بين انقلابين

A handout photo released by the Egyptian Presidency shows Egyptian President Mohamed Morsi (L) and Turkey's Prime Minister and leader of the ruling Justice and Development Party (AKP) Recep Tayyip Erdogan (R) during the AKP party's congress in Ankara, Turkey, 30 September 2012. Morsi arrived in Turkey for few hours visit that will focus on boosting bilateral ties. Morsi met with Turkish President Abdullah Gul and delivered a speech at the AKP party's congress. EPA/EGYPTIAN PRESIDENCY/HANDOUT *** Local Caption *** 50426962

خبرة بالانقلابات
طبيعة الأطراف
حال الدولة

لا شك أن الحديث يطول ويتشعب عند محاولة المقارنة بين ما شهدته مصر قبل ثلاث سنوات من انقلاب عسكري نجح في السيطرة على مجريات الأمور في البلاد، وبين ما شهدته تركيا قبل أيام من محاولة فاشلة لقوات من الجيش للاستيلاء على السلطة.

ولا نريد أن نقف في هذه السطور إلا على بعض الدقائق التي يمكن أن تكون قد نالت -مع أهميتها- قليلا من الاهتمام في بحر التحليلات التي واكبت الحدث التركي الكبير، ومثال ذلك: الفرق بين الخبرتين المصرية والتركية بالانقلابات العسكرية وتأثير ذلك في الحدثين، وكذلك طبيعة أطراف المواجهة في الحالين، وحال الدولة في شمال المتوسط والأخرى في جنوبه.

خبرة بالانقلابات
الخبرة هي التي تصنع المواقف، وقد تراكمت لدى الحكومة والشعب التركي خبرة واقعية عميقة بالانقلابات العسكرية التي شهدت البلاد أربع محاولات ناجحة منها خلال أقل من أربعة عقود من الزمان، وارتبطت هذه المحاولات في ذاكرة الأتراك بكثير من الذكريات المؤلمة؛ من إعدامات واعتقالات ومحاكمات عسكرية واسعة، وتأثير سلبي على مسار الحريات في البلاد، وتراجع كبير للاقتصاد التركي.

وكان لهذا دوره الكبير بلا شك في التأثير على مجريات أحداث مساء الجمعة الماضية (15- 16من يوليو 2016)؛ سواء تكلمنا عن سلوك الحكومة، أو سلوك الجماهير:

فقد كان واضحا أن قيادات الحزب الحاكم كانت تستعد منذ وقت مبكر لمثل هذا اليوم المتوقع جدا عاجلا أو آجلا، وظهرت نتيجة رعاية أردوغان الطويلة لجهاز المخابرات المؤتمن السري الأكبر على البلاد وأمنها فكان عمله حاسما لدحر الانقلاب، وأثّرت رعايته للقوات الخاصة التي عملت في صورة قوات لوزارة الداخلية بعيدا عن سيطرة الجيش وتدربت جيدا على مواجهة مثل هذه الأعمال، وأثبتت رجولتها في التضحية بحياتها في سبيل أداء مهمتها.

وفي الجانب الجماهيري، بدا أن الأتراك أمام مقارنة لا خيار معها، فإما كلاحة الانقلابات ودمويتها واضطراباتها الخطيرة التي تصل كل بيت، وإما حالة الرخاء والحرية التي تعيشها البلاد الآن؛ لذا حين تبين للناس الحائرين ماذا يجري، ودُعوا إلى الدفاع عن "ديمقراطيتهم" خلال نداء أردوغان القصير، ملأوا شوارع إسطنبول وأنقرة وكثير من المدن التركية.

ومع هذا، فهل كانت الجماهير التي ندعي لها هذه الخبرة في حاجة إلى دعوة حتى تخرج لتمنع الكارثة؟
والحقيقة أن الإعلان عن الانقلاب في البيان الذي أذيع في بداية الأحداث قد ترك آثارا سلبية في نفوس الأتراك، فقد أذيع بيان الانقلابيين وكأن كل شيء قد تغير، إلا أن خروج أردوغان – بعد بن علي يلدريم رئيس الوزراء – ليعلن عن مقاومة المحاولة الانقلابية، وطلب الرئيس من الجماهير أن تشارك في دحر الانقلاب: "أدعو جميع المواطنين الذي يؤمنون بالديمقراطية للخروج إلى الشوارع"، لم يؤد إلى إحياء الأمل في نفوس الجماهير فحسب، بل أدى كذلك إلى تحديد هدف أمامها ودور مجيد يمكن أن تقوم به في حماية تجربتها العظيمة في الحرية والتنمية.

وأما على إلى الشاطئ المقابل من المتوسط في مصر، فمع أنها شهدت اختطافا عسكريا طويلا للدولة والحكم، إلا أنها لم تشهد انقلابا عسكريا حقيقيا قبل هذا الأخير في يوليو/تموز 2013، وإن كان بعض خصوم حركة يوليو 1952 يسميها انقلابا، فإن الترويج لها – وهو ما ثبت في الذاكرة المصرية من خلال المقررات الدراسية والخطاب الإعلامي – قدمها على أنها ثورة الخلاص من الاستعمار والملكية، وحتى من كشفوا مساوئ حكم العسكر المصري طوال ستة عقود لم يقدموا 23 يوليو على الإطلاق على أنها انقلاب عسكري، أو حتى استيلاء من العسكر على السلطة، والشائع هو أنهم صوّروها وكأنها سوء توظيف للسلطة.

ومن هنا، حين جاء انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي قبل ثلاثة أعوام، تعاملت كتل من الجماهير المصرية -التي تحركت بلا ذاكرة وطنية واعية- مع الواقع وفق ما صوِّر لها إعلاميا؛ حركة تصحيحية تعيد الأمور إلى نصابها، وتمنع الإرهاب المتوقع والأخونة السارية سريان السم في جسد الدولة. والجماهير المصرية في هذه الحالة لم تكن تدري أنها تسلم نفسها بيدها لمستقبل مظلم.

وأزعم أن قيادات المعارضة التي تعاملت مع الحالة المصرية بانتهازية تامة، كانت هي الأخرى لا تحمل من الخبرة بالانقلابات العسكرية شيئا؛ لذلك شاركت بجدارة في إنجاح الانقلاب، ولم تحصد منه سوى الخزي والعار التاريخي الذي لحق بها، وسقطت مصر بعدها في يد جنرالات العسكر خالصة لهم.

ولا شك كذلك أن الرئيس مرسي وأنصاره كانت لهم تجربة مهمة مع الإقصاء والاضطهاد السياسي، لكن لم يفدهم هذا خبرة واقعية كافية لفهم طبيعة الانقلابات العسكرية؛ فلم ينجحوا أولا في توقعه، ولم ينجحوا ثانيا في اختيار وسائل أنجع في مواجهته من التظاهرات والاعتصامات، وإن كانت الأمور لمّا تحسم إلى الآن في الساحة المصرية.

طبيعة الأطراف
يمكن اختصار انقلاب مصر عام 2013 من حيث أطراف المواجهة بأنه كان انقلاب دولة كاملة ضد حزب أو جماعة حاكمة في حوزتها بعض الأنصار، في حين كانت المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا مواجهة بين جزء مؤثر من الجيش من جهة والدولة بكاملها من جهة أخرى، ولا شك أن التوازنات تبدو مختلفة تماما في الحالين.

لقد ألقى وزير الدفاع المصري حينئذ بيان انقلاب الثالث من يوليو، وحضره رئيس الأركان، وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع الجوي، ومدير المخابرات الحربية، ومساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح، وشيخ الأزهر، وبابا الكنيسة الأرثوذكسية، ورئيس جبهة الإنقاذ المعارضة، وأمين حزب النور الإسلامي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ومؤسس حركة تمرد ورفيق له، ورمز ثقافي نسائي (سكينة فؤاد).

وهذا يشي بالحقيقة السابقة، فالجيش المصري لم يشذ منه أحد معروف عن تأييد الانقلاب، والزعامات الدينية الرسمية كذلك، والأحزاب والحركات المعارضة، وأكثر النخبة المثقفة التي تسيطر بأقلامها وآرائها على الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، مع دعم من أجهزة الدولة؛ خاصة قوات الأمن ووزير الداخلية، ودعم من الإعلام الرسمي وإعلام الدولة العميقة.

وقد يشي هذا بأن الانقلاب المصري قد أُحسن التجهيز له، ولم يحسن الطرف الآخر الاستعداد لمواجهته، وهذه حقيقة، وهي نفسها نقطة الخبرة المفقودة التي سبق الحديث عنها، وإن كانت تطرح سؤالا آخر حول جدوى الإقدام على تولي أمور الحكم بدون استعداد له؟

ومع أنها قضية خلافية طال الجدال حولها، إلا أنني أرى أن المشاركة الإخوانية الكثيفة والحاسمة في ثورة 25 يناير كانت ترجيحا منهم لخيار المواجهة الصريحة مع الاستبداد، وما كان يمكنهم أن يغيروا هذا النهج في انتخابات الرئاسة التي كان يزحف الاستبداد للعودة من خلالها، وهو الأمر الذي دفعوا ثمنه غاليا، إلا أنه أعطاهم الشرعية التي لم يستطع الانقلاب إلى الآن محوها.

وأما في الحالة التركية المقابلة، فقد كان الانقلاب الفاشل مواجهة بين جزء من الجيش والدولة بكاملها، وقد تورط في الأحداث قائد القوات الجوية وقائد القوات البرية والمدعي العام العسكري وقيادات عسكرية أخرى كبيرة ما بين معتقل وهارب، وبلغ عدد الموقوفين آلاف الأشخاص حتى الآن بينهم أكثر من 100 جنرال.

وفي جانب الشرعية وقف جزء كبير من القوات المسلحة التركية، منهم رئيس الأركان، وقائد الجيش الأول، ورئيس المخابرات، وجهاز الداخلية، إضافة إلى جماهير الشعب الغفيرة بأتراكها وأكرادها.

وقد أدى الحضور الجماهيري الكثيف في الميادين والأماكن الحيوية إلى ارتباك الانقلابيين وسيولة المشهد أمام أنظارهم، كما أن قَطْع المخابرات لمنظومة الاتصال الخاصة بالجيش، وسيطرة القوات الخاصة على القاعدة الجوية التي انطلقت منها طائرات الانقلابيين قد عجلت كلها بسقوط الانقلاب وفشله الذريع.

ومن جهتهم أدى السياسيون الأتراك الحاليون والسابقون الحكوميون والمعارضون – سواء منهم من بادر إلى رفض الانقلاب من البداية أم انتظر حتى ظهرت له بوادر فشله – دورا مهما جدا في دحر الانقلاب؛ المعارضون والسابقون بتصريحاتهم الحاسمة برفض الردة عن الديمقراطية، والحكوميون بتحركاتهم الدقيقة؛ خاصة رئيس الوزراء ووزير العدل والدفاع والداخلية ورئيس البرلمان، إضافة إلى رئيس الجمهورية.

حال الدولة
مر سيناريو الانقلاب في مصر ببطء أمام أعين الناظرين، ووصل إلى هدفه الذي خُطِّط له وكأنه فيلم سينمائي يجري تصويره أمام أعين المارة، في حين جاءت المحاولة الانقلابية في تركيا مباغتة كالبرق الخاطف وذهبت كذلك بسرعة مفاجئة، مما دفع بعض خصوم النظام وشانئيه إلى الزعم بأنها لعبة مصطنعة من أردوغان للخلاص من خصومه!

والحق أن مرجع هذا وذاك أساسا إلى أوضاع الدولة المصرية والدولة التركية عند استقبال كل منهما لمساعي العسكر للاستيلاء على السلطة، فالقاهرة كانت منهكة بعد عامين ونصف من الأحداث الساخنة التي بدأت بالاحتجاجات الجماهيرية الواسعة في 25 يناير على نظام مبارك وما تلاه من إسقاطه، واضطرابات فترة المجلس العسكري، ثم الاستقطاب الشديد الذي شهده العام الذي حكم فيه الرئيس محمد مرسي.

وكانت لمجريات الأحداث حينئذ آثارها السيئة جدا على الحالة الأمنية والاقتصادية بالبلاد، وإن كانت الحريات قد تحسنت شيئا ما، وبدأ الاقتصاد يتعافى ببطء في العام السابق على الانقلاب، فإن كل ذلك لم يكن ملموسا بالنسبة لرجل الشارع، وكان التشويه الذي يلاحقه من إعلام الدولة العميقة يتولى محو أي أثر له، كما كانت الأزمات المصطنعة في الوقود والكهرباء وغيرهما تزيد شحن الجماهير سلبيا ضد النظام.

بدا الانقلاب في هذه الحالة وكأنه طوق نجاة لإنقاذ مصر من الانفلات الأمني والأزمات الاقتصادية الخانقة وشبح الإخوان المخيف؛ خاصة مع التركيز على تجميل صورة الجيش العظيم الذي لا مطمع لقادته الشرفاء في السلطة!

وفي تركيا جاء انقلاب مساء الخامس عشر من يوليو والبلاد تحاول ترميم علاقاتها بجاراتها بعد أن شهدت مدنها سلسلة من الاعتداءات الإرهابية وصلت حتى مطار إسطنبول نفسه، وعانت من آثار الصراع الدموي الواسع الذي تعيشه سوريا منذ سنوات. إلا أن البلاد مع هذا كانت محتفظة بحالة من الرخاء الاقتصادي العامة، وكذلك لم تضغط الحكومة كثيرا على الحريات بالرغم من التهديد الأمني الذي تعاني منه.

كانت تركيا إذن – رغم بعض الاضطرابات- تعيش حالة من الاستقرار النسبي في أمنها واقتصادها؛ لذا واجهت الدولة الانقلاب على المستوى الرسمي والجماهيري ولديها كثير من العافية والثبات، كما أن لديها ما تخاف عليه من شبح الحكم العسكري المرعب.

وإن كان الانقلاب المصري قد امتد إلى اليوم بعون إقليمي ودولي حثيث دون أن يحسم أمره كليا، فإن الانقلاب التركي الأخير -الذي حظي هو الآخر بدعم دولي وإقليمي ضخم كما تفيد الشواهد الأولية- قد كشف عن خبايا كثيرة في جسم الدولة التركية تمثل خطرا لا يستهان به على مستقبلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.