وتغيير قناعاتهم وسلوكياتهم، فكريا وسياسيا.

ما يؤسف له أن البعض من أبناء الجماعات الإسلامية الذين اعتمدوا في تحصيل بضاعتهم العلمية وزادهم الفكري على التلقين دون التمحيص يعتقدون أن فرض تطبيق الشريعة الإسلامية يشكل الحل الأمثل والرد الأجدى على مشكلات وتحديات الأوضاع الراهنة التي تعيشها الأمة

بين يدي التعاليم الراشدة والدعوة الحقة والقيم الناصعة التي يجب أن نحملها للناس يبدو الفرق واضحا بين السلوك الإسلامي الذي ينحاز إلى التبشير بالفكرة والمبدأ على أساس القاعدة الذهبية التي أرساها الإمام البنا، وبين السلوك المنفّر الذي يعتقد أن طهارة الفكرة ونقاء المبدأ وسلامة الهدف يجيز له قهر المجتمع ويمنحه حق فرض رؤيته القسرية على شرائحه المختلفة دون إعمال آليات الحكمة والإقناع وإطلاق يد التدرج في البناء والتغيير.

وما يؤسف له أن البعض من أبناء الجماعات الإسلامية الذين اعتمدوا في تحصيل بضاعتهم العلمية وزادهم الفكري على التلقين دون التمحيص يعتقدون أن فرض تطبيق الشريعة الإسلامية يشكل الحل الأمثل والرد الأجدى على مشكلات وتحديات الأوضاع الراهنة التي تعيشها الأمة وشعوبها المكلومة.

لا يدرك هؤلاء أن الشريعة الإسلامية ليست مجرد تطبيق حدود وعقوبات كما يتصورون، وأن العقوبات المنصوص عليها في الشريعة تشكل جزءا بسيطا وتشغل حيزا لا يكاد يذكر إلى جوار القيم الكبرى والمبادئ العظمى والتعاليم السامية التي تحفل وتنادي بها، وأن نظام الحدود والعقوبات في الشريعة له اشتراطاته الصارمة ومحدداته الدقيقة التي تقع الحرية والكفاية الاقتصادية الشخصية ضمن أبرز دوائرها وفقا لفتاوى جمهور الفقهاء المعاصرين.

الشريعة هي قيم ومبادئ وتعاليم قبل أن تكون حدودا وعقوبات، ولا يمكن للجماعات الإسلامية أن تسلك سبل الفرض والإكراه تحت أي صفة أو حجة كانت، فالقيم والمبادئ والتعاليم لا يمكن تنزيلها إلى واقع المجتمع دفعة واحدة، ولا مفر من بذل التوعية بسلوك سبل التدرج المطلوب، والتعامل مع خريطة المجتمع وشرائحه المختلفة بمنطق الرفق والحكمة والإقناع الذي نزل به القرآن وتعاليمه السامية.

دعاة لا قضاة
منذ عدة عقود قام الداعية الإسلامي حسن الهضيبي بتأليف كتاب بعنوان "دعاة لا قضاة"، وهو كتاب مهم بالمنظور الدعوي، ويشكل مرجعا أساسيا لكل من أراد التماس السبل الدعوية الناجزة بالطرق السليمة والأساليب الصحيحة من أبناء الجماعات الإسلامية.

الكتاب يقدم رؤية واعية لا لبس فيها حول سبل الدعوة الإسلامية، وضرورة انسجامها التام مع النصوص القرآنية الصريحة التي تعطي الناس حرية التفكير واختيار الدين والمعتقد. "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة، الآية 256)، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (سورة الكهف، الآية 29)، "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل، الآية 125).

بين الظروف التي اضطرت الهضيبي إلى تأليف كتابه وظروفنا الحاضرة مشتركات واضحة إزاء علو نبرة المتنطعين والمتشددين الذين يسيئون إلى مجتمعاتهم، كما يسيئون إلى الدعوة الإسلامية بأكثر مما يخدمونها، ويُنفّرون الناس منها بدلا من أن يبشروهم بها ويجمعونهم حولها ويستقطبونهم لصالح برنامجها ومشروعها.

رحم الله الداعية محمد الغزالي الذي حذر من خطر الدعاة الذين حادوا عن منهج الدعوة الإسلامية السليم، وجعلوا من أنفسهم قضاة يطلقون أحكامهم على الناس، مؤكدا أن أولئك يتسببون بالضرر للدعوة ويسهمون في تأخر مسيرها أكثر مما يتسبب به خصومها وأعداؤها.

من يواجه مجتمعه بخشونة وتشدد هو دعيّ وليس بداعية، ومن يتجاوز قيم الرحمة والتسامح والتيسير والتبشير والتعامل الحسن مع الناس أبعد ما يكون عن قيم وروح الإسلام، وإن حاز على أعلى الشهادات في العلوم الشرعية أو لبس ثوب الدعاة وانتسب إلى صفوفهم وشاركهم مجالسهم

ومن هنا نجد الكثير من أبناء الجماعات الإسلامية اليوم الذين قصرت بهم دروب العلم عن التوغل في مسالكه العميقة، وانحازوا لانفعالاتهم السريعة بعيدا عن إعمال آليات التفكير الصحيح وفقا لقواعد الشرع وأصول والدعوة، يستسهلون إطلاق النعوت والأحكام على أفراد المجتمع وكأنّ الله تعالى قد جعل منهم قضاة على الخلق وحكاما على الناس، ويتناسون أن الله تعالى قد خلقهم لعبادته من جهة، والدعوة إليه بالحكمة والحسنى وفق منهج الإسلام الوسطي من جهة أخرى.

الفارق أبعد ما يكون بين عمل إسلامي هادئ وسليم، يجمع الناس ويؤلف القلوب، مشفوعا بأساليب الرحمة وآليات الحوار والإقناع والجدال بالتي هي أحسن، وبين عمل لا يرى إلا في اجتراح سياسة الإجبار والإكراه طريقا، ويعتقد أن المجتمع لا يستجيب إلا تحت نوازع الضغط القسري والإملاء المجرد.

ما نعانيه اليوم من مشكلات في المجتمعات العربية يثبت مدى حاجتنا إلى إعادة تأهيل هؤلاء الأدعياء، علميا ودعويا وتربويا، وضبط عملهم وجهدهم وحراكهم داخل المجتمع وفق المعايير الدعوية والضوابط الشرعية التي تحتكم إلى مرجعية النصوص القرآنية والأحاديث والسيرة النبوية، وتدور في فلك مصلحة الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين، ومصلحة الدعوة الإسلامية التي جاءت لنقل الناس من الظلمات إلى النور.

من يواجه مجتمعه بخشونة وتشدد هو دعيّ وليس بداعية، ومن يتجاوز قيم الرحمة والتسامح والتيسير والتبشير والتعامل الحسن مع الناس أبعد ما يكون عن قيم وروح الإسلام، وإن حاز على أعلى الشهادات في العلوم الشرعية أو لبس ثوب الدعاة وانتسب إلى صفوفهم وشاركهم مجالسهم وتصدّر منتدياتهم.

وهكذا فإن مصلحة الجماعات الإسلامية اليوم تقتضي بناء العلاقات الطيبة مع كل الفئات والشرائح داخل مجتمعاتهم، والانخراط الإيجابي في كل الأوساط الشعبية، والعمل على تقديم رؤية إسلامية واعية ومتنورة ومتوازنة ومقنعة لحل المشكلات المتفاقمة ومعالجة التحديات القاسية التي تواجه مجتمعاتهم، والتعامل مع شعوبهم على أسس المحبة والتعاون بكل يسر وتواضع بعيدا عن أي تعالٍ أو استخفاف.

وأخيرا.. فإن ديننا الإسلامي ليس دين تشدد وتطرف وانغلاق، والمنهج الإسلامي ليس منهج "تطفيش" وتنفير وذبح وسفك للدماء بما يعيد إلى الأذهان محاكم التفتيش التي أذلت ناصية الأوروبيين إبان القرون الوسطى، لذا فإن امتلاك ناصية الحكمة يشكل أول وأهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها أبناء الجماعات الإسلامية كي يحوزوا على رضا وقبول شعوبهم ويستقطبوا تأييدها لبرامجهم الإصلاحية التي ينبغي أن تبنى على التسامح والوسطية والاعتدال، وكي يأخذوا بأيدي الناس نحو فهم النموذج الإسلامي المنشود الرامي إلى خير الناس ومصلحة العباد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.