تونس بلا حكومة

البرلمان التونسي يصوِّت على تجديد الثقة بالحكومة

حكومة بلا سند
مبادرة حكومة الوحدة
تصويت على الثقة

أخيرا صوت مجلس النواب التونسي على حجب الثقة عن حكومة الحبيب الصيد
، في جلسة استمرت حتى الساعة العاشرة ليلا من مساء السبت الماضي. وكان السيد الحبيب الصيد، كُلف بتشكيل حكومة مطلع شهر يناير/كانون الثاني 2014 إثر الانتخابات التشريعية والرئاسية التي فاز بها نداء تونس، وجاءت حركة النهضة في المرتبة الثانية.

وتشكلت حكومة من الأحزاب الفائزة وهي النداء والنهضة وآفاق والوطني الحر. ويقضي الدستور بأن يكون رئيس الحكومة من الحزب الحاصل على الأغلبية، ولكن ملابسات عدة منها افتقاد الحزب الفائز للأغلبية اللازمة، واحتدام الأزمة الاجتماعية ومطالبة الشريك النهضوي بضمانات سياسية أفضت إلى تكليف شخصية مستقلة هي السيد الحبيب الصيد.

حكومة بلا سند
لم تمض أشهر على تولي الحكومة مهامها حتى اندلعت أزمة نداء تونس، وتتالت الانشقاقات في الحزب "الحاكم" المهيمن عمليا على الرئاسات الثلاث، وانتقلت المعارك الطاحنة بين شقوقه إلى استوديوهات القنوات والإذاعات وصفحات الجرائد والمواقع الاجتماعية. وبعد أشهر معدودات صار الحزب حزبين وأضحت كتلته البرلمانية كتلتين وأصبحت النهضة هي الحزب الأول.

لم تكن هذه الصراعات تتعلق باختلاف تقديرات سياسية ومضامين فكرية، بقدر ما كانت صدى لتصادم مافيات ولوبيات مصالح جديدة وقديمة عرفها الناس حتى صارت أسماؤها من مفردات المعجم السياسي.

يمثل نداء تونس، الوجه السياسي للمنظومة القديمة بمصالحها المتناقضة، وقد لعب المال السياسي الفاسد دورا مهما في فوزه بانتخابات 2014، فكان من الطبيعي أن تتصادم القوى المساهمة في بعثه ووصوله إلى السلطة عند تحقيق الهدف السياسي واقتسام المغنم. وتأكدت خطورة انقسامات الحزب حين دار كثير من الصراعات داخل أجهزة الدولة وبأدواتها. وكان تأثيرها على حكومة السيد الحبيب الصيد مباشرا.

ضم الائتلاف الرباعي الحاكم خليطا يُصنف على أنه من اليمين الاجتماعي؛ ورغم ذلك لم تكن تجمعها برامجها الاقتصادية الاجتماعية، وإنما تقاطع مصالحها السياسية المباشرة. لذلك كان الائتلاف الحاكم محاصصة حزبية تمت فيها المجاورة بين نتف من برامج الأحزاب لا ترتقي لكي تكون رؤية وبرنامجا.
كان الباجي قايد السبسي يدرك أن حزبه لم يحصل على أغلبية مريحه تتيح له الحكم بما اتفق من الأحزاب الصغيرة التي تشبهه. ويعلم أن وجود النهضة في المعارضة ( 69 مقعدا من 217) مضافا إلى الأزمة الاجتماعية الطاحنة يدفعانه إلى توسيع قاعدة الحكم باتجاهها. وكان يعرف ما سيلاقيه من معارضة داخل حزبه ومن قبل الجبهة الشعبية وسائر القوى اليسارية التي بنت علاقتها معه في جبهة الإنقاذ على قاعدة إنهاء العملية التأسيسية واستبعاد الإسلاميين.

كانت حكومة الحبيب الصيد بلا سند فعلي وبلا برنامج. ومن المفارقات أن تنسيقية الرباعي الحاكم -وهي الإطار السياسي الذي يلتقي فيه الرباعي الحاكم لضبط التوجهات والسياسات- لم تتشكل إلا بعد أشهر عديدة من تولي الحكومة مهامها.

لم تتحمل الأحزاب الفائزة في الانتخابات مسؤولية التفويض وتبعات الحكم، ولا سيما الحزبان الكبيران النداء والنهضة، ذلك أن حزبي آفاق والوطني الحر المشاركين في الائتلاف الحاكم كانا أقرب إلى الجماعات الوظيفية وفرق العمل الصغيرة الغامضة. وبعد سنة ونصف بدت الحصيلة في المستوى الاقتصادي كارثية، إذ استقرت نسبة النمو الاقتصادي عند 0% تقريبا وتدهور وضع الدينار وتضاعفت المديونية وارتفعت نسبة البطالة وذهبت وعود التشغيل أدراج الرياح، وهرب المستثمرون واستشرى الفساد.

كان للعمليات الإرهابية في باردو وسوسة أثرها على قطاع السياحة وعلى مجمل الوضع العام، غير أن فشل الحكومة الاقتصادي وعجزها عن مواجهة الاستحقاقات الاجتماعية واتجاه المناخ الاجتماعي إلى التوتر لا يتعلق بأزمة حكومية فحسب؛ بقدر ما يعكس أزمة حكم هيكلية وعجزا عن الخروج من المنوال التنموي الموروث، وتواصل رهن البلاد واقتصادها في تواطؤ مشبوه مع الفساد. وهو ما بات يهدد المنظومة الديمقراطية التي تمثل الثمرة السياسية الوحيدة لمسار تأسيسي مهدور.

مبادرة حكومة الوحدة
دعت مبادرة رئيس الجمهورية إلى حكومة وحدة وطنية، في إطار حديث صحفي مع القناة الوطنية يوم 2 يونيو/حزيران 2016. وفي هذه الدردشة توقف عند الوضع العام بالبلاد دون أن يخوض في طبيعة الأزمة وأسبابها، واكتفى بالإشارة إلى صعوبة الوضع وإلى أن الحكومة أصابت في مواضع وأخفقت في مواضع أخرى، لينتهي إلى إمكانية الذهاب إلى حكومة وحدة وطنية. وفي معرض حديثه، أقصى رئيس الجمهورية طيفا من المعارضة ممثلا في البرلمان من مبادرته، قبل أن يوضح ملامحها؛ حجته أن هنالك أطرافا ترفض مبدأ الحوار "فلا داعي لإحراجها بدعوتها إلى هذه المبادرة".

انقسمت المواقف بشأن المبادرة. وكان موقف المعارضة الغالب رفضها لأسباب عديدة أهمها أن المبادرة لا تقدم تقييما موضوعيا لسنة ونصف من حكم الائتلاف الرباعي الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار الاقتصادي والكارثة الاجتماعية. والأصل أن تنطلق المبادرة من تشخيص دقيق للأزمة.

كان الشعور العام أن من تسبب في الأزمة غير قادر سياسيا وأخلاقيا على تقديم تصور لتجاوزها. ولكن رئيس الجمهورية اختار أن يعمم الفشل ويجعله أعدل الأشياء قسمة بين الجميع حكما ومعارضة.

لعل الجديد في المشهد ترحيب حزبين من أحزاب المعارضة هما الجمهوري (ديمقراطي اجتماعي) وحركة الشعب (ناصري) بالمبادرة. وبعد مشاركتهما في المداولات حول المبادرة بإشراف رئيس الجمهورية، وقعا على وثيقة قرطاج، التي لا تعدو أن تكون مبادئ عامة تنطبق على كل الأوضاع.

فصار عدد الموقعين على الاتفاق تسعة أحزاب وثلاث منظمات وطنية هي الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين. وقاطعتها منظمتان من الرباعي الراعي للحوار الوطني المتحصل على جائزة نوبل للسلام هما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة المحامين وعديد الأحزاب الممثلة داخل البرلمان وخارجه.

وفي سياق ما قام من جدل حول المبادرة، تبين أن أطراف الائتلاف الحاكم لم تكن على علم مسبق بالمبادرة. وأكد رئيس الحكومة ألا علم له بها إلا من وسائل الإعلام مكذبا ما ذكره رئيس الجمهورية من استعداده للاستقالة. وقال إنه لن يستقيل، وأن الدستور ضبط طرقا معلومة لتغيير رئيس الحكومة، وتتمثل الأولى في أن يتقدم مجلس النواب بلائحة لوم في حق الحكومة والثانية في طلب رئيس الجمهورية سحب الثقة عنها والثالثة في ذهاب رئيس الحكومة إلى البرلمان لطلب إعادة التصويت على مواصلة الثقة للحكومة.

اختار رئيس الحكومة الحل الثالث لييسر الأمر على رئيس الجمهورية والائتلاف الحاكم، غير أن نبله أتاح الكشف عن تنصل الرباعي الحاكم ورئيس الجمهورية من المسؤولية السياسية والأخلاقية. ولم يتردد في كشف ما مورس عليه من ضغوطات من نداء تونس وصلت حد إهانته من قبل أحد مستشاري رئيس الجمهورية بقوله: "استقيل وإلا نمرمدوك" (استقل، وإلا فسنمعن في إهانتك).

تصويت على الثقة
انفتحت جلسة يوم 29 يوليو/تموز بحالة من التوتر، وكانت معاني المهزلة والكوميديا السوداء غالبة، وكانت المعارضة مستنفرة رغم ضعف تمثيليتها في المجلس.

جلس رئيس الحكومة محفوفا بوزرائه ومن بينهم سبعة من وزراء النداء كانوا نشروا بيانا طالبوه فيه بالاستقالة. ثم أحيلت الكلمة إلى رئيس الحكومة، فتولى عرض عمل حكومته على مدى ثمانية عشر شهرا، وتوقف عند ما حققته من نتائج في التنمية وتحريك المشاريع الاقتصادية المعطلة والتحكم في الأسعار وفي نسب التضخم وما تحقق على مستوى مكافحة الإرهاب.

في مناسبتين قوطع خطاب رئيس الحكومة من قبل نواب الرباعي الحاكم بالتصفيق. وعندما فُتح باب المداخلات توجه أحد نواب المعارضة إلى رئيس الحكومة: سيدي هؤلاء الذين يصفقون لك الآن هم من سيصوتون ضد تجديد الثقة في حكومتك، بعد قليل.

توقف نواب المعارضة عند حجم الضغوطات التي مورست على رئيس الحكومة ليتخلى عن بعض معاونيه وعلى رأسهم المدير العام للأمن الوطني الذي كان عينه في ديسمبر/كانون أول 2015، ومعه كانت عمليات استباقية نوعية شلت الإرهاب، فضلا عن نجاحه في لجم بعض النقابات الأمنية المرتبطة بلوبيات الفساد ولم تكن تتورع عن نشر وثائق المؤسسة الأمنية في ندوات صحفية مسيسة أخرجتها عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في الدفاع عن حقوق منظوريها الاجتماعية.

كانت تدخلات نواب الرباعي باهتة رغم افتعال بعضها الحماسة. وغلب على تدخلات نواب حركة النهضة التبرير في انكسار واضح كأنه يستبطن إحساسا بانزياح متواصل عن المشروع الوطني، تحت تأثير ما يسمونه إكراهات السياسة. وكانت مداخلات النواب الغاضبين منهم تعبيرا عن انفعالات فردية أكثر من تعبيرها عن حالة وعي مفارق.

اختارت المعارضة الامتناع عن التصويت، ورأت أنها غير معنية بما أسمته مهزلة حين يصوت الرباعي الحاكم ضد نفسه. وأكدت على أن رئيس الحكومة لا يتحمل وحده مسؤولية الفشل، وأن القسم الأكبر منه يتحمله الرباعي الحاكم، وأن ما نشهده ليس إسقاط حكومة بقدر ما هو سقوط محاولة لإعادة منظومة قديمة أفلست.

وشددت المعارضة على أن رئيس الجمهورية يتحمل تبعات ما سينجر عما أقحم فيه البلد بمبادرته التي لم يكن لها من مبرر سوى رغبته في أن يكون "رئيس الحكومة" "وزيرا أول" عنده، في مخالفة للدستور.

بعد عدم التجديد الثقة للحكومة تدخل البلاد حالة فراغ سياسي إلى حين تشكيل حكومة جديدة قد يستغرق وقتا لا تتحمله البلاد بأزمتها المركبة؛ فالبلاد بلا حكومة رغم تولي الحكومة المتخلية تصريف الأعمال. وفي كل الأحوال يبدو المشهد السياسي متجها قدما نحو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.