المكارثية العربية.. تقويض حاضر ومستقبل
مكارثيات نخب وعوام
حرب أهلية فكرية
المكارثيون وتنكب الحقائق
العرب والانقلاب التركي
الأحداث الكبار التي تعصف بنا في المنطقة، تزلزل بعض أفكارنا العميقة وتهز جزءا من قناعاتنا، محدثة خلخلة غير مسبوقة للصور الذهنية عن الذات وما ينبغي لها وعليها، فضلا عن صور الآخر وما له وما عليه، سواء كان من "الآخر القريب" أو من "الآخر البعيد".
من الطبيعي جدا أن أفكارنا تتطور وتتغير وفق مستجدات الحياة ومتغيراتها، غير أن الوضع الراهن يومئ إلى ما هو أكبر من ذلك، فمعمارنا الفكري والاجتماعي بات قابلا للتقويض باهتزازات متوالية متراكمة، وهي اهتزازات مصممة على ما يبدو لتأسيس "مكارثية عربية" (نسبة إلى ممارسات جوزيف مكارثي الأميركي، في اتهامه المغلوط للخصوم بالخيانة والتآمر، في ستينيات القرن العشرين). وهذه المكارثية العربية من شأنها دكُّ البناء الداخلي على المستويات القومية والقُطرية (الوطنية).
سبق للعرب أن عاشوا مكارثيات في عقود خلت، بيد أن المكارثية الحالية قد لا تكون مسبوقة في حجمها ومؤججيها وتأثيراتها، فثمة تشظية فكرية مجتمعية بالغة الخطورة، وأضحى أناس "يتقابحون" في الأفكار، ويتكارهون في الأنفس، ويتنافرون – وهما- في المصالح، وربما في الغايات والمصير، مما يخلق أنساقا من "الذوات المجرّمة" للخصم الفكري والسياسي؛ برميه بكل نقيصة واستعداء المكون الحكومي -الأمني والديني- المجتمعي، وتشويه صورته داخل البيت وخارجه. ولنا على ذلك شاهد جلي في سياق الانقلاب التركي الفاشل.
التهويل في توصيف الظواهر أمر مضر، خصوصا مع تشويهه للحقائق، وربما يستجلب معه توهينا للثقة التبادلية وإضعافا لرأس المال الاجتماعي، وفي كل هذا خسائر مجتمعية فادحة. وفي الوقت ذاته، فإن بخس الظواهر حقها والتقليل من حجمها هو الآخر مضر وجالب للخسائر |
والمقلق، أن الشواهد تشير إلى أن هذه المكارثية في ازدياد مطرد، وقد تتحول إلى كرة متدحرجة ملتهبة، لا قبل لأحد بوقفها أو التقليل من التهامها لوحدتنا وتماسكنا وفعاليتنا على كافة المستويات.
مكارثيات نخب وعوام
لا أظن أن هناك قطرا عربيا سالما اليوم من لون أو آخر من المكارثية، وإن كانت بأقدار متفاوتة. ومن المكارثيات المتفاقمة ما يحدث في دول الخليج العربي، إذ لم تعد "المكارثية الخليجية" مقتصرة على ما يمكن وصفه بـ "مكارثية النخب" أو "مكارثية المثقفين"، صغارا وكبارا، مشهورين ومغمورين، حيث تجاوز ذلك، ليشكّل نوعا من "مكارثية العوام"، وشبكات التواصل الاجتماعي تعج بتهم "التأثيم الديني" (عبر المكارثيين الدينيين) و"التجريم الوطني" (عبر المكارثيين الوطنيين). ومثل هذا الأمر، ليس جديدا، فأنا أرقبه منذ بضع سنوات، غير أن زيادته في الآونة الأخيرة قد تخرجه من نمط المتواليات الحسابية إلى الهندسية (أي بأنماط متفاقمة).
ومن الأعراض المخيفة، أن كل طرف والغ في الممارسة المكارثية لا يعد نفسه جزءا منها ولا صانعا لها، وإنما يكتفي بتلفيق التهم لخصمه والتظاهر بأنه "مجني عليه مكارثيا". وهذا يعني استفحال هذه الظاهرة في عالمنا العربي، وبخاصة أن بعض الأطراف الرسمية ما زالت تعول على سياسة "فرق لنسد"، مما يدفعها لإلهاب نار المكارثية، فهي تشجع بعض وسائل الإعلام وبعض الأقلام على هذه الممارسات الرديئة، وبعضها يكتفي بغض الطرف عن "المكارثيين المتطرفين"، الذين تحركهم بواعث داخلية مؤدلجة ضد خصومهم، مع شيوع قوالب متنوعة في الفجور في الخصومة.
إذ لا دليل يساق على أكثر التهم الموجهة، مع التغافل عن الحقائق أو المعلومات التي تقلل من شأن هذه التهم أو تدحضها تماما، ومن ذلك على سبيل المثال، اعتماد بعض الكتاب الأكاديميين على مصادر ضعيفة، مع إدراكهم لضعفها في المنهجية والتحليل وربما في المصداقية أيضا، وقد يكون بعضها معاديا للعرب وكارها لهم. وهنا؛ فتش عن الانحياز المعطوب، أخلاقا ومنهجا.
حرب أهلية فكرية
التهويل في توصيف الظواهر أمر مضر، خصوصا مع تشويهه للحقائق، وربما يستجلب معه توهينا للثقة التبادلية وإضعافا لرأس المال الاجتماعي، وفي كل هذا خسائر مجتمعية فادحة. وفي الوقت ذاته، فإن بخس الظواهر حقها والتقليل من حجمها هو الآخر مضر وجالب لخسائر قد لا تقل عن مسار التهويل، وقد تزيد.
ومن أجل هذا، فنحن مطالبون بالتوازن والدقة في التوصيف، فلا تهويل ولا بخس للظواهر التي نقوم بتوصيفها. ومع استسصحاب هذا القيد المنهجي الأخلاقي، فإنني أرى بأن المكارثية التي نعيشها مرشحة لأن تقود بعض مجتمعاتنا إلى ولادة "أم الحروب"، وأعني بها: "الحرب الفكرية الأهلية"، وربما بتنا نشاهد مثل هذه الحرب في بعض الأقطار، وأنها على مشارفها. وهذه الحرب قد تجر إلى ما هو أسوأ منها.
من الضروري أن نتفق على أن المكارثية باتت مقلقة وأنها تتطلب معالجات سريعة حاسمة، بدءا بالكف عن تشجيع ممارساتها من قبل المحسوبين على الطيف الرسمي، والسعي لتحجيم دور "المكارثيين المتطرفين"، وإخلاء الساحة من أمثال هؤلاء |
قد لا يتفق البعض معي في توصيفي لهذه الظاهرة من جهة حجمها وخطورتها، هذا لا يهم كثيرا، بيد أن من الضروري أن نتفق على أنها باتت مقلقة على أقل تقدير، وبأنها تتطلب معالجات سريعة حاسمة، بدءا بالكف عن تشجيع ممارساتها من قبل المحسوبين على الطيف الرسمي، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، والسعي لتحجيم دور "المكارثيين المتطرفين"، وإخلاء الساحة -قدر المستطاع- من أمثال هؤلاء في جانبي "التأثيم الديني" و"التجريم الوطني"، والتأكيد على أن الأصل في الناس الديانة والوطنية.
المكارثيون وتنكب الحقائق
يبرهن المكارثيون على أنهم يتنكبون الحقائق ويغمضون عيونهم عن المعلومات التي تخالف "تفكيرهم الرغبوي" في أحداث كثيرة، ولعل منها الانقلاب التركي؛ إذ يعمد "المكارثيون الدينيون" إلى المبالغة في إظهار الفرح والتأييد ونسبة الإنجاز للرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، وسوق التهم لكل من يبدي انتقادا رصينا موضوعيا لبعض الممارسات السياسية الحالية أو المستقبلية لأردوغان؛ في مسار تقديسي للأشخاص والكيانات.
وفي الضفة الأخرى، يجنح "المكارثيون الوطنيون" إلى صناعة تهم من نوع آخر، وعلى رأسها جعل كل من وقف ضد الانقلاب على أنهم "إخوان مسلمون" أو متعاطفون معهم. وهنا استذكر مقولة ساخرة لأحد الأصدقاء السعوديين، حيث قال في رسالة خاصة في مجموعة واتس آب ليلة الانقلاب: يا جماعة اكتشفت اكتشافا خطيرا في العائلة؛ اكتشفت أنهم إخوان، فوالدي "العلماني" إخواني، فهو ضد الانقلاب، وأمي أيضا فهي تصلي كل اليوم، وكذلك شقيقاتي!
وكل طرف مكارثي، يصنف الناس بطريقة تخدم أجندته الأيديوولوجية؛ إذ يتجه المكارثيون الدينيون إلى حشر كل منتقد للسياسة التركية الحالية أو المحتملة في خانة الانقلابيين أو الخائنين للدين، الكارهين لأوليائه الصالحين، مع أنهم ينتقدون بعنف بعض ما يرونه علمانية وخروجا عن مقتضيات الدين والتدين والحشمة ونحو ذلك. أما المكارثيون الوطنيون، فيصورون -كما في بعض طروحاتهم- أن أكثر الشعوب العربية "إخوان"، مع أنهم في أطاريح أخرى، يقللون من شعبية الإخوان! هنا وهناك تناقض وتهافت منهجيان أخلاقيان، يتناوبان على اغتيال الحقيقة.
العرب والانقلاب التركي
تغيب إلى حد كبير الطروحات العلمية والفكرية المتزنة التي تعتمد الأدلة والشواهد في التحليل والخلوص إلى نتائج متماسكة. وقد شوه هؤلاء المكارثيون كثيرا من المسائل، ومنها توصيف الشرائح المتفاعلة مع الانقلاب الفاشل في تركيا، معارضة وتأييدا، فلم نظفر بجواب على أسئلة كثيرة، ومنها: ما نسبة المعارضين للانقلاب، وما نسبة المؤيدين له؟ وما دوافع كل منهم؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى أبحاث معمقة قائمة على استقصاء واستكشاف علميين دقيقين.
هنا أقدم تصورا أوليا، وهو غير قائم على مسوحات ولا بيانات صلبة، فهو مجرد استقراء عام، ولهذا فهو أقل من "أولي"، ويحتاج إلى قدر كبير من التمحيص. استقرائي العام الأولي حول توصيف الشرائح العربية حيال الانقلاب في تركيا، خلص إلى تصنيفها إلى أربع شرائح:
إن الوضع العربي الراهن، يستلزم معالجة ناجزة لما نراه من مكارثية متنامية، مع ضرورة تكريس الممارسات العلمية النقدية. ونحن بمسيس الحاجة إلى تمتين العلاقات مع جميع الأشقاء والأصدقاء، وفي المقدمة مع حليفنا الإستراتيجي التركي |
1- شريحة المعارضين الديموقراطيين للانقلاب؛ تعبر عن "الشريحة غير الملونة"، أي غير المؤدلجة، وهي الشريحة الأكبر، إذ تتراوح نسبتها في رأيي ما بين 70-80%، ويغلب على هؤلاء الإيمان بدولة القانون والمؤسسات وبالنهج الديموقراطي، مع القناعة بأن النموذج التنموي التركي حقق قفزات نوعية تستحق الإشادة، ويتطلعون إلى قفزات مشابهة في بلدانهم. وليس في هذا أي مساس بوطنيتهم الحقة، كما يزعم "المكارثيون الوطنيون".
2- شريحة المعارضين المؤدلجين للانقلاب؛ وهذه تمثل "الشريحة الملونة دينيا"، ولا أحسب أنها شريحة كبيرة، فهي تتأرجح من 15 إلى 20%، ولكن صوتها عال، وفي هذه الشريحة متطرفون (المكارثيون الدينيون)، وربما يجترحون في طروحاتهم بعض مقومات الوطنية أو لا يقيمون لها بالا، مع توسلهم بسلطان الدين، وتسليطهم سيف النصوص على المخالفين المنتقدين لـ "الممارسات السياسية البشرية" في السياق التركي.
3- شريحة المؤيدين المؤدلجين للانقلاب؛ وهذه تعكس "الشريحة الملونة فكريا"، وتضم الأطياف الفكرية المناهضة للإسلام الحركي، وتشمل أيضا الكارهين لعموم المتدينين، وهي شريحة صغيرة، ربما في حدود 5%، ويندر أن يصدر منهم اعتراف بمنجز تنموي أو سياسي في تركيا، ما دام أن رئيسها يمثل "خصما فكريا".
4- شريحة المؤيدين المنتفعين للانقلاب؛ ونعني بهؤلاء كل الأطراف التي تحصل على منافع مباشرة أو غير مباشرة من الحكومات، سواء عبر التوظيف أو التكليف، ويشمل ذلك الأفراد والكيانات والمؤسسات، وقد يشكلون ما نسبته 5%. وهذه الشريحة تحجب أي معلومة إيجابية في الفضاء التركي، أو تسعى إلى تشويهها، وتعمد إلى اختلاق بعض الأقاويل والإشاعات وترويجها.
بقي لي التأكيد على أن الوضع العربي الراهن، يستلزم معالجة ناجزة لما نراه من مكارثية متنامية، مع ضرورة تكريس الممارسات العلمية النقدية. ونحن بمسيس الحاجة إلى تمتين العلاقات مع جميع الأشقاء والأصدقاء، وفي المقدمة مع حليفنا الإستراتيجي التركي، في سياق يعلي مصالحنا العليا، ويعزز الوحدة والتماسك والاندماج والسيادة والأمن والتنمية في أقطارنا العربية، وفق رؤى متزنة ناضجة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.