اللجوء والتشريد.. مأساة القرن

A migrant from Syria cries as she stands with her children on a field after crossing into Hungary from the border with Serbia near the village of Roszke, September 5, 2015. Austria and Germany threw open their borders to thousands of exhausted migrants on Saturday, bussed to the Hungarian border by a right-wing government that had tried to stop them but was overwhelmed by the sheer numbers reaching Europe's frontiers. Left to walk the last yards into Austria, rain-soaked migrants, many of them refugees from Syria's civil war, were whisked by train and shuttle bus to Vienna, where many said they were resolved to continue on to Germany. REUTERS/Marko Djurica

طمأنة المستبدين
أزمة أوروبية
مفتاح ألمانيا في قضية اللجوء

مأساة موجات التشريد واللجوء الحالية هي في الدرجة الأولى وليدة أحداث القرن العشرين الماضي وسياساته، وقد بلغت في هذه الأثناء درجات قد تجعلها المأساة الأخطر من سواها في القرن الحادي والعشرين.

وستعقد الأمم المتحدة في التاسع عشر من سبتمبر/أيلول ٢٠١٦ مؤتمر قمة حول وضع اللاجئين في العالم، يذكرنا بالاتفاقية الخاصة التي أبرمتها الهيئة الدولية نفسها حول وضع اللاجئين في ٢٨ يوليو/تموز ١٩٥١، قبل ٦٥ عاما، وسرى مفعولها بعد حوالي ثلاثة أعوام، وكان الدافع المبدئي لها معالجة أوضاع اللاجئين الأوروبيين نتيجة الحرب العالمية الثانية، وتزامنت مع عوامل سياسية جعلت الدولة الأميركية الأثرى عالميا تتحرك لصالح أوروبا، ومن ذلك ما عرف ببرنامج "مارشال" الذي ساهم في رفع المستوى الاقتصادي والمعيشي في غرب أوروبا المنكوبة، أما الآن فأصبحت أوروبا نفسها تتحدث عن "أزمة لجوء" تواجهها، وتعتبرها مصدر أخطار أمنية وثقافية ومالية.

طمأنة المستبدين
شمل الإعداد للقمة الأممية الجديدة المزمع عقدها اتصالات ومشاورات أضعفت سلفا التوقعات المعقودة عليها، ومع أن تلك التوقعات كانت متواضعة أصلا إلا أنها لم تصل إلى مستوى حلول فعالة لمعالجة مسببات التشريد واللجوء والنزوح، فكان أبرزها المطالبة بتعهدات رسمية لتوزيع ١٠ في المائة فقط من ضحايا المشكلة المأساوية على عدد أكبر من بلدان العالم، وسقط حتى هذا الاقتراح المتواضع من جدول أعمال القمة، بعد رفضه من غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

وبقي طرح تعهدات دعم مالي، لا تستدعي التفاؤل كثيرا حسب الخبرات السابقة، أما بقية النصوص المتوقعة فهي من باب التسويف، مثل "العمل على صياغة ميثاق عالمي بشأن اللاجئين عام ٢٠١٨"، وميثاق آخر من أجل "هجرة آمنة ومنظمة"، ولعل في هذا التسويف ما يطمئن الذين يسببون التشريد من المستبدين والفاسدين، فيستمر ارتكاب الجرائم الإنسانية، وفي مسودة البيان الختامي عبارات أخرى تكرر ذكر "نوايا حسنة" على غرار "التقاليد" المتبعة في التعامل مع معظم المآسي الإنسانية الكبرى، كالحديث عن مكافحة الفقر والمرض والقحط والجهل.

ورغم ضآلة النتائج المتوقعة، لا تغيب الديبلوماسية عن مواقف المسؤولين في المنظمة الدولية، مثل كارين أبو زيد، مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، وهي تؤكد أنها راضية للغاية عن الاتفاق المتوقع.
إذا كانت اتفاقية ١٩٥١ لم تفلح خلال ٦٥ سنة مضت في السيطرة على مشكلة اللجوء عالميا، فما الذي يمكن أن ينتظر من اتفاقية أممية جديدة بشأن حوالي ٦٥ مليون لاجئ ومشرد ونازح حاليا؟ ثم هل ستوجد معطيات حياة كريمة قبل أن يكبر الأطفال الأكثر تعرضا للمخاطر على اختلاف أنواعها؟ ويمثل الأطفال (حوالي ٢٨ مليونا) زهاء نصف المشردين واللاجئين والنازحين حسب المفوضية العامة لشؤون اللاجئين، وتضيف اليونيسيف ٢٠ مليون طفل آخرين من ضحايا العنف والجريمة المنظمة.

جميع المؤشرات ذات العلاقة بمشكلة اللجوء وصناعتها عبر الحروب والنزاعات والاستبداد والاضطهاد والفساد، تؤكد أنها مشكلة إنسانية كبرى باقية وستتفاقم، وأن أساليب التعامل الدولي معها تشعل أوارها ولن تزيلها أو تحدّ من عواقبها. ورغم الجهود الأممية الحالية يصعب التنبؤ بما ستكون عليه أوضاع اللاجئين المأساوية مستقبلا، ومتى تعلن المفوضية الأممية عن رقم قياسي آخر بشأن تعدادهم المتزايد رغم ارتفاع عدد من تقضي عليهم آلة القتل والقمع قبل رحلة اللجوء، أو تقضي عليهم مخاطر رحلات اللجوء وخيامه مرضا وحرقا وبردا وغرقا (المجموع ١١ ضحية يوميا.. منهم ما يناهز ٣ في المائة من أصل ٣٥ ألف مهاجر شهريا على قوارب الموت خلال عام ٢٠١٦).

أزمة أوروبية
في العالم الغربي الأثرى اقتصاديا ساهم الموقع الجغرافي لأوروبا الغربية في أن تكون الهدف الأول للمشردين من ضحايا الحروب والاستبداد طلبا للأمن والاستقرار، وللاجئين المهاجرين من ضحايا الفساد والسياسات الاقتصادية والمالية فرارا من الفقر والحرمان، إنما لا يمكن إغفال دافع آخر صنعته الإشادة الدائمة بأن بلدان "العالم الحر" تلتزم بمعايير حقوق الإنسان وسيادة القانون واستقلال القضاء، وما تقرره المواثيق الدولية بهذا الصدد، وقليلا ما يدرك اللاجئ مدى التأثير المضاد للمصالح المادية الكبرى على تطبيق الغرب لهذه المعايير، لا سيما في التعامل مع "الآخر".

ولا ينفي ما سبق تفاوت مستويات "نوعية التعامل" مع المشردين واللاجئين، وهي منخفضة عموما في دول الجوار الأفقر ماليا والأدنى استقرارا، ومرتفعة في غالبية الدول الأوروبية المعنية لتأمين حد أدنى من الضرورات والاحتياجات المعيشية إلى جانب الإجراءات الضرورية قانونيا وأمنيا و"بيروقراطيا"، وهذا ما يسبب تكاليف مادية كبيرة، هي "الوجه المالي" للأزمة، ويتجلّى في صراع السياسات البينية لدول الاتحاد الأوروبي، بينما لا يزال استغلال الأزمة سياسيا من جانب اليمين المتطرف وورثة التمييز العنصري، هو المحور الأهم بالمنظور الأوروبي، ويتجلى في الخلافات السياسية داخل كل دولة على حدة.

لا شك في خطورة أطروحات اليمين المتطرف، وضرورة أن تواجهه الأحزاب والتيارات الرصينة في الدول الأوروبية، ولكن تزداد في هذه الأثناء الأصوات الناقدة لأساليب خطيرة من حيث تعزيز مخاوف العامة، كتبنّي بعض تلك الأطروحات "لسحب البساط" من تحت أقدام الأحزاب المتطرفة واستعادة أصوات الناخبين. إذ يطرح مسؤولون رسميون في الحكومات الحالية (كوزيري الداخلية في ألمانيا وفرنسا) وكذلك أحزاب سياسية تقليدية (كالحزب المسيحي الاجتماعي في ألمانيا وحزب الجمهوريين في فرنسا)، مطالب جديدة أو "حلولا مقترحة" يربطونها بالسياسات الأمنية، وتستهدف النقاب أو الحجاب أو تشديد قوانين الترحيل أو الرقابة على المساجد وخطب الجمعة، ويتم ذلك رغم عدم ثبوت وجود ارتباط ما بنسبة تستحق الذكر بين هذه القضايا وما يقع من اعتداءات "إرهابية"، تثير مخاوف العامة بحق.

يسري شبيه ذلك على تصريحات رسمية بشأن نفاذ الطاقة الأوروبية على استيعاب اللجوء، كما كان مؤخرا من جانب رئيس الاتحاد الأوروبي، مع أن تعليل الرفض من جانب دول أوروبية شرقية ارتكز على رفض تأثير الإسلام المحتمل على "القيم" ذات الأصول المسيحية واليهودية، ولم تستقبل جميع دول أوروبا المتقدمة والثرية معا (سكانها أكثر من ٥٠٠ مليون نسمة) من اللاجئين برا وبحرا، ما يعادل عُشر من استقبلتهم دول جوار البلدان المنكوبة بالتشريد، كسوريا تخصيصا (١١ مليون نازح وزهاء ٥ ملايين مشرد، بمعدل ٥٠ عائلة كل ساعة منذ خمس سنوات) فحسب مصادر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين يعيش نصف مجموع اللاجئين والمشردين في العالم حاليا في ٨ دول من الدول الفقيرة والنامية والناهضة في أفريقيا وآسيا، وذلك في ظروف أقرب للموت منها للحياة.

مفتاح ألمانيا في قضية اللجوء
لا يخفى أن ألمانيا اتخذت موقعا محوريا ومؤثرا على الصعيد الأوروبي في التعامل مع قضية اللجوء، ولا يمكن التنبؤ حاليا ما إذا كانت المعركة الانتخابية (الانتخابات العامة بعد عام واحد) ستدفع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى التراجع تحت تأثير ضغوط سياسية داخلية وأوروبية بعد أن أطلقت سياسة "الباب المفتوح" أواخر عام ٢٠١٥، وأنهت بذلك حقبة زمنية كانت ألمانيا خلالها شديدة التحفظ على استقبال مزيد من المشردين واللاجئين، وعقبة رئيسية في وجه قرار أوروبي مشترك لتوزيعهم وفق نظام حصص يراعي القدرات الاقتصادية والمالية المتفاوتة أوروبيا.

سياسة الباب المفتوح ركزت على استقبال المشردين السوريين في الدرجة الأولى، فارتفع مجموع اللاجئين المسجلين رسميا إلى زهاء المليون في عام واحد، وربطت حكومة برلين بين "الدوافع الإنسانية" و"استثمار المليارات" حاليا مقابل جني فوائد اقتصادية ومالية على المدى المتوسط والبعيد، لا سيما بسدّ ثغرات في سوق العمل لتناقص نسبة الكفاءات المهنية وارتفاع معدلات التقاعد وهبوط عدد الولادات، وهو ما لا تنقطع التقارير الرسمية عنه، مع التحذير من تراجع الموقع الاقتصادي الألماني عالميا خلال سنوات معدودة.

وجاء القرار الألماني في مرحلة انتعاش اقتصادي مطرد، ومع توافر فوائض مالية سنوية تسمح بالاستثمار المستقبلي، إلا أن المرحلة الأولى من استيعاب اللاجئين والمشردين تفرض إنفاق المليارات سنويا ولا تظهر ثمارها سريعا، وهذا معروف في قرارات مشابهة، مثل التخلي عن الطاقة النووية لصالح مصادر الطاقة البديلة.

وفي هذه المرحلة الأولى بالذات ينفسح المجال للمعارضة لتوظيف "قائمة الأعباء" دعائيا لكسب أصوات الناخبين، وهذا ما يسري على الأحزاب المشاركة في الحكومة الائتلافية، دون طرح بدائل موضوعية مقبولة، ويسري بطبيعة الحال على المعارضة اليمينية المتطرفة أيضا، مما انعكس في ارتفاع نسب نجاحها في الانتخابات المحلية على مستوى الولايات، وحتى الآن لم تتراجع ميركل عن تأكيد صحّة قرارها، وتأكيد استمرار العمل لتأمين ما يحتاج تطبيقه على أرض الواقع، وإن لم تجد تجاوبا أوروبيا كافيا.

إن تراجع الدور الألماني عن سياسة الباب المفتوح، يمكن أن يسبب ازدياد عنفوان الوجه المأساوي لأوضاع المشردين واللاجئين إلى أوروبا، ولكن لا ينتظر أن يحقق أوضاعا أفضل أو يخفف من أعباء المشكلات الذاتية في القارة العجوز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.