الأسئلة العالقة في الحالة الفلسطينية

A photograph provided by the Palestinian Authority shows Palestinian Prime Minister Rami Hamdallah (L) in the Palestinian Authority's headquarters in the West Bank town of Ramallah, 29 May 2014, as he is tasked by Palestinian President Mahmoud Abbas (R) to form the new Palestinian cabinet to be comprised of technocrats, in the coming five weeks. EPA/THAER GHANAIM / PALESTINIAN AUTH

سؤال الشرعية
سؤال التسوية
سؤال الخيار الوطني

ثمة أسئلة عديدة تطرح نفسها على الفلسطينيين بإلحاح منذ أكثر من عقدين، أي منذ تحول حركتهم الوطنية إلى سلطة، وفق اتفاق أوسلو المجحف والجزئي والمهين 1993، ولاسيما منذ رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، رئيس المنظمة والسلطة وقائد حركة فتح 2004.

فرحيل عرفات قطع مع الازدواجية التي كانت سائدة في الخطاب السياسي الفلسطيني كما في طبيعة حركة التحرر الفلسطينية، بين كونها سلطة وكونها مقاومة، بين كونها تنتهج المفاوضة والكفاح المسلح في الوقت ذاته؛ وهو ما تجسد في الانتفاضة الثانية (2000- 2004).

سؤال الشرعية
لعل أحد أهم الأسئلة المطروحة اليوم على الفلسطينيين هو سؤال الشرعية وهذا يشمل مختلف كياناتهم السياسية، المنظمة والسلطة والفصائل، فكلها انتهت آجالها القانونية، فضلا عن أن شرعيتها كفصائل تحمل رؤى وتنتهج وسائل كفاحية معينة باتت بحاجة إلى مراجعة أو إلى تجديد.

فمثلا، لدينا في الساحة الفلسطينية أربع شرعيات: الأولى هي "الشرعية الثورية"، المتأتية من "عصر الجماهير" في حقبة الخمسينيات والستينيات، ومصدرها الرأي العام، الذي وجد في انطلاقة الكفاح المسلح، وتضحيات وبطولات الفدائيين، محاولة لترميم روحه، وكيانيته المتخيلة، وتحقيق آماله.

والمشكلة أن هذه "الشرعية" مازالت تعمل، وفق نظام المحاصصة الفصائلية (الكوتا)، رغم انتهاء مفاعيلها ومعانيها، ورغم تقادم وأفول معظم الكيانات السياسية المتشكلة منها.

أما الثانية، فهي الشرعية التمثيلية، التي مصدرها الشعب، كما تتجسد في صناديق الانتخابات، وهذه تمت بعد إقامة كيان السلطة (1993)، لذلك فهي مثل الاتفاق أي مجرد شرعية جزئية ومنقوصة، لأنها متأتية من جزء من الشعب فقط، على جزء من الأرض، وفق حقوق مقيدة، وهذه أيضا انتهت إطاراتها الزمنية، وهذا ينطبق على مكانة الرئيس والمجلس التشريعي؛ إذ انقضى على انتخاب هذا وذاك أكثر من عشرة أعوام.

ثمة أيضا شرعية ثالثة، وهي المنبثقة من القيادة الفلسطينية ذاتها، حيث تقوم قيادة منظمة التحرير -رغم أنها غير منتخبة- بتشكيل هيئات تضفي عليها شرعية معينة، كأنها تنتخب ناخبيها، مستغلة مكانتها، ومستقوية بالشرعية الدولية والعربية التي تحظى بها.

أما الشرعية الرابعة فهي الشرعية الفصائلية، وقد بدأت هذه الشرعية تشتغل بعد انحسار مكانة منظمة التحرير كمرجعية لكل الفلسطينيين، وتبعا للانقسام الحاصل بين الحركتين الرئيستين (فتح، وحماس)، وانقسام النظام السياسي بين سلطتي الضفة وغزة، علما أن كل فصيل -مهما كان حجمه ودوره- يدعي أيضا أنه يمتلك شرعية، وأنه يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، من القيادة العامة وفتح الانتفاضة إلى جبهات التحرير والنضال والعربية وحزبي الشعب وفدا.

فوق كل ذلك لدينا في الساحة الفلسطينية نظامان سياسيان، أحدهما يتمثل في منظمة التحرير، أو ما تبقى منها، وهذا يفترض فيه أنه يمثل كل الشعب الفلسطيني، ويرمز إلى وحدة قضية الفلسطينيين. والثاني يتمثل في السلطة القائمة في الأراضي المحتلة 1967، وهي خاصة بفلسطينيي الضفة وغزة.

في هذا الإطار تبرز احتمالات عديدة لتجديد الشرعية الفلسطينية، الأول يتعلق بالذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية، لكنه احتمال ضعيف، ولا يوجد ما يفيد بذهاب القيادة الفلسطينية نحو هذا الخيار، حتى الآن، سيما في ظروف الانقسام بين السلطتين. والثاني، يتمثل بمحاولة تجاوز مشكلة الشرعية بالذهاب نحو إقامة نوع من علاقة كونفدرالية مع الأردن، وهذا من شأنه تعويم الطبقة السياسية السائدة، وتجاوز الإخفاق الحاصل في الخيارات السياسية التي تم انتهاجها منذ اتفاق أوسلو، والالتفاف على رفض إسرائيل إقامة دولة فلسطينية، لكن هذ الخيار بدوره لن يلبي حقوق الفلسطينيين، وسيبقى معرضا للاهتزاز.

ويتعلق الخيار الثالث بإمكان التخلص من القيادة الحالية والسعي لفرض قيادة جديدة، بانتخابات جديدة، أو من دونها، من خلال تصعيد بعض القادة الفلسطينيين الذين يمكن أن يشكلوا حالة مغايرة في المشهد السياسي إزاء إسرائيل وإزاء النظام العربي، ولا يخفى أن ثمة حديث في هذا الموضوع يدفع باتجاه تصعيد محمد دحلان القيادي السابق في فتح، المدعوم من الإمارات ومصر، علما بأن هذا الخيار ضعيف الاحتمال، ويواجه معارضة فلسطينية وعربية، لا سيما أن دحلان لم يعد ضمن المؤسسة الفلسطينية، وأن ثمة شبهات سياسية ومسلكية بخصوصه لدى الرأي العام الفلسطيني. طبعا، يبقى احتمال آخر رابع، وهو إبقاء الوضع الفلسطيني على ما هو عليه، أي إلى مزيد من الجمود والترهل وانعدام الفاعلية.

سؤال التسوية
يفتقد الفلسطينيون منذ زمن لأي مشروع وطني جدي ذي أفق مستقبلي، بل حتى لو امتلكوا مثل هذا المشروع -بغض النظر عن مستواه أو طبيعته- فإنهم لا يملكون القدرات والإمكانيات والمعطيات المواتية لفرضه على إسرائيل.

فإذا كان خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع في حالة موت في المدى المنظور، بحكم تعنت إسرائيل ومساندة الولايات المتحدة لها، وإذا كانت القيادة الفلسطينية عاجزة عن تغيير المعادلات السياسية أو عاجزة عن تحرير إرادتها لطرح خيارات جديدة، فإن الخيارات الباقية، من الناحية الواقعية أو العملية، لا تلبي الحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين، فضلا عن أنها لا تتعامل مع قضيتهم بطريقة شمولية، وهي لا تتأسس على قواعد الحق والعدالة والحقيقة ولو من الناحية النسبية.

في هذا الإطار فقد برز مؤخرا، من بين هذه الخيارات، "الخيار الأردني"، وهو خيار قديم جديد، وبالنسبة للإسرائيليين فإن هذا الخيار لا يتضمن الاعتراف بكيانية سيادية للفلسطينيين، وإنما يتضمن مجرد انسحاب إسرائيلي جزئي من المناطق الفلسطينية الكثيفة السكان، وتركها للسيادة الأردنية، وتاليا ترك الفلسطينيين لتدبر أنفسهم مع الأردن.

ويثير هذا الطرح أيضا تساؤلات عن سبب الذهاب نحو "الخيار الأردني" مجددا، وكأن صراع الفلسطينيين مع الإسرائيليين يتوقف على الأرض/الجغرافيا، أو على قطعة أرض هنا أو هناك، وكأنه لا يفترض حقوقا سياسية للمواطنين، ناهيك عن أن ذلك يتضمن التخلي بداهة عن الرواية الوطنية الفلسطينية، وعن وحدة الفلسطينيين، أو عن معنى كونهم شعبا.

في مساجلة هذا الطرح ربما من الأجدى والأصوب، الذهاب نحو خيار آخر يتعلق بالنضال من أجل تعزيز حقوق المواطنة في كل فلسطين/إسرائيل، بما لا يخل بوحدة أرض فلسطين ولا بوحدة شعبها، ولا يخل بمواصلة الكفاح بتقويض الصهيونية كفكرة وكمؤسسات.

والفكرة هنا أن أي حل أو خيار بالنسبة للفلسطينيين من الأنسب أن يفتح مسارا مستقبليا يؤدي -وفق تطورات سياسية واجتماعية- إلى حل الدولة الواحدة الديموقراطية، أي دولة المواطنين، حتى لو مرت بتعرجات، من ضمنها قيام دولة مواطنين ذات طابع ثنائي "القومية" وعلى أسس ديموقراطية.

وكما نشهد فقد تزايدت في هذه الآونة خيارات التسوية، وضمنها المبادرة الفرنسية، ومبادرة السيسي، والعودة إلى المبادرة العربية (قمة بيروت 2002)، كأن الأمر يحتاج إلى مبادرات بعد كل الاتفاقيات التي أطاحت بها إسرائيل، من اتفاق أوسلو إلى خطة خريطة الطريق (2002) وصولا إلى مسار آنا بوليس (2007) والمفاوضات التي جرت عام 2013، ولم تسفر عن شيء.

والسؤال الذي يلح هنا: ما الحاجة إلى مبادرات أو مفاوضات مع وجود العديد من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي تعالج مختلف جوانب هذا الصراع من منطوق المعايير الدولية، إذا لم يكن الهدف الفعلي الالتفاف على هذه القرارات وتخفيض سقف الحقوق الفلسطينية أو تجاوزها؟ ثم ما هذه التسوية التي ستحدث في ظروف تصدع المشرق العربي، من العراق إلى سوريا وصولا إلى لبنان، إن لم يكن الغرض منها تقطيع الوقت أو اللعب السياسي؟

والمعنى هنا أن إسرائيل في هذه الظروف، أي في ظل غياب الضغط الدولي والعربي عنها، وتصدع المشرق العربي، وفي ظروف التحول نحو اليمين فيها، ليست معنية ولا بأي شكل بتسوية منصفة مع الفلسطينيين، ولا بحدودها الدنيا. وفي الحقيقة فإن كل التحركات والمواقف الجارية الآن تبدو بمثابة نافذة فرص لإسرائيل لفرض أجندتها على الفلسطينيين، وفرضها كفاعل رئيسي في الإقليم، وكل حديث عن التسوية أو المبادرات لا يصب في هذا الاتجاه، لا يمكن للولايات المتحدة ولا لإسرائيل التعامل معه.

سؤال الخيار الوطني
منذ عشرة أعوام ظلت القيادة الفلسطينية، في ظل قيادة أبو مازن، تتحدث عن خيارات بديلة من دون أن تفعل شيئا من الناحية العملية، والأهم من ذلك أنها لم تمهد لشعبها، ولم تهيئ ذاتها لأي خيار بديل، علما أن كل خياراتها ظلت في إطار المعادلة التي بني عليها اتفاق أوسلو، في حين أن خيارات إسرائيل البديلة ظلت تتأسس على الضد من هذا الاتفاق، أي على أساس تجاهل حقوق الفلسطينيين، واستمرار السيطرة على أراضيهم، وتأكيد الرواية الإسرائيلية.

المعنى أن الفلسطينيين معنيون بتغيير هذا الواقع، بالإقلاع عن التلويح بخيارات بديلة في التصريحات، واتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، علما أن الأمر بات يتطلب الخروج من المعادلة القائمة، لأن البقاء في ملعب أوسلو لم يعد مفيدا ولا مجديا، إذ باتت إسرائيل مع كل المشاريع التي تطرحها، في مكان آخر، أو في لعبة أخرى تماما.

على ذلك فلعل نقطة البداية في البدائل الفلسطينية التي يفترض العمل عليها فعلا لا قولا فقط، تتمثل بالتركيز على إعادة بناء الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، على قواعد مؤسسية وديموقراطية وتمثيلية ووطنية، لأن الاشتغال على أي خيار كفاحي لصد التحديات الإسرائيلية لا يمكن التأكد من صدقيته وفعاليته، من دون توفر البنى القادرة على حمله، والبنى الشعبية الحاضنة له.

أما الخطوة التالية فتتعلق بالخروج من إسار العقلية التي قامت على أساسها مفاوضات أوسلو، باعتبار توافق الطرفين المعنيين هو المرجعية الوحيدة للمفاوضات، ما جعل هذه العملية رهنا بالطرف الإسرائيلي لأنه الطرف المسيطر، والأكثر قوة.

ففي هذه الظروف، وبالنظر إلى عدم توافر المعطيات وموازين القوى العربية والدولية المناسبة للفلسطينيين، من الأجدى إعادة الاعتبار لمرجعية القرارات الدولية، بدءا من القرارين 181 و 194، اللذين يتحدثان عن دولة فلسطينية ضمن حدود نصف خريطة فلسطين التاريخية، وليس ضمن حدود 22 في المئة فقط، وعن بقاء الفلسطينيين في بيوتهم وممتلكاتهم أينما كانوا، وعن حق العودة للاجئين، فضلا عن باقي القرارات التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للضفة والقدس الشرقية، وتنزع الشرعية عن الاستيطان، وعن أي إجراء يغير الوضع في الأراضي المحتلة عام 1967، ويطالب بانسحاب إسرائيل منها دون أية شروط.

بديهي أن المطلبين الأول والثاني يفيدان بأن الغرض ليس حل السلطة، فهذا ليس بالأمر الهين، فضلا عن أن ذلك يسهل على إسرائيل ما تريد، ناهيك عن أنه ينم عن عجز، وإنما الغرض هو تغيير وظائف هذه السلطة، واستعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني، وتركيز الاهتمام على إعادة بناء الكيانات الفلسطينية، وبناء مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، وتوفير المستلزمات لصمود الفلسطينيين في أرضهم، وتعزيز مقاومتهم للسياسات الاستيطانية والاحتلالية والعنصرية الإسرائيلية، بالوسائل الممكنة والمناسبة له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.