الأسلمة.. هل هي خطر حقيقي؟

مظاهرة وسط لندن ضد الإسلاموفوبيا والتمييز ضد المهاجرين


إذا سألت مفكرا أوروبيا معتدلا بمنطق مادي بحت عن السبب الحقيقي لحالة الخوف من هجرة المسلمين أو حالة الخوف من الإسلام السياسي فإنه سيجيبك بتلقائية وفورية بأن الغرب لا يريد "الأسلمة" في حد ذاتها.

فإذا استمر السؤال عن السبب فإنك تجد مخاوف كلاسيكية من بعض صفات الإسلام وبعض صفات المسلمين، وإذا حللت هذه المخاوف إلى ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي (أو أسطوري) فإنك تستطيع أن تكتشف بسهولة أن هناك كثيرا من المبالغة في التصوير، وقليلا من الحق في الذعر، لكنك لا تستطيع أيضا أن تنكر أن هناك ما يستحق الخوف الحقيقي.

بعيدا عن استنزاف وقت القارئ فيما يقتضيه الأسلوب العلمي من الاستعراض المستوعب، والتحليل المتعدد، والتبويب المنطقي، والعرض المتناغم فإننا في هذا المقام بحكم ضيق الحيز سنلجأ مباشرة بعد ما أتممناه من بحث ودراسة وتقييم للأمور إلى الأسلوب الطبي في كتابة "الروشتة" وتقديم التوصيات أو النصائح المرافقة لها.

أبدأ فأقول إنه على عكس ما هو متوقع فإن الخلاف والاختلاف في النظرية الاقتصادية بين الغرب والإسلام بدأ يتلاشى الآن مع الارتقاء الغربي المتواصل والمتكثف في فهم الوظيفة الاجتماعية للمال، وقد بات الغرب الآن يستحضر من عالم الاقتصاد المبجل كينز اكتشافه العظيم القائل بأن النمو الحقيقي لا يتحقق إلا مع اقتراب سعر الفائدة من الصفر.

وهكذا فإنه -ببساطة شديدة- ضاق الفارق بين الأساس الاقتصادي للمعاملات الإسلامية وبين الفكرة الرأسمالية الشائعة حتى بدأنا نسمع في بعض المناقشات الإسلامية العملية (أو التنفيذية) ما ينبئ عن وجاهة (أو ضرورة) قبول الرأي القائل بحساب فائدة ضئيلة على الإقراض فيما يقابل المصروفات الإدارية.

وعلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط بدأنا نسمع أن بعض البنوك الغربية تفكر ليس في تقليل الفائدة على الودائع النقدية إلى أقصى حد ممكن فحسب، وإنما في أن تتقاضى من المودعين مقابلا لحفاظها على ودائعهم كما هو الحال في رسوم انتظار السيارات.. وهكذا أوشك الخلاف الكيفي في قضية فوائد رأس المال -التي يظنها البعض جوهر الرأسمالية الغربية الرافضة للإسلام- أن ينحصر إلى حدود كمية متضائلة ترتبط بالتشغيل لا بالتثمير.

أنتقل قفزا إلى ما يتعلق بتعدد الزوجات، وما يلخصه أو يعكسه الخلاف في هذا الموضوع من مكانة المرأة أو طبيعة العلاقات المؤسسة للأسرة التي هي وحدة بناء المجتمع الإنساني، ولا يمكن لنا بمنطق مادي بحت أن نتجاوز النظر إلى مثل هذه العلاقات من دون استعمال موظف للمناظير الفكرية المعبرة عن الرؤى الحاكمة للحياة والسياسات. وهنا قد يتعجب الإنسان من حقيقة طال تغييبها وهي أن فكرة التعدد في حد ذاتها تتوافق مع فكرة الليبرالية بأكثر مما تتوافق مع أي منظور ديني هنا أوهناك.

ولست أستطيع في هذا المقام أن أقاوم الإشارة إلى ما لجأ إليه المبشرون في أفريقيا من القول بأن الكنيسة سمحت بالتعدد في الحدود التي يسمح بها الإسلام!! و ذلك من قبيل تقديم -أو إتاحة- نموذج متوازن في مجتمعات توصف بأنها تقليدية، وهو كما نعرف تعبير مهذب عن البدائية، ومع أني لا أدري حدود أو أرجحية أو إمكانية إدراج مثل هذه الفتاوى المسيحية في إطار سعي قادة الفكر الديني المسيحي إلى التوافق مع الحداثة أو إلى الحداثة نفسها، فإني أجد نفسي أمام الإقرار بصعوبة قبول فكرة بقاء الغرب على أفكاره الكلاسيكية فيما يتعلق بالقيود المعبرة عن نفسها فيما يعرف على أنه الزواج الشرعي الوحيد بعد أن أقر بزواج المثليين مع ما يستتبعه مثل هذا الإقرار من القياس على الجديد المباح من حقوق يكتسبها كثير مما لم يكن يعتبر شرعيا في القديم.

أنتقل إلى ما يتعلق بالقضايا المتعددة المرتبطة بالمساوة بين الجنسين في محاورها المتعددة لأكتشف بسهولة ما أصبح معبرا عن نفسه بقوة من خروج الأمر في المجتمعات الغربية والإسلامية على حد سواء من إطار القواعد العامة المطلقة إلى إطار القواعد شديدة الخصوصية.

ويكفيني في هذا الإطار أن أضرب ثلاثة أمثلة سريعة يتعلق أولها بالمساواة في الأجر؛ حيث لاتزال المجتمعات الإسلامية من باب الغرابة تنتهج فيه سياسات أكثر انحيازا للمرأة من الولايات المتحدة الأميركية نفسها، أما الثاني المتعلق بحقوق الميراث فيدلنا على حقيقة غريبة وهي أن تشابه فقه مذاهب الشيعة مع فكرة المساواة لم يمنع الغربيين المتبحرين في دراسة هذا الموضوع من الإعجاب بوسطية مذهب أهل السنة في تشريعات هذا الباب.

ولعل الاختلاف الأوروبي في قواعد توريث العرش في الممالك المختلفة يدلنا بوضوح على أن النظرة الحاكمة ليست مطلقة، وأن للتدرج والتنوع مكانين باقيين، أما المثل الثالث فقد تكرس بوضوح منذ سنوات في دلالات الأخبار والتعليقات التي صاحبت إقرار مصر -بثقلها الإسلامي الدعائي- لقانون الخلع مما نبه بعض المتابعين في العالم الغربي إلى أن المرأة المسلمة لها حق قديم مقرر ومعروف ومؤطر في إنهاء العلاقة الزوجية.

وبمثل هذه الأمثلة الثلاثة ترتسم صورة التفاضل في نظرتين شاع واستقر أنهما متناقضتان بينما الأمر في حقيقته أقرب إلى التكامل بمعناه الرياضي منه إلى التناقض بمعناه الفلسفي.

أنتقل إلى ميدان رابع يتعلق بالحلال والحرام فيما يؤكل وفيما يشرب، وليس من نافلة القول الذهاب إلى تقرير حقيقة باتت معروفة، وهي أن الإنسانية بنضجها المعرفي في علوم الطب والبيولوجيا والتغذية ووبائيات الأمراض قد تجاوزت بالفعل كل المناقشات القديمة في حكمة وعلة التحريم الإسلامي لبعض الأطعمة والأشربة، وتطورت الأمور في التعامل مع هذه القضايا لتضع التحريم "البراغماتي" إلى جوار التحريم "المقدس" بسلاسة من دون أية مماحكة من ناحية، أو تلفيق من ناحية أخرى.

ولست في حاجة إلى أي تدليل على صواب ما ذهبت إليه فالذين يعبرون الجنسيات والسيادات الآن (بالتعبير المتعدي للجنسية) أصبحوا أكثر بكثير من الحجم الحرج الكفيل بإثبات سيادة وقبول هذا الفهم الإنساني في ربوع الإنسانية؛ وهو فهم يميل إلى رد الاعتبار لمنظومة شريعة الإسلام في تنظيم الحياة اليومية.

أنتقل إلى ميدان خامس وأخير يرتبط بالملابس أو على وجه أخص بقضايا النقاب والحجاب، ولست بالطبع من الذين يسمحون لأنفسهم بقول حاسم في مثل هذه القضية، لكني لا أستطيع أن أغفل الإشارة إلى ثلاث ظواهر مبشرة بالقدرة على تجاوز الإشكاليات البازغة في هذه القضية، أولى هذه الظواهر يرتبط بما بدأ يعرف ويتداول عن تعاليم بعض الطوائف اليهودية الموجبة للنقاب!! وهو أمر كاد أن يندثر لا أن يتجاهل فحسب، لكن تعميق تبادل المعرفة من خلال وسائط التواصل الاجتماعي أعاده للنور.

وثانية هذه الظواهر ترتبط بما لا يزال يفرض صورته في هذا الزي الملتزم الموحد لريفيات مصر من المسلمات والمسيحيات على حد سواء، وهو ما أظهرته وثائق التسجيل الاجتماعي بما فيها تلك الصور المتاحة لسيدات العائلة البطرسية التي ينتمي إليها الدكتور بطرس غالي الأمين العام للأم المتحدة.

أما ثالثة هذه الظواهر فترتبط بوضوح مع ما بدأت تميل إليه الأزياء الموحدة في شركات الطيران من تقارب شديد مع الصورة الشائعة عن الزي الإسلامي وهو تقارب غير مقصود لذاته وإنما هو مقصود لوظيفته المتوافقة مع البيولوجيا والسوسيولوجيا والمكانة بمعانيهما الواسعة.

أتشجع فأنتقل إلى ميدان سادس أكثر أهمية واعتبارا من كل هذه الميادين الخمسة وهو الحديث عن المخاوف المتكررة (بل المزمنة) من فكرة الجهاد والاستشهاد، وهي مخاوف حقيقية لكنها لا يمكن أن تفهم بعيدا عن فكرة الاستشهاد وما يقابلها في العقائد المسيحية على وجه التحديد، ومن الطريف أن المتغربين العرب أو المتأثرين بالغرب يلتقون -عن غير قصد- مع بعض غلاة السلفية في نفي فكرة الاستشهاد عن غير المسلم، ومن الطريف أيضا أن التاريخ المصري يخلد لأقباط مصر عصر الشهداء الذي قاوموا فيه الرومان من أجل تمسكهم بعقيدتهم، ويخلد لهم حتى الآن في مدينة الإسكندرية شارع الشهداء، ومنطقة الشهداء.

ومن الثابت أيضا أن المسيحي الذي يستشهد لأجل غاية من غايات الاستشهاد في عقيدته لم يقل إنه يستشهد على الطريقة الإسلامية؛ لكن الأمر اللافت للنظر أن الباحثين السياسيين الأميركيين المحدثين هم الذين يكثفون الجهود من أجل أن يكون مفهوما الجهاد والاستشهاد مفهومين إسلاميين سنيين، وفي هذا ظلم بين للإنسانية لا يتوازى مع حجم الافتراء الموجه ضد قيم إسلامية سامية.

أختتم بحديث سابع لا يقل جسارة عن حديثي السادس لأنه طرح يبتغي لفت النظر إلى إشكالية لم يتحدث عنها أحد حتى الآن وهي "إشكالية التنصير والأسلمة ".. فإذا تذكرنا أن البابا يوحنا بولس السادس كان معنيا بالتنصير فمن باب الحدس الصحفي يصبح من الواجب البحث عن دور مواز لقيادة دينية إسلامية تكثف جهدها نحو الأسلمة.

وفي هذا المقام لا يمكن الاكتفاء على سبيل المثال بالإشارة إلى وجود أو نشاط جماعة التبليغ فهذه الجماعة من حيث الشكل والنشاط لا تناظر -من حيث الشكل والكيان- إلا جماعات التبشير المسيحية، ولا يمكن أن تكون معادلا موضوعيا لانشغال رأس الكنيسة الكاثوليكية الأولى بنفسه بتنصير العالم وليس أسلمته، وإن كان قلمي لا يطاوعني أن أتجاهل مقولتي المشهورة أو غير المشهورة : إن التنصير الحقيقي لا ينتهي إلا إلى الأسلمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.