"القتل بالفن".. الفن المتراقص على الأشلاء!

العمل الفني كاملا كما يظهر من أعلى نقطة بالدير .

الفنان والسياسة
القائمة السوداء
سيموتون كمدا
نحو مقاطعة مؤثرة

 

 

الإنسان بلا فن كسفينة بلا قبطان.. إن سارت سارت واهنة تائهة، تتلفها دروب وتعطبها خطوب، فيبتلعها لُجاج أو يقذفها عُباب إلى يابسة بائسة. النفس الخاوية من الفن كقصر مؤثث بكل شيء سوى الروح النابضة بالحياة!

ومن أجل هذا، ابتكر الإنسانُ بعبقريته الفن لينتصر للبهجة على عُبوس العيش وتقطيب السنين.. الفن رسول مبشر بالحرية والعدالة والكرامة، والفن يناضل بنعومته خشونة العنصرية، ويجابه بجماله وطهوريته التباغضَ والتناحرَ باسم الدين أو المذهب أو العرق.

الفنان والسياسة
الأصل في الفن النأي عن السياسة، لأنها تقوم على أساس التحزب والتكتل لفئة محددة، مع تربية الأتباع على انتماء وولاء مغلظين لما يطرحه السياسي وما يقره الحزب، سواء أكان حاكما أو معارضا. والانحياز السياسي يسلب الفن "الحيادية الواجبة"؛ ونعني بها الحيادية التي تمكّنه من ممارسة النقد للجميع بذات المسافة، وتقديم ما يمتّع الناس وما يسليهم.

وهذا لا يعني سلب الفنان الحق في أن يحمل فكرا أو أيديولوجية معينة تميل لهذا التيار السياسي أو ذاك، فهذا شأن خاص به، غير أنه مُطالب بألا يخرِج انحيازه الشخصي إلى المسارات العامة، إذ أن الفن سيكون حينذاك محرضا لا على التوحد والألفة بل على التشرذم والتفرقة.

الفنان كالحكم الرياضي، قد تكون له ميول لناد معين، ولكنه لا يعلنه، ولا يستسلم لإملاءاته ولا لضغوط أربابه أو جماهيره. إذا تورط الفنان بميول سياسية معينة، فعليه كبحها وحبسها؛ فلا يغني "إحنا شعب وإنتو شعب".. بل يصدح بـ "أنا الشعب": وصاح من الشعب صوت طليق، قوي، أبي، عميق، عريق، يقول: أنا الشعب والمعجزة، أنا الشعب لا شيء قد أعجزه، وكل الذي قاله أنجزه.. وينثر الفن الطمأنينة بـ "ادخلوها سالمين".. ادخلوها آمنين.

القائمة السوداء
شاهدت مقطعا للممثل المصري أحمد آدم أو مَن أسماه ناس بـ "أحمد مش آدم"، هذا المقطع جزء من برنامج له تبثه إحدى القنوات المصرية، وفيه يسخر الممثل من مأساة حلب وما أصابها من قتل وحشي وتدمير شامل على أيدي جيش النظام السوري والطائرات الروسية الغازية.

لقد كنت ممن يستمتع كثيرا بالفن الذي يقدمه أحمد آدم وحضرت له مسرحية ماتعة قبل عدة سنوات في القاهرة.. وأثناء مشاهدة ذلك المقطع تجمد فيّ كل شيء، وتساءلت: ماذا يقول أحمد آدم؟ هل ثمة إنسان "إنسان" يضحك على الدماء ويرقص على الأشلاء؟ أي هوة سحيقة انزلقنا إليها في هذه الأيام العصيبة؟

ليس أحمد آدم وحده الذي هبط بالفن من عليائه، بل ثمة آخرون مناصرون للقتلة والمجرمين أمثال دريد لحام ورغدة وإلهام شاهين بتأييدهم المطلق لنظام الأسد.. وهذا ما دفع البعض لوضع "قائمة سوداء"، منددين بأفعالهم الشنيعة التي لا تمت بصلة إلى الفن، وداعين إلى المقاطعة. وهنا أتساءل: ما واجبنا نحن إزاء "القائمة السوداء"؟ وماذا تعني المقاطعة؟ وكيف تكون فعالة؟

سيموتون كمدا
استوحيت عنوان المقالة من كتاب حديث للأديبة السعودية اللامعة فاطمة الوهيبي، حيث اختارت عنوانا لافتا لهذا الكتاب "القتل بالشعر"، وهو يهتم بدراسة جوانب من العنف الشعري العربي، مع تركيزه على شعر جرير ممثلا بقصيدته "الدامغة" التي هجا بها "الراعي النميري"، وقيل إن الراعي كمد بسببها ومات. والذي حملني على مجاراة هذا العنوان اللطيف المبتكر سببان كبيران:

الأول: أن بعض الفنانين العرب (من ممثلين ومطربين ورسامين..) يمارسون بالفعل ما يمكن وصفه بـ "القتل بالفن"، وذلك أنهم دنسوا الفن بالعنف، وباتوا:

– يعضدون القتلة في مشاريعهم الإجرامية التي تفتك بالشعوب والمضطهدين، وفي هذا مشاركة سافرة في القتل نفسه، إذ لا كبير فرق بين من يحمل سكين القتل ومن يحرض عليه، قولا وفعلا.

– يقتلون الغبطة في نفوسنا، ويغتالون انجذابنا إلى فن نقي مسلٍ، عبر أعمال فنية بشعة ترينا أنيابهم، وهي تمزق أشلاء الأبرياء، ودمهم البريء يتقاطر على الخدود والصدور.

الثاني: أن الدعوات إلى مقاطعة الفنانين المدرَجين على القائمة السوداء لم تثمر حتى الآن ثمرات ملموسة، لأسباب عديدة، ولعل منها عدم نجاعة الأساليب التي نستخدمها في الضغط.

هذه المقاطعة لكي تؤتي أكلها ينبغي أن تكون مؤثرة حاسمة، أي أننا نطالب بأن تكون مقاطعتنا منهية بشكل تام للمسار الفني لهؤلاء الفنانين، عبر مقاطعة شاملة، فلا نتفاعل مع أي عمل فني يشارك فيه أحد منهم، وبهذا نتملك قوة لقتل قوتهم القاتلة (استخدم مفردة القتل هنا مجازا وإلا فأنا أنفر منها). وأنا على درجة عالية من اليقين بأن الفنان يموت كمدا حين يُقاطَع، وحين يرى أن الناس أضحت تكرهه وتحتقره وتهمش أعماله، ولا تحتفي بشيء منها.

نحو مقاطعة مؤثرة
المقاطعة المؤثرة تتطلب القيام بالعديد من الأمور والمهام على مستويات مختلفة، وبقوالب متنوعة، مع أهمية ضمان الحد الكافي من التعاون والتنسيق والتكامل. ويمكن الإشارة إلى بعض من هذه الأمور والمهام كما يلي:

– الضغط باتجاه عدم شراء التلفزيونات لنتاج القائمة السوداء (من فنانين ومنتجين ومخرجين)، على أنني أدرك تعذر تحقيق إجماع أو حتى أغلبية في عالمنا العربي المنقسم، ولكن على أقل تقدير يتوجب على التلفزيون في الدول التي ترى في هذا النتاج مخالفة لسياستها الخارجية تجاه بعض الملفات أن توقف عمليات الشراء والدعم والعرض، كدول الخليج العربي، إذ يسعها الكف عن شراء الأعمال التي يشارك فيها مناصرو نظام بشار الأسد مثلا، وفي هذا ضربة موجعة.

– انجفال الناس عن الأعمال الفنية التي يطرحها فنانو القائمة السوداء أو يشاركون فيها، بعدم الحضور أو المشاهدة، والإعلان عن هذا الموقف في وسائل التواصل الاجتماعي، مما يؤثر على مداخيل القنوات التي تتبنى عرض تلك الأعمال، وفي هذه مشاركة مجتمعية كبيرة، ولها تأثير ضخم، فالإعلانات هي المورد الأكبر للقنوات التجارية كما نعلم جميعا.

– ابتكار الشباب العربي لأدوات جديدة للمقاطعة، والعمل على إيصال رسائل التنديد والشجب لفناني القائمة السوداء بكل وسيلة سلمية ممكنة، وتنظيم حملات لمقاطعة القنوات التي تمعن في تبني أعمال هؤلاء الفنانين والمنتجين والمخرجين، ومقاطعة تلك القنوات التي تعارض جهودنا المشروعة في استعادة طهورية الفن ونقائه.

لقد حان الوقت لإسقاط كل فنان يمارس "القتل بالفن"، فأخلاقنا وأعصابنا لم تعد تحتمل مثل هذا الفجور الفني.. ولفداحة ما يرتكبه فنانو القائمة السوداء، فإنني أرى بأن تكون هذه القائمة دائمة؛ لا تقبل أي تعديل بالشطب أو بالإلغاء.. نحن نغفر للفنان أي هفوة إنسانية عادية يقع بها، ولكننا لا نغفر له انضمامه لعصابة "القتلة بالفن".

ولو تراجع عن هذا المسلك المشين فإننا نبارك ذلك له، وندعو له بـ "مغفرة ربانية"، ولكن هذا لا يعني صفحنا عنه بوصفه فنانا، فليعمل ما شاء بعد ذلك غير الفن، فقد أحرق مراكبه الفنية كلها، ولم تعد نفوسنا تستسيغ الاستمتاع بأدائه أو نتاجه الفني، كما كنا في أيام خلت. إنهم كالمصابيح التي تحترق، لا يمكن إصلاحها، فبمجرد اشتمام رائحة الاعتطاب، ينتهي المطاف بهذه المصابيح إلى القمامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.