بغداد وضفافها
في الثالث من يوليو/تموز 2016، شهد حي الكرادة في بغداد انفجارا إرهابيا أوقع عددا كبيرا من الشهداء والجرحى. وقد اتحد المجتمع الدولي في موقفه المندد بهذا العمل الجبان والمشين، فقد أدرك سريعا حجم الحدث ووقعه على العراق، وكل من يحبه في هذا العالم.
والكرادة تعد من أبرز أحياء بغداد، ويسكنها خليط من كافة ثقافات بلاد الرافدين، وهذا هو حالها منذ سنين طويلة. وقد كانت لي في هذا الحي الجميل تجربة شخصية كبيرة الأثر في حياتي، منذ أن كنت شابا يافعا، بل يصعب على أن أتصور ذاتي دون الكرادة العزيزة على قلبي.
لقد كان الحدث الإرهابي المشين ثقيل الوقع على روحي وأحاسيسي، بل كأن أمي وأبي قد ماتا ثانية أمام ناظري، وبعد أيام، خرجت من حالة الصدمة وفكرت في الكتابة. وفي هذه السطور، أسعى لأن أستذكر صورة بغداد الجميلة التي عرفتها قبل أن يصيبها الدمار.
على صعيد التحليل السياسي، يمكن القول إن أول العوامل المؤسسة لغياب الاستقرار عن بغداد، والعراق عامة، قد تجلت في تلاشي الوئام الوطني وشيوع حالة الانكفاء الحزبي.
إن الوئام، أو الوفاق الوطني، والتعايش الأهلي، هو طريق الدول والأمم نحو تحقيق أمنها واستقرارها العام والكلي. إن الأمن يعد أولوية كبرى لا تنازعها أية أولوية. وهذا هو الأصل؛ ولكن الوفاق هو أحد عناصر تحقيق هذا الأمن، أو لنقل هو عنصره الاجتماعي الثقافي.
إن المطلوب هو أن يتفرغ العراق لإعادة الأمن لكافة مدنه ومناطقه، وفي طريقه إلى ذلك عليه أن يبني وحدته الوطنية.. وهذان خطان لا ينفصلان.
على القوى الاجتماعية العراقية المختلفة أن تدرك أن الجنود وحدهم لا يستطيعون تحقيق الاستقرار، وأن الجهد العسكري والأمني بحاجة إلى جهد سياسي واجتماعي رديف لا يصح التخلي عنه. وإذا تصارع الساسة واستغرقوا في الخلاف، وتخلى رجال الاجتماع عن دورهم، فإن الأمن يضيع بالضرورة.
وهذا ليس مجرد رأي؛ أنظروا تاريخ العالم منذ معاهدة وستفاليا وحتى اليوم، لاحظوا كيف قامت دول وكيف سقطت أخرى.
ثاني العوامل المؤسسة لغياب الاستقرار في العراق تجلى في الارتكاز إلى بدعة المحاصصة وبناء الهرم الوطني عليها، وتلك بدعة لها دورها الكبير في نسف التعايش الأهلي والعصف به. إن منطقة زائد منطقة لا تساوي وطنا، بل منطقتان. وإن طائفة زائد طائفة لا تساوي شعبا.
إن منطق المحاصصة يتنافى على نحو تام وجذري مع منطق الدولة وفلسفتها الأولى؛ قارنوا بين أوروبا ما قبل وستفاليا وما بعدها، وما الذي يمكن أن تستنتجونه.
إن المحاصصة في التجربة التاريخية العالمية، قد اعتمدت لتأسيس دول لم تكن قائمة في الأصل، وكان في الأراضي التي أقيمت عليها أقوام من أجناس متباينة قوميا ودينيا. وهذا ليس حال العراق الذي يعود تاريخه كوطن إلى أقدم حضارات بني البشر.
ثالث العوامل المؤسسة لانعدام الاستقرار قد تجسد في الاستقطاب العالمي حول العراق وفيه. هذا الاستقطاب نسف الأمن الوطني من حيث ضرب التعايش الأهلي، وعزز منطق التجزئة، وبث ثقافة الفرقة والتشرذم.
إننا ندرك بأن العراق كان موضع تقاطب دولي وإقليمي منذ نشأة الدولة الحديثة فيه؛ بيد أن الذي حدث في السنوات الأخيرة لم يكن استقطابا حول كسب العراق، بل التواجد فيه من خلال القوى والأحزاب المتصارعة. وهذا هو أقصر الدروب للعصف بوحدته الوطنية.
إن الإرهاب الظلامي قد أصبح اليوم خطرا على العراق بأكمله، بكافة مناطقه وفئاته، وهذا الإرهاب قصد بغداد، أكثر من غيرها من مدن العراق، لأنها قلب البلاد ورمز عزتها.
لقد مرت بغداد بسنوات بيض طوال، وبسنوات سود مثلت الاستثناء في تاريخها. ومشهد اليوم هو حلقة من السنوات العجاف، حلقة ذات بعد اجتماعي ثقافي، مرتكز إلى صراع سياسي وانفلات أمني. إن بغداد الراهنة، بالمنظور الاجتماعي الثقافي، هي ذاتها التي فقدت أمنها وانسجامها السياسي معا.
لقد حدث تهجير قسري للأسر البغدادية لا نظير له في كل تاريخ بغداد الحديث، وكانت تلك هي البداية. بعد ذلك كان لنظام المحاصصة السياسية، معطوفا على الاستقطاب الحزبي دوره المكرس لمنطق التهجير، والمعترف ضمنا بنتائجه. وهنا، وصلنا إلى المحظور، الغريب عن بغداد ذات التعايش الأهلي العريق.
وإذا كنا بصدد المقارنة بين عصرين، فما الذي يا ترى يُمكننا قوله في هذه العجالة؟ في المجمل، هناك فرق بين ماضي بغداد وحاضرها يصعب الوقوف على كل دلالاته، سيما في سياقه الاجتماعي الثقافي.
بداية، قد لا يكون هناك من جديد في القول بأن الأمن أبرز الفروقات؛ وعلى الرغم من ذلك، لا بد من التشديد على حقيقة أن أمن الأمس كان في أحد جوانبه نتاجا لتعايش أهلي جميل. وأية سلطة -يا ترى- يُمكنها فرض الأمن لو أن المجتمع غير منسجم على مستوى مكوناته الثقافية؟
وإذا كنا قد بدأنا بالحديث عن الكرادة، فمن المفيد التذكير بأن الناس كان بمقدورها يوما الخروج من منازلها دون الحاجة إلى قفلها. ومنتصف ليل الكرادة صيفا يكاد يكون أكثر حيوية من انتصاف نهارها. وكانت هذه المنطقة تضم بعضا من أكبر الاختصاصيين، ليس على مستوى العراق، بل الشرق الأوسط عامة، وربما ما هو أبعد منه. وهم اليوم قد انتهى بهم المطاف جميعا في دول العالم المختلفة.
كانت الكرادة أشبه بعاصمة العاصمة، وكانت قلبا نابضا لبغداد؛ ولكن دون الأمن لا يستقيم شيء.
ودعونا أيضا نأخذ الأعظمية كمثال، وهي تحمل بعضا من أوجه التشابه مع الكرادة، ليس على المستوى العمراني، بل الاجتماعي، كونها منطقة مختلطة، وتضم كفاءات كبيرة، وبيوتات علمية معروفة.
إن الكثير من العرب قد شاهدوا على شاشات التلفزيون قبل أعوام المناظر الكئيبة للأعظمية حيث كان الناس يخشون الحركة حتى في رابعة النهار؛ بيد أن الأعظمية هذه كنت أنا -كاتب هذه السطور- أجوب شوارعها يوما على مشارف الفجر، قاصدا محطات بعيدة. وكان هذا في سبعينيات القرن الماضي.
الأعظمية، كما الكرادة، تُمثل صورة مصغرة للعراق على المستوى الاجتماعي.
وعلى نحو تقريبي، فإن كل أقوام العراق وألوانه الثقافية ممثلة في كلتا المنطقتين، الفرق يكمن في التوزيع النسبي للمجموعات الاجتماعية المختلفة. كما أن الأعظمية تضم عددا كبيرا من الطلبة العرب، بحكم خصوصيتها.
كانت الأعظمية تزخر بعدد كبير من المكتبات العلمية، وكذلك المكتبات المنزلية، التي تحوي في مجموعها عددا كبيرا من الكتب النادرة. وأنا شخصيا لم أرى مثيلا للأعظمية على هذا الصعيد، وتحديدا فيما يتصل بالمكتبات المنزلية الخاصة.
وفي الأعظمية -كما الكرادة- كل ما حولك يبعث فيك الإحساس بالجمال، والإنسان بين أهلها واحد منهم، ولا يقبلون له أن يشعر بغير ذلك، ولو للحظة. لا حديث عن الطوائف والمذاهب؛ فذلك لدى البغداديين عموما أمر معيب، وسلوك ناقص.
ترتبط الأعظمية عبر جسر قصير بالكاظمية، الحي البغدادي المجاور، ويطلق على هذا الجسر اسم جسر الأئمة، حيث الإمام أبي حنيفة النعمان والإمامان الكاظميان، موسى والجواد. ولا أعرف إن كانت هذه هي تسميته الرسمية أيضا.
والكاظمية -كما هو حال الأعظمية- تمثل أحد مراكز المعرفة البغدادية، وقد اعتدت شخصيا على زيارة المكتبات المحيطة بمقام الإمامين الكاظميين، وهي تحوي غالبا الكتب الدينية، الفقهية والعقائدية، إضافة للكتب التي تتحدث عن سيرة الإمام موسى الكاظم. وهو إمام عظيم، ترك بصماته الكبيرة على الفكر الإنساني.
وبالطبع، فإن صورة بغداد لا يُمكن اختزالها بالحديث عن هذه المنطقة أو تلك، فهذه المدينة فسيفساء جميلة رسمت بكل ألوان الطيف. ولكي يعرف المرء المجتمع البغدادي عليه بالضرورة أن يقصد دجلة.
لقد كان الرئيس ماو يقول من لم يزر سور الصين العظيم كأنه لم يزر الصين؛ ويمكننا -على هذا المنوال- القول: من لم يزر دجلة كأن لم يزر بغداد، عروسه الجميلة.
إن الجلوس على الشاطئ لساعات يعد جزءا من المدرك الثقافي الاجتماعي لهذه المدينة، أكثر من كونه ميولا سوسيولوجيا عاما.
على صعيد المناخ السياسي البغدادي، لا يصعب على الإنسان أن يكتشف أن بغداد قومية النزعة والميول بطبعها. تجد ذلك في الحراك الأهلي العام، وفي الأعمال الأدبية والفنية، والبحوث والرسائل العلمية المنشورة وغير المنشورة. كما تحدثنا كتب التاريخ عن مواقف البغداديين المشهودة في المنعطفات القومية.
وإذا كنت ممن يستقلون الباصات وسيارات التاكسي، فلا بد وأن تستمع على نحو يومي لأحاديث عن قضايا من قبيل مستقبل فلسطين والأزمات العربية. والسؤال الآن، هو هل شهدت بغداد المدينة تحولا في سياق اجتماعي ثقافي؟
هناك متغير تابع -بالمعنى النظامي للمصلح- أوجده متغير سياسي أمني رئيسي. حجم هذا المتغير التابع أو وزنه مسألة نسبية بالمدلول الحسابي، والعبرة في الوزن لا في أصل القضية، لأن هذه الأخيرة تعكس أو تمثل صيرورة تاريخية.
وعلى الرغم من ذلك، نحن لم نصل بعد إلى مرحلة التحول بالمعنى العلمي، والمتغير التابع قد يتقلص أو يتمدد، ارتكازا لاتجاهات المتغير الأم أو الرئيسي. وعليه فإن الحديث يجب أن يدور حول هذا الأخير أولا وقبل كل شيء.
وبغض النظر عن مؤشرات المتغير التابع وصفاته الراهنة، لا بد من التأكيد على حقيقة مفادها أن عقارب التاريخ لا تعود إلى الوراء أبدا، والأمم لا تشهد نكوصا حضاريا لمجرد تبدل أحوالها السياسية أو الاقتصادية، فهذه النتيجة دونها نسق طويل من المعطيات (أو المؤثرات) لا وجود لها في الحالة العراقية. وبالتأكيد، ليس هناك ما يدعوا لليأس. وتأملوا في تجربة روما، وأروبا ما بعد عصر الأنوار. إنها خير دليل على ما نقول.
إن العراق -الذي نحن بصدده اليوم- يُمكن أن يبلغ وحدته الوطنية، وسلمه الأهلي، وبالتالي استقراره المكين بطرق مختلفة، لعل في مقدمتها التخلص من نظام المحاصصة، وإعادة إنتاج العملية السياسية.
إن وحدة المجتمع يجب أن تكون بديهة أولية وهدفا أصيلا في السياسات الوطنية، ولا بد لكل القوى من التمسك بها والتأكيد الدائم عليها، ولا بد من تكاتف العراقيين في مواجهة قوى الإرهاب والظلامية الشريرة، التي تريد أخذهم بعيدا عن سياقهم الاجتماعي وعمقهم الحضاري. والرحمة لشهداء الكرادة وكل شهداء العراق الأبرار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.