مواجهة الانقلابات.. خدمة جديدة من بلديات تركيا

Supporters of main opposition Republic Public Party (CHP) shout slogans and hold Turkish flags and pictures of Ataturk, founder of modern Turkey, during a demonstration against coup at Taksim Square, in Istanbul, Turkey, 24 July 2016. Turkish parliament on 21 July formally approved a three-month state of emergency declared by Turkish President Erdogan. The 15 June's failed coup attempt's aftermath was followed by the dismissal of 50,000 workers and the arrest of 8,000

سرعة لافتة
عرقلة المروحيات
محاصرة الثكنات

كثر الحديث عن دور الإعلام والقوات الخاصة ودور الرئيس أردوغان والجماهير التركية في إفشال الانقلاب؛ ولكن جهة أخرى وقفت موقفا مشرفا وبذلت جهدا كبيرا في مواجهة الانقلاب ولم يتم التركيز عليه كثيرا، إنها بلديات تركيا.

سرعة لافتة
ورغم أن العمل المنوط بها في الأصل هو عمل مهني خدماتي بعيد عن السياسة في ظاهر الأمر، لكن البلديات التركية بشكل عام وبلدية أنقرة بشكل خاص قامت بدور كبير، بدا وكأنه مخطط للتعامل مع "سيناريو انقلاب"، وظهرت وكأنها الجهة الوحيدة التي تتعامل مع الحدث ضمن عمل منظم؛ نظرا للسرعة والمرونة والقدر الكبير من المسؤولية في التعاطي مع محاولة الانقلاب.

لطالما أثبتت البلديات في تركيا أنها ركيزة مهمة في العمل السياسي على الصعيد المحلي حيث تعتبر من المحطات الأولى والأساسية للديمقراطية قبل البرلمان والرئاسة، وإضافة لذلك توجد في تركيا بلديات كبرى مثل بلدية إسطنبول وأنقرة هي أكبر بمسؤولياتها من عدد من الدول على مستوى العالم، ولذا لم يكن من المستغرب أن تشارك تلك البلديات بهذا الزخم الكبير.

ويوجد في تركيا 81 بلدية كبرى و957 بلدية صغرى، ويعمل في بلدية أنقرة أكثر من 10 آلاف عامل وموظف، فيما يعمل في بلدية إسطنبول أكثر من 20 ألف عامل وموظف حسب إحصائيات أبريل/نيسان 2014.

وكما أن عددا من البلديات على مستوى العالم مثلت طريقا سالكا لوصول عدد من أنجح رؤسائها إلى سدة الرئاسة كما هو الحال مع أحمدي نجاد في رئاسة بلدية طهران وغيره، فقد قدمت بلدية إسطنبول رجب طيب أردوغان الذي فاز برئاستها في انتخابات ديمقراطية ولمع نجمه رئيسا لها؛ حيث قدمت البلدية في عهده (1994-1998) خدمات كبيرة كانت دليلا للمواطنين على العمل الجاد و جودة الخدمة، وبالتالي عندما قامت البلديات بدورها الذي قامت به في إحباط المحاولة الانقلابية كانت مدركة أنها إنما تقوم بالحفاظ على نفسها ومقدراتها وإنجازاتها من خلال منع الانقلابين من السيطرة على الدولة التي تعتبر هي جزءا من بنيتها.

ولعل الانقلابيين أيضا كانوا مدركين لأهمية البلديات فكان مقر بلدية إسطنبول أحد "الأماكن الإستراتيجية" التي كان من المخطط السيطرة عليها وفق خطة الانقلابيين، وقد سقط في الدفاع عنها 17 شهيدا، ولم يسجل من قبل في المحاولات الانقلابية السابقة على حد علمي في تركيا أو خارجها توجه الجيش للسيطرة على مقار البلديات، إذ لا تعتبر عادة من الأماكن الإستراتيجية كالمطارات والجسور ومقار قيادة الدولة.

لقد لعبت البلديات أدوارا متعددة كان من أهمها إيصال المعلومات الإرشادية للناس واستقبالها. ونذكر هنا ما تحدث عنه أحد المشاركين في محاضرة في أحد المراكز البحثية؛ إذ طلب المحاضر من المشاركين أن يتحدث كل واحد عن تجربته ليلة الانقلاب، وقد تحدث أحد الطلاب الأتراك عن تجربته وكيف أنه علم عن الانقلاب عندما وصلته رسالة -وصلت مئات الآلاف إن لم يكن أكثر- تدعوه للخروج للميادين وللمطار، وكانت الرسالة مذيلة باسم رئيس بلدية أنقرة مليح جوكتشك، وقد أبدى الطالب احترامه الشديد لموقف البلدية في إبلاغ الناس ودعوتهم للخروج مما ساهم في وأد المحاولة الانقلابية.

كما أعلنت البلدية عن افتتاح موقع انترنت خاص لوضع الصور ومقاطع الفيديو التي سجلها المواطنون ليلة الانقلاب، كما أدرجت خانة لوضع المقترحات أيضا فيما يتعلق بالتعامل مع الانقلاب، وقامت أيضا بتعميم رقم واتساب على المواطنين لإرسال الصور والمقاطع أيضا.

لقد كان الأمر الأهم واللافت أيضا تلك الشاحنات وعربات الإطفاء والنقل والنظافة التي تحمل شعار بلدية أنقرة والتي كانت تتجه ليلة الانقلاب من كل مكان من البلديات الصغرى التابعة لبلدية أنقرة بسرعة كبيرة نحو منطقة "إيتي مسعود" لكي تقوم بإغلاق بوابات مقر القوات المدرعة، وهو من أكبر مقرات القوات المدرعة في تركيا إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، ومازالت بعض الشاحنات مرابطة هناك إلى الآن في رسالة معنوية تدعو إلى الحذر والتيقظ.

كما قامت عربات جمع القمامة التابعة للبلدية وشاحنات أخرى بإغلاق الطرق المؤدية إلى القصر الجمهوري في منطقة بيش تبة، وكذلك الطرق المؤدية إلى الميدان الرئيسي في أنقرة المعروف باسم "كزلاي" (أي الهلال الأحمر).

وقد قامت بلدية أنقرة بعد فشل الانقلاب مباشرة وأسوة بقرار الحكومة بتغيير اسم كوبري "بوغازتشي" في إسطنبول إلى كوبري "شهداء 15 يوليو" بتغيير اسم ميدان "كزلاي" إلى ميدان "ديمقراطية 15 يوليو" وتغيير اسم ميدان "رئاسة الأركان" إلى ميدان " شهداء 15 يوليو".

ومن الأمور التي ساعدت على بقاء الناس في الشوارع وخروجهم من البيوت قيام البلديات بتوفير المواصلات مجانا للمواطنين سواء في الحافلات أو السفن أو محطات المترو لمدة أسبوعين بعد المحاولة الانقلابية.

عرقلة المروحيات
أما في إسطنبول وفي منطقة "يشيل كوي" تحديدا وفي أحد المقرات العسكرية، وبينما كانت مروحيات معدة للذهاب إلى مرمريس لتقديم الدعم والإسناد لقوات الكوماندوز التي استهدفت الفندق الذي كان يقضي فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إجازته في منطقة مرمريس قامت عربات البلدية بالدخول إلى الموقع والوقوف بشكل ملاصق للمروحيات من جهتين بحيث تمنعها من الإقلاع.

وقد تمكن الرئيس أردوغان من الخروج بعدها من الفندق وقام بتوجيه كلمة مصورة عبر الهاتف إلى إحدى القنوات التلفزيونية مما شجع المزيد من الناس على الخروج إلى الميادين وإلى مطار إسطنبول.

وحتى مع إشراقة شمس أول نهار بعد المحاولة الانقلابية، ظل المسؤولون الأتراك يؤكدون أهمية بقاء المواطنين في الشوارع والميادين تحسبا لأي ارتدادات أخرى للعملية الانقلابية ومن أجل توفير الدعم الشعبي اللازم القرارات الحاسمة التي تتخذها الدولة، وقد ساهمت البلديات أيضا في هذا الأمر من خلال تجهيز الساحات والميادين بالمنصات وشاشات العرض وتقديم الوجبات للمواطنين الذين يشاركون حتى الصباح وبالآلاف فيما يسمى بـ "النوبة" (الحراسة أو المرابطة)، وقد أطلق عليها في مختلف أنحاء تركيا "النوبة من أجل الديمقراطية" وما زالت هذه الفعاليات مستمرة حتى كتابة هذه السطور.

ومن الأمور الإيجابية فيها وفق ما شهدت خلال مشاركتي في هذه الفعاليات في أنقرة وإسطنبول إتاحة البلديات التي يقودها حزب العدالة والتنمية الفرصة لكافة الأطر السياسية للمشاركة والتعبير. كما شاركت البلديات من خلال هذه المنصات في تعزيز التواصل بين الجمهور وأشهر السياسيين والفنانين والرياضيين.

محاصرة الثكنات
تلفظ كلمة خندق باللغة التركية "هندق"، وقد حدثني أحد الأصدقاء من مدينة ملاطيا أن جرافات البلدية قامت بحفر خندق بعمق مترين تقريبا في الطرق القريبة من المواقع العسكرية لمنع أي تحرك للآليات والدبابات. أما في محافظة "كهرمان مرش" فلم تستطع أي قوة منشقة من داخل الجيش من الخروج من ثكنة الجيش هناك وذلك لأن البلدية أحاطت أسوار الموقع الكبير إحاطة كاملة بكل ما تملك من عربات جمع للقمامة وآليات وحافلات نقل وسيارات صغيرة. وتكرر المشهد بشكل أقل في مدن مثل بولو وأورفا وطرابزون.

وبعد انجلاء الخوف من نجاح الانقلاب بنسبة كبيرة شاركت البلديات في عملية تطهير الجماعة التي تتهمها الحكومة التركية بالوقوف خلف الانقلاب وهي جماعة فتح الله غولن، حيث تم الإعلان عن إيقاف 600 موظف في بلدية إسطنبول و400 في بلدية أنقرة وأعداد أقل في بلديات أخرى على مستوى تركيا، بتهمة الاشتباه في علاقتهم بالجماعة لحين انتهاء التحقيقات.

أما البلديات التي فازت بها المعارضة فلم يتسن اختبار موقفها بشكل دقيق، بسبب تركز المحاولة الانقلابية في كل من أنقرة وإسطنبول، لكن يمكن القول إن هذه البلديات لم تؤيد الانقلاب واحترمت قرارات الدولة مثل بلدية مرمريس التي يقودها حزب الشعب الجمهوري والتي وقع فيها الهجوم على الفندق الذي كان فيه الرئيس التركي.

وقد أكد رئيس البلدية احترام القرارات ولكنه اعترض على بعضها وطالب بإلغائها في أسرع وقت حتى لا يتضرر قطاع السياحة. كما أن خروج الناس في تلك البلدية ليلة الانقلاب كان قليلا حيث أشارت التقارير إلى تجمع 250 شخص فقط وربما يعزى ذلك إلى قلة عدد السكان وطابع المنطقة السياحي.

لقد ساهمت البلديات عموما وبلديتا أنقرة وإسطنبول خصوصا بشكل كبير مع جهود مؤسسات أخرى في إحباط المحاولة الانقلابية، وبهذا ألقت الضوء على جانب جديد في عمل البلديات، هو المشاركة الفاعلة في الأحداث السياسية المصيرية في تركيا مما يؤكد أن دور البلديات لا يقف عند الإطار الخدماتي المحض.

ويمكن القول ختاما أن جماعة غولن التي تطلق على نفسها اسم "جماعة الخدمة" والتي تركت الخدمة لتتغلغل في مؤسسة الجيش وتقود الانقلاب الأكثر دموية في تركيا قد لقيت مواجهة شرسة من مؤسسات بلدية قامت بأهم خدمة للمواطنين وهي خدمة "مواجهة الانقلابات".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان