تحديات في وجه الثورات

دوار الساعة ذي الرمزية الكبيرة في الثورة، وهو يعرف بدوار الحرية، لأن المظاهرات في بداية الثورة كانت تقام عنده


لم يكن الربيع العربي خطأ، ولاتدبيرا من قوى خارجية كما يتحدث البعض، كان ثورة على الظلم الذي طال أمده وعلى الفساد الذي دمر الأوطان وهجر الطبقة المتعلمة التي لا يطيق الاستبداد التعايش معها.

لم يكن خطأ ذاك الذي وقع، قامت ثورات بشكل عفوي وبهمة عظيمة وروح قوية تنشد الحرية والكرامة الإنسانية وتحقيق العدل ليشعر الإنسان بقيمته، ولكن الثورات لا يستقيم أمرها ولا تقف منتصبة أمام الطغيان دون قيادة تتخذ القرارات السليمة.

ومن تلك القرارات ضبط "البوصلة" التي تحدد الأهداف القريبة والبعيدة، وهو أمر فطري وطبيعي، مع أننا نسمع من يقول الأفضل أن تبقى عفوية دون قيادة، وهذا إن كان مقبولا في بداية الأمر ولكنه غير مقبول ولا يصح أن تستمر دون قيادة.

لا يستقيم أمر الثورات دون معرفة المعوقات والعقابيل التي يمكن أن تكتنفها، والتهيؤ لها ووضع الحلول قبل وقوعها، لأن الثورة إذا طال أمدها ولم يضبط أمرها تصبح كالمطية التي تسوق صاحبها ولا يسوقها، ويفلت الزمام من الأيدي فلا يُعرف من القابض عليه ومن المتخلي عنه، وعندئذ تضيع الخطط والأهداف وتختلط الأعمال ولا يُدرى من المسؤول ومن الذي يتحمل التبعات.

وتكثر المخاطر إذا تحولت الثورات إلى ثورات مسلحة دون ضبط، نتيجة لخطورة حمل السلاح إن لم يكن مستندا على علم وتربية، فحينئذ تستيقظ قوى خفية في النفوس الضعيفة وتعود إلى حالة من الهمجية في القتل، ويُصبح أمر الدماء بالحق والباطل سهلا على هذا الفرد لأن الذي يحمل السلاح دون استعداد يظن أن كل شيء يجب أن يُحل بالقوة، والبندقية تمنح إحساسا سطحيا وفوريا بالرضى.

وعندما يطول أمل الثورة ولا تكون هناك مراجعات ووضوح حتى تعلم الحاضنة الشعبية ماذا يدور على الأرض وخاصة في المجال السياسي، إذا لم يكن ذلك فإن الناس يُصابون بالإجهاد والتعب، بل يصل بهم الأمر إلى اللامبالاة، وقد تضعف نفوسهم ويستسلمون لأي قادم مهما كان هذا القادم تافها، ومن ثم يرضون بالقليل القليل.

وعندما يطول أمد الثورة ولا تُضبط أُمورها يخرج الغوغاء والانتهازيون الذين يتحينون الفرص للاستفادة من الثورة مالا أو جاها, ويتقدم الجهلة لأمور الدين أو الدنيا وهم أُناس لم يكونوا في العير ولا في النفير، كما يُخشى من تسلل طبقة أصحاب المصالح التجارية إلى مكونات الثورة ومؤسساتها السياسية، وعندئذ يبدأ القبول بالحلول الضعيفة والرديئة ضمانا لمصالحهم الخاصة، والقاعدة السياسية تقول: لا يمكن استحداث إصلاح سياسي دون إثارة قوى معارضة لها مصالح مرتبطة بالوضع القائم المراد تغييره.

ومن عقابيل الثورات التي ظهرت في الثورة الفرنسية والروسية والصينية أنها أعادت إنتاج نظام فيه شبه بالنظام التي سارت عليه، فعادت القيصرية في روسيا بثياب جديدة وهي طغيان الحزب الشيوعي وطغيان الدولة، وفي الصين عادت البيروقراطية القديمة في صورة التصلب التنظيري للماوية.

كما أن الضباط الذين ثاروا في مصر عام 1952على العهد القديم وعلى الإقطاع والباشوات تحولوا هم إلى "سوبر باشوات" كما كتب المؤرخ المصري حسين مؤنس، والذين ثاروا على السلطان عبد الحميد واتهموه بالاستبداد وإلغاء الدستور حكموا بالحديد والنار عندما استولوا على السلطة, وبعض الفصائل السورية اليوم فتحوا السجون وقتلوا المعارضين مقلدين النظام الذي يثورون عليه.

تحلم الثورات عادة بنموذج غير ملوث تريد تحقيقه اليوم، ولكن هذا في الغالب يخالف ما هو موجود على أرض الواقع، ولا يصلح في هذه الأجواء استنساخ صور جزئية من الماضي وإنزالها على الواقع، بل لا بد من الاجتهاد وأن يرسم خط واضح للتغيير المنشود.

قد تصل الأمور إلى أنه لا بد من حل سياسي فكيف ستكون المواقف؟ هل تبدأ التنازلات والشروط المخففة بحجة الاعتدال وباسم التكتيك! وهل تتخلى الثورة عن أصالتها ورموزها، وهل يصل الأمر إلى تقشير التفاحة حتى لا يبقى منها شيء كما يقول أحد الفلاسفة، وهل تحتضن الثورة أنصارها وأصحاب الوجهة المخالفة الذين يُضمرون العداوة والبغضاء بحجة المصالحة والتقارب وتكون النتيجة طبعة هجينة من ثقافة وفكر، و"يصبح المواطن كالبصير في بيت مُظلم يتلمس طريقه ولا يكاد يهتدي". كما يقول الكاتب الجزائري أبو القاسم سعد الله.

وإذا كان الحل الساسي لا بد منه أو كانت الثورة مضطرة إليه، فيجب أن يحقق المطالب الأساسية للثورة حتى لا تذهب الجهود العظيمة التي قام بها الثوار أدراج الرياح، والحلول السياسية ليست غريبة على الثورات.

وفي تاريخنا الإسلامي حالات كثيرة جنح فيها الطرفان المتخاصمان إلى المفاوضات وتقبلا الحلول السلمية، كما حصل مثلا حين قامت ثورة كبيرة على الحجاج بن يوسف أمير العراق وحصلت مفاوضات بين الخليفة عبد الملك والثوار قادت إلى توافقات معينة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان