حفتر في الموانئ النفطية.. مشهد الإرباك الليبي

Workers perform maintenance on oil pipelines at the Sirte Oil Company in Brega October 20, 2013. For Libyan militia leader Ibrahim al-Jathran, shutting down half the country's oil production with an armed militia is not a crime, it is the start of a just battle for a fair share of country's petroleum wealth. From his base near the Mediterranean oil terminal of Brega, the 33-year-old war hero from the uprising against Muammar Gaddafi has taken control of the main oil ports to demand more autonomy and oil for his eastern region from faraway Tripoli. Picture taken October 20, 2013. To match Newsmaker LIBYA-OIL/PROTESTS REUTERS/Esam Omran al-Fetori (LIBYA - Tags: POLITICS BUSINESS ENERGY EMPLOYMENT CIVIL UNREST)

تبدو الأوضاع في ليبيا أقرب إلى خلطة ألوان تتموج مع تيارات الهواء، لا يمكن ضبط إيقاعها. خلال اليومين الماضيين تسارعت أحداث أضافت إلى المشهد المرتبك تعقيدات لم تكن في الحسبان.

مسار البيانات
– هجوم مباغت لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، قيل إنها مدعومة بمقاتلين من حركة العدل والمساواة السودانية، تنهار معه دفاعات قوة حرس المنشآت النفطية، وتفقد كل مواقعها تقريبا في الهلال النفطي الذي تسيطر عليه منذ قرابة ثلاثة أعوام.

– المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر يعلق على الأمر بأنه سيزيد حالة الانقسام، ويدعو إلى وقف "الأعمال العدائية".

– أعضاء المجلس الرئاسي، بينهم الرئيس بالإنابة يدينون العملية، ويعتبرونها عدوانا بمرتزقة على أرزاق الليبيين، ثم يصدر أمر وقعه نائب رئيس المجلس (الرئيس بالنيابة) موسى الكوني يأمر وزير الدفاع بالتحرك لحماية الموانئ النفطية.

– ونائب رئيس المجلس الرئاسي فتحي المجبري يطالب بالتريث.

– يظهر بيان باسم رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا فائز ممسكا العصا من الوسط، لا يطالب بالانسحاب، ولكنه في الوقت ذاته لا يصرح بقبول العملية من الأساس.

– مساء يوم الأضحى تهاجم مجموعات تابعة للجضران الموانئ وتشتبك مع قوات حفتر، وتسرب لوسائل إعلام سيطرتها على بعض الموانئ، وتنفي قوات حفتر السيطرة، وتؤكد الاشتباك.

الولايات المتحدة وخمس دول أوروبية تدعو قوات حفتر إلى الانسحاب، وإلى ضرورة خضوع الموانئ النفطية لسيطرة حكومة الوفاق.

– السراج يعلن رفضه خوض حرب ضد طرف ليبي، ويدعو إلى طاولة الحوار كل الأطراف، ويرفض التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا، ويدعو إلى وقف الأعمال الاستفزازية.

– المجبري والقطراني، وهما نائبا السراج من المنطقة الشرقية (المجبري كان محسوبا على آمر حرس المنشآت ـ فرع الوسطى إبراهيم الجضران، والقطراني رجل حفتر في المجلس) يصدران من القاهرة بيانا مشتركا يبارك خطوة السيطرة على الموانئ، ويشيد بالجيش.

تحالف القوى الوطنية الذي يتزعمه محمود جبريل يعلن تأييده للعملية، ويستنكر بيان الدول الست.
– رئيس المؤسسة الوطنية للنفط بطرابلس يعلن أن المؤسسة ستبدأ في التصدير، ويبارك خطوات "جيش البرلمان" وخطاب عقيلة صالح، وفي ذات الوقت يعلي من شأن المجلس الرئاسي باعتباره السلطة التنفيذية في البلاد.

سرد المعطيات الظاهرة لهذا المشهد أسهل بكثير من تفكيكه وإعادة تركيبه، لأن التفكيك والتركيب يعنيان حدا أدنى من الفهم،وهو ما يبدو غير يقيني، لكن تمكن المجازفة ببعض الاستنتاجات:

تداعيات الأزمة
1- لم تنته بعد معركة الهلال النفطي، لأن الهزيمة الأولية لقوات الجضران لا تعني نهاية وجوده على الأرض، وإن كان من الصعب أن يعود قوة سياسية ذات بال بعد الذي حدث، إلا إذا حقق انتصارا منفردا، وهو أمر يبدو صعب المنال.

الواضح عسكريا لحد الساعة أن مجموعات ذات مصلحة في حرب حفتر (الجضران، ووزير الدفاع في حكومة السراج المهدي البرغثي، سرايا الدفاع عن بنغازي) واتتها الفرصة لتجتمع في تحالف لم يكن مستبعدا خلال المدة الماضية. ولو أبرم هذا الاتفاق فلا شك أنه سيلقى بعض الداعمين الأسخياء خصوصا أن الحرب ستتم على تخوم مدينة سرت حيث تسيطر قوات سوادها الأعظم من مدينة مصراتة، وكلها تعادي حفتر كما تعادي تنظيم الدولة الذي التقت على حربه في سرت.

إن هذا التحالف لو وقع فسيعني أن نسخة مطورة من الحرب في بنغازي ستنتقل إلى منطقة الهلال النفطي، وهو ما يدق ناقوس خطر بالنسبة لأطراف المشهد جميعهم بمن فيهم أعداء حفتر، فلا أحد يريد تكرار مشهد تصاعد أعمدة الدخان من خزانات النفط الذي أعقب المناوشات بين الجضران، ومقاتلي تنظيم الدولة مطلع العام الحالي.

سيكون ميزان القوة ضد حفتر لو اندلعت مثل هذه الحرب؛ فخطوط إمداده بعيدة وغير سالكة؛ فقوة المهدي البرغثي الرئيسة في بنغازي، وله حلفاء غربها وشرقها، وللجضران مقاتلون في أجدابيا، ولسرايا الثوار حلفاء في بنغازي، يقاتلون حفتر، كما لهم وجود في أكثر من مكان على طول الخط، فيما ستكون خطوط إمداد التحالف المناهض مفتوحة من الجفرة جنوبا، وغربا من سرت ومصراتة، وطرابلس.

لقد علمتنا الحروب في ليبيا أنها لا تنتهي بهذه السهولة، وأنها ليست جولة واحدة.
2- يعصب التصديق بأن حفتر شن الهجوم على الهلال النفطي دون علم القوى الغربية، ودون إذن أو عدم ممانعة بعضها. لأن هذه القوى تمسح الأرض بطائراتها، وببوارجها الحربية، وجواسيسها على الأرض لا يتوقفون عن العمل، لكن من هي هذه القوى؟ وما حدود علمها؟ وما موقفها؟

لا يمكن الجزم بإجابات صريحة؛ لكن المؤكد أن الفرنسيين ظلوا على صلة واضحة بحفتر طيلة السنوات الماضية، وأن علاقتهم ببعض القوى الإقليمية التي تدعمه ما زالت على حالها، إن لم تكن تحسنت.

3- أكبر الخاسرين من الضربة بعد الجضران، هو المجلس الرئاسي الذي خرجت انقساماته إلى العلن بشكل أكثر حدة، وكشفت أنه توليفة غير متناسقة، ولا قريبة من التوافق فيما بينها على أساسيات معالجة الملفات الكبرى، كما أظهرت أن قنوات التواصل بين أقطابه ضعيفة إلى حد الانعدام. فهو لا يقف على أرضية واحدة من القضايا الكبرى، ولا على أراضي متقاربة.

4- رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج يبدو في موقف محرج؛ فلا هو ربح حفتر بصريح التعبير عن دعمه لعملية الاستيلاء على الموانئ، كما فعل نائبه المجبري، ولا هو ربح حلفاءه في المنطقة الغربية، ومناوئي حفتر في المنطقة الشرقية.

ربما تكون هذه نقطة قوته الوحيدة، إضافة إلى الاستثمار الغربي في دعمه لحد الساعة. الوقوف في المنتصف لن يكون نقطة قوة دائما؛ لأن قبول الأطراف بالسراج على اعتبار أنه ليس ضد أحد منها، قد يستحيل مع موقفه الحالي إلى رفض له من كل الأطراف لأن كل طرف سيحسبه ضده.

لقد أعدم موقف السراج الحالي مرجعية الاتفاق السياسي، لصالح ما يحاول أن يسوقه على أنه "توافق". القتال كان بين قوتين إحداهما تعترف بالسراج وبالاتفاق السياسي، والأخرى ترفض الاعتراف بالسراج، أو تعتبره ناقص الشرعية، وتماطل في القبول بالاتفاق السياسي. كان احترام الاتفاق السياسي الذي منه يستمد السراج شرعيته، يقتضي رفضا مطلقا لاستيلاء خليفة حفتر على الموانئ النفطية، لأن القوة التي تحرسها تعترف بشرعية السراج، وزارها وزير دفاعه أكثر من مرة، وكانت على وشك تصدير النفط تحت سلطته.

إن رفض الاستيلاء لا يقتضي بالضرورة إعلان الحرب، وهذا مافات السراج، ومستشاريه، إن كانوا أصحاب قرار فيما صدر عنهم لحد الساعة من تعليقات؛ بل كان الرفض سيظهر السراج رجلا يحترم مركزه، وسيكون بعدها مسموع الكلمة لدى كل الأطراف. ضعفت فرص هذه المسألة وإن لم تفت بالكلية، فما زال هناك خط رجعة، خصوصا من بوابة كون القوة تضم غير ليبيين، كما جزم بذلك أكثر من جهة. وربما ألمح السراج في تصريحه لحد الساعة إلى هذه المسألة.

احتمالات المستقبل
من الصعب رسم سيناريوهات مستقبلية جدية قبل أن تتحول ردود الفعل المكتوبة إلى أفعال؛ لكن هناك مؤشرات لا يمكن إغفالها عند استشراف مآلات الأوضاع:

1- منذ أسبوعين على الأقل والمبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر يعبر بما يفهم منه قبوله المبدئي بمكان لحفتر في مشهد ما بعد الاتفاق السياسي الذي صممت بعض مواده لإقصائه. فإذا كان كوبلر يريد غض الطرف عن وجود حفتر في مركز قوة بالموانئ النفطية، وصاحب ذلك قبول من حفتر بحكومة الوفاق، وقد اختفت من بياناته الأخيرة الإشارة السالبة إلى حكومة الوفاق، وحقق بوجوده في الموانئ عودة النفط إلى التدفق، وسلم الموانئ شكليا لسلطة حكومة الوفاق، فإنه بذلك يحقق مطالب الدول الغربية، ويضع للسراج مركزا جديدا، ويسحب الكثير من حجج حرب مضادة لاستعادة الموانئ. وهي نقاط كلها ستكون في صالح شعبية حفتر.

فإذا حقق كوبلر مع هذا قبولا من رئيس مجلس النواب، وحلفاء حفتر، بإعطاء الثقة لحكومة الوفاق، فإنها تكون أيضا أكسبت كوبلر والدول الغربية والمستثمرين في الاتفاق السياسي عموما، ما يمكن أن يسكت عنهم مناصري الاتفاق من القوى الداخلية التي تناهض حفتر.

2- أما إذا عاجلت بعض القوى (الجضران، البرغثي) الموانئ النفطية بهجوم قبل أن ينطلق منها التصدير واستطاعت استعادة بعض المواقع فيها، وهو أمر وارد جدا لأن بعضها وصل إلى حد الصراع الصفري مع حفتر، فإن ذلك يعني انهيار الاتفاق السياسي أو ضعفه إلى درجة قد تصل إلى عودة ما قبل الصخيرات؛ حكومتان في الشرق والغرب، تتنازعان الشرعية، تتمسك إحداهما بشرعية الاتفاق السياسي، والأخرى بشرعية مجلس النواب. ما يعني في المحصلة حربا جديدة في أكثر من مكان لمدة سنة أو تزيد، لا يمكن التنبؤ بما يتلوها.

3- قد تستطيع القوى الغربية احتواء الأزمة من جديد بإيجاد مخرج يرضي أغلب الأطراف، ويجعل لأزمة الموانئ مخرجا، ويقنع القوى المناهضة لحفتر بتأجيل إقصائه إلى ما بعد إقرار حكومة الوفاق من البرلمان واستلامها السلطة كاملة، إنه سيكون تأجيلا للمشكلة لا حلا لها، وتسييرا لمعضلة استعصت على الحلول، وهو أمر يمكن تصوره، خصوصا وأن المبعوث الأممي إلى ليبيا لا يريد أن يفشل في مهمته فشلا فاضحا.

عقدة حفتر
يبقى مع كل هذا حفتر هو العقدة الأساسية في المشهد الليبي، وقد كان في أضعف محطاته خلال الأسابيع الفارطة، لكنه استعاد بالاستيلاء على الهلال النفطي مركزه، وأعاد المشكلة الليبية إلى مربعات ما قبل اتفاق الصخيرات.

ليس حفتر الآن هو قبل سنتين، ولا داعموه بنفس قوتهم وحماسهم يومها، ولا خصومه بنفس القلة والضعف؛ فبعض حلفائه قبل سنتين يقاتلونه الآن، وبعض حلفائه الخارجيين يواجهون أوضاعا داخلية صعبة، والليبيون يتطلعون إلى أفق لا حرب فيه، ولا أشلاء ولا خصومات.

لا أحد من أطراف الصراع الليبي، ولا من القوى الدولية يعلن صراحة قبوله، أو سعيه إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين أو ثلاث، لكن كثيرا من تصرفات بعض أطراف المشهد تسير في هذا الاتجاه، وما من شك في أن دولة مثل فرنسا تتمنى ضعف الدولة المركزية في ليبيا لأن ذلك سيساعدها كثيرا في ممارسة ما تهوى في الجنوب الليبي. كما أن دولة مثل مصر يسرها ألا تقوى دولة المركز في ليبيا، لأن استفرادها بدولة في الشرق الليبي، أو بشرق ينحسر عنه ظل المركز سيمكنها من ممارسة ما تراه مصالح لها دون عناء كبير.

وكل سيناريوهات التقسيم أو ضعف المركز يخدمه استمرار الأزمة الحالية في مستواها الآن أو زيادة تعقيدها، وإبعاد الحلول الناجعة عنها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.