الإمبراطورية بين الحلم والواقع المتغير

Nigel Farage, the leader of the United Kingdom Independence Party (UKIP), makes a statement after Britain voted to leave the European Union in London, Britain, June 24, 2016. REUTERS/Toby Melville

الصورة تقول أكثر مما تقول الكلمات.. وهنا أتناول الخبر الذي حمل نتيجة تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي, ليس فقط بنصه اللغوي, بل بتعبيرات الفرح على وجوه, وفي حركة أجساد البريطانيين ممن دَفعوا للاستفتاء ودفعوا للتصويت عليه بنعم.

فطريقة تعبير هؤلاء عن فرحهم بالخبر جاءت وكأنهم أحرزوا نصرا مؤزرا في معركة "تحرير".. ولأنه لا تحرير جرى لأنه لا احتلال قام, فهو يؤشر-حسب إجماع المحللين- على شعور بفوقية أُذكيت وصاحبت التوسع الإمبراطوري "لإنجلترا" لتصبح "بريطانيا العظمى".

فهذا الفرح البريطاني الغامر يجسد حنينا إمبراطوريا طاغيا لحالة "العظمى" تلك, وليس "العظمة" التي تشترك فيها مع شعوب أخرى سواء من ذات العرق أو من أعراق مقاربة أو مختلفة. فـ"العظمة" عابرة لكل الأقوام وتتناقض مع فرض أو افتراض فروق عرقية أو عقائدية.

وليس أدل على هذا من الإجماع العالمي على عظمة نيلسون مانديلا والمناضلين الذين قادهم لـ"تحرير" جنوب أفريقيا، ومن أوجه عظمة مانديلا أنه حرص على تحرير محتلي بلاده البيض من ربقة عبودية تمييزية عازلة ومنعزلة (الأبارتهايد) صنعوها هم وعاشوا في ظلها, إذ حرص مانديلا على أن لا يُعامل المواطنون البيض المسمّون (الأفريكان) كما سبق وعاملوا هم سكان البلاد الأصليين السود أو الهنود السمر.

ولكن سبق لبريطانيا أن عاملت مواطنيها الذين توطنوا في القارة الأميركية وكأنهم شعب آخر محتل، والعجيب أن بعض هؤلاء لا يستوعبون, بل وينكرون ما جري لهم، وخاصة منهم سكان جنوب ما أصبح لاحقا يطلق عليه "الولايات المتحدة الأميركية", الذين عوّضوا عن هذا التمييز ضدهم بالتطاول على حقوق أعراق أخرى, بدءا بإبادة ونفي "الهنود الحمر", ووصولا لاستعباد السود المختطفين من أفريقيا.

وعدم قدرة تلك الفئة على استيعاب المتغير الجذري في علاقة بريطانيا الإمبراطورية ببريطانيين على أرض احتلوها, تسبب في الحرب الأهلية الأميركية بين جيشين غالبيتهما الساحقة من البريطانيين, فسالت فيها دماء بريطانية كثيرة.. لينتج استقلال أميركا عن العرش البريطاني.

هذه الخسارة الكبرى أنهت الإمبراطورية البريطانية الأولى, لتليها خسارتها للثانية بعد حوالي قرنين بخسارتها لمستعمراتها في آسيا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة الهند (جوهرة التاج البريطاني), ثم "لقارة" "أستراليا, هذا رغم أن "الحلفاء" كانوا المنتصرين في تلك الحرب.. متنحية للسلطة الدولية البديلة الذي ظهرت تحديدا في أميركا نتيجة الدمار الذي لحق بأوروبا في تلك الحرب, وهي الولايات المتحدة الأميركية.

وكون الولايات المتحدة -رغم نصح إدارة أوباما للبريطانيين بعدم التصويت لصالح الإنفصال عن أوروبا- اعتبرت الأمر قرارا حرا للبريطانيين, فإن أية علاقة بين الولايات وبريطانيا التي لم تعد عضوة في الاتحاد الأوروبي, ستكون اليد العليا فيها حتما للولايات المتحدة. وقد يجري الأمر بصورة فجّة إن فاز ترامب, ولكنه حتما سيجري بصورة أعمق وأكثر حسما إن فاز الديمقراطيون, وإن وأتت هيلاري كلينتون بالذات للرئاسة؛ فكلنتون ليست متطابقة مع أوباما فيما يخص الانسحاب من مناطق النفوذ الأميركي, بخاصة في الشرق الأوسط والخليج العربي وأفريقيا, المجاورة كلها لأوروبا الموحدة.

ولكن لحظيا, تبدو بريطانيا وكأنها من أمكنه قول "لا" لأوروبا بكاملها, وبعد أن قالت "لا" لأكثر من اشتراط للعضوية في الاتحاد الأوروبي, وأمكنها التوصل لاتفاق يصنفها باعتبارها "بنت الست".. ما سيجعل شعوب دول أوروبية أخرى متململة من بعض شروط عضوية الاتحاد, تشعر وكأنها "ابنة الجارية". وهو ما يفسر تصاعد بعض "التململ" اللحظي لدى بعض مكونات الاتحاد, غير "التنمّر" الذي أظهره اليمين الفرنسي المتطرف, والذي هو تنمر في مواجهة الشريكة ألمانيا في قيادة الاتحاد, ولن يأتي لفرنسا بمصدر قوة جديد, بل ستخسر فيه فرنسا فائض القوة المتحقق لها من الاتحاد ومن أوجه تكاملها مع ألمانيا.

والأرجح -بقوة- أن لا ينساق الفرنسيون لدعوات انغلاقية هي أقرب لردود فعل شعوب أغلبها كان قد جرى تهميشها في حقبة الحرب الباردة بحيث لم تأت دولها للاتحاد بالإرث السياسي والاقتصادي والحضاري الضخم الذي أتت به فرنسا, والذي يحتم وجود الأخيرة في كابينة القيادة الأوروبية.

ولكن مع بدء تبين شروط اتفاقية الانسحاب التي لا تملك بريطانيا إملاءها -إذ توقف ما يمكنها قوله عند قرار الانسحاب- سيبدأ -بل وبدأ فعلا وتوالى أثناء كتابة هذا المقال- تبين أثمان قرار كهذا على "بنت الست", حيث لا اعتراف يبقى بميزة لـ"ست" في بيت آخر.

وحسنا فعل الاتحاد الأوروبي بطلبه من بريطانيا التسريع في إجراءات انسحابها، وخيرا يفعل بعدم المسارعة في التراجع عن شروط عضويته, فصلابة موقفه هو من أهم عوامل قوته.. وهي القوة التي ستجذب اسكتلندا وأيرلندا الشمالية للاتحاد, فكل منهما صوتت لعدم مغادرة الاتحاد، وبدأت دعوات لانفصالهما عن بريطانيا, ما يعني أن بريطانيا العظمى قد تعود لتصبح من جديد "إنجلترا" فقط.

وغني عن القول أن لدعوات الانفصال هذه عمق تاريخي لن يصعب استدعاؤه؛ ففي حين أن جراح إيرلندا حديثة وبعض قادتها القوميين الانفصاليين مازالوا أحياء, فإن شعار أسكتلندا الرسمي المعتمد باللاتينية ويظهر في مواقع ومظاهر عديدة لها علاقة بسيادة اسكتلندا, ترجمته تقول "لا أحد يؤذيني وينجو من العقاب".

وبغض النظر عن الكيفية التي ستحاول بها بريطانيا لملمة مختلف أشكال الفتق الداخلي الذي بدأ يظهر فور إعلان نتيجة الاستفتاء, وصولا لأصوات تقول بعدم انفصال لندن (العاصمة) رغم انفصال الدولة عن الاتحاد الأوروبي, والذي مجرد ذكره يطرح سابقة عجيبة تؤشر على عمق الأزمة البريطانية.. في مواجهة كل هذه المشاكل الداخلية, إضافة للمشكل الخارجي مع الاتحاد الأوروبي بكامله, فإن توجه "بريطانيا" لاسترداد عظمتها, سيكون "ميكافيليا" بامتياز.. بمعنى العمل تحديدا بنصيحة ميكافيلي القائلة بأنه في حال مواجهة فشل داخلي لا تستطيع التصدي له, عليك بتحقيق نصر في الخارج.

فكيف إن كان حلم بريطانيا ابتداء هو العودة لهيمنتها عبر تدخلات في الخارج لتطويعه واستعادة نفوذها الإمبراطوري.. وكيف إن كان تكشف قبل هذا شروع بريطانيا بالتدخل عسكريا في مناطق ملتهبة دون علم ودون أخذ موافقة برلمانها, ودون موافقة من الناتو الذي نفي وجود قرار بالتدخل البريطاني في الاقتتال الجاري في ليبيا, والذي لا يمكن أن يسحب عليه أي قرار أو موقف للناتو اتخذ عند اندلاع الثورة ضد القذافي.

والواقع أن ليبيا مجرد مؤشر على أين يمكن أن تتدخل بريطانيا.. فالمستعمرات البريطانية السابقة في آسيا استقرت على أنظمة ديمقراطية, ونمت اقتصاديا بما لا تقبل معه زعزعة استقرارها خدمة لأحلام إمبراطورية أو مغامرات توسعية لأي كان. بينما تأتي ليبيا ضمن إقليم عربي مضطرب بفعل تغير تاريخي, الأوربيون هم من أطلق عليه اسم "الربيع العربي" إذ رأوا فيه نسخة من "ربيع الشعوب الأوروبية". كما تأتي ليبيا أيضا ضمن أفريقيا المضطربة في مواقع عدة. وكلاهما, العالم العربي وأفريقيا, ما زالا مخازن ثروات طبيعية كبرى, حتما هي مكتشفة ومعروفة لدى الغرب، ولكنها غير مستثمرة بقصد في الأغلب.

والأخطر, أن بريطانيا هي حليفة إسرائيل الكبرى؛ والسبب أن كلا منهما تريد أن تعتاش برفاهية على حساب آخرين, وربما لا نبالغ إن قلنا على حساب كوارث تنزل بآخرين. وهو ما لا تقبله أوروبا الموحدة ونهجها التعايشي الأعقل في تاريخ القارة، وهو أيضا ما لم تعد تقبله أميركا في عهد أوباما الذي شكل مجيئه ردّة شعبية عن نهج الجمهوريين (كرست إنجازاته حقيقة تلك الردة) وقلص كثيرا من نفوذ حزبهم, وحفز لأول مرة ظهور مرشحَين رئاسيين مستقلين بدرجة غير مسبوقة عن الحزبين, كما يمكن القول عن ترامب وساندرز, كون إمكانية ترشح بل وفوز كليهما كمستقلين جرى تداولها ولو بشكل محدود.

وما حسم وسيحسم تحاشي تغيير كهذا هو الخوف الحقيقي في الحزبين من تحققه, ضمن تغيّر عالمي من أبرز أسبابه وركائزه ظهور أوروبا الموحدة المدركة لضرورات التعايش مع جوارها اللصيق, وتشذيب مسننات الخلاف والاختلاف معه, وليس شحذها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.