الطروحات السياسية الخاطئة في أميركا اللاتينية

The Chamber of Deputies meets to vote on whether or not to impeachment Brazil's President Dilma Rousseff in Brasilia, Brazil, Sunday, April 17, 2016. The vote will determine whether the impeachment proceeds to the Senate. Rousseff is accused of violating Brazil's fiscal laws to shore up public support amid a flagging economy. (AP Photo/Eraldo Peres)


يبدو أن الناخبين في أميركا اللاتينية الذين حتى وقت قريب كانوا متحمسين لحكوماتهم اليسارية قد بدأوا بتغيير موقفهم، ففي البرازيل وفنزويلا يرغب الناخبون بإقصاء قادتهم وقد قاموا بذلك بالفعل، في الأرجنتين وفي بوليفيا رفض الناخبون محاولات الرئيس إيفو موراليس تعديل الدستور لترشيح نفسه لفترة رئاسية ثالثة، وفي بيرو لم يتمكن أي مرشح يساري من الوصول للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية والتي ستعقد في 5 يونيو/حزيران القادم.

لكن التعلم من التجارب الماضية هو أصعب بكثير مما يبدو عليه، فنحن لا نستطيع أن نعيش مجددا بالماضي ولكن يمكننا فقط أن نروي القصص عنه، وعادة لا تعكس تلك القصص التي نرويها ما حصل فعلا، ولا يوجد مكان ينطبق عليه هذا الكلام أكثر من أميركا اللاتينية.

إن الطرح الذي تبناه القادة اليساريون الذين جاءوا مؤخرا -وخاصة لويز إيناسيو لولا دا سيلفا من البرازيل وهوغو تشافيز من فنزويلا وكريستينا كريشنر من الأرجنتين- كان مبنيا على أساس تجدد الصراع الطبقي بين "الشعب" وما يطلق عليه "أعداء الشعب".

إن الطرح الذي تبناه القادة اليساريون الذين جاءوا مؤخرا -وخاصة لويز إيناسيو لولا دا سيلفا من البرازيل وهوغو تشافيز من فنزويلا وكريستينا كريشنر من الأرجنتين- كان مبنيا على أساس تجدد الصراع الطبقي بين "الشعب" وما يطلق عليه "أعداء الشعب"

لقد قيل عن السياسات التي سبقت سياساتهم بأنها مؤيدة للأغنياء لأن الحكومات التي سعت لتحقيقها كانت خاضعة للأغنياء، كما قيل إن حركاتهم الشعبية ثارت ضد التركيبة السياسية، وتحديدا ضد النخب المحلية التي عادة ما تكون متواطئة مع الإمبريالية (أي الولايات المتحدة الأميركية بشكل رئيسي) التي تحمي مصالح أعداء الشعب.

لكن لو أن الناخبين قرروا الآن التخلص من اليسار وسياساته التي يفترض أنها "مؤيدة للشعب" فإن السبب وراء ذلك ليس لأنهم يفضلون "العدو الطبقي" بل لأنهم قد غيروا من طروحاتهم.

بالإضافة إلى الطبقة، هناك على الأقل ثلاثة طروحات بارزة سياسيا في أميركا اللاتينية. إن إحدى تلك الطروحات تركز على الفساد: إن الأشخاص السابقين كانوا فاسدين، وعليه قمنا بطرد هؤلاء الأوغاد، والآن بدأ الأشخاص الجدد بالسرقة أيضا -بغض النظر عن سياستهم- ولقد حان الوقت لأن يذهبوا.

إن الطرح الثالث مبني على أساس النظريات الاقتصادية المتنافسة، لقد مثلت التسعينات حقبة صعود لليبرالية الجديدة، وهي نظرة عالمية اقتصادية افترضت بشكل خاطئ أن فوائد النمو الاقتصادي سوف تنساب لأولئك الموجودين في القاع، وأنه يتوجب على الحكومات تبني التقشف وعدم عمل شيء باستثناء ترك الأسواق تعمل، وقد كان للحكومات اليسارية الجديدة نظرية اقتصادية أفضل، وهي نظرية تعزز النمو الاقتصادي، بينما تخلق فرصا في القاع. والآن ونحن في خضم حالة من الركود التضخمي فمن الممكن أن يشكك الناخبون بهذا البديل.

إن الطرح الأخير يسلط الضوء على دور الظروف الخارجية -الحظ السعيد وليس السياسات الجيدة- في تحديد الأداء الاقتصادي. عندما تكون أسعار السلع مرتفعة ورأس المال العالمي متوفرا ورخيصا كما كان عليه الحال في السبعينات وفي الفترة من 2004 إلى 2012 يبدو صناع السياسات وكأنهم عباقرة ولكن عندما ينحسر المد كما حصل مؤخرا فيبدو هؤلاء وكأنهم حمقى.

ستصبح الحكومات أكثر فعالية في المستقبل فقط لو تعلم الناخبون أن يصبحوا أكثر إلحاحا وطلبا للسياسات التي تتبناها الحكومات المستقبلية، ولكن أيا من الطروحات السياسية لأميركا اللاتينية لا تعلم الناخبين أي شيء جديد أو مفيد، فلولا وتشافير لم يطيحا بحكومات يمينية، بل كانت الحكومات التي سبقتها حكومات يسارية بقيادة أعضاء من الاشتراكية العالمية.

لم يخترع لولا التحويلات النقدية المشروطة بل قام بتوسيع وتغيير اسم برنامج ورثه عن من سبقوه، كما لم يقم تشافيز بتأميم صناعة النفط، فقد تم عمل ذلك سنة 1976. أما في الأرجنتين فإن الرئيسة السابقة كريستينا ونستور كريشنر (زوجها والرئيس الذي سبقها) كانا ينتميان للحزب البيروني، ولكن طبقا لطرحهما، فإن دور حزبهم في السلطة عندما وقعت معظم حالات القتل خلال "الحرب القذرة" في فترة السبعينات قد تم محوه من التاريخ.

إن الحقيقة هي أن معظم بلدان أميركا اللاتينية قد أساءت إدارة الازدهار الاقتصادي في السبعينات، وعندما تحول المد انتهى المطاف بها في أزمة الدين التي وقعت في الثمانينات، وقد أساءت جميعها في البداية إدارة تلك الأزمة كذلك.

الحقيقة هي أن معظم بلدان أميركا اللاتينية قد أساءت إدارة الازدهار الاقتصادي في السبعينات، وعندما تحول المد انتهى المطاف بها في أزمة الدين التي وقعت في الثمانينات، وقد أساءت جميعها في البداية إدارة تلك الأزمة كذلك

لقد وجدت الحكومات فجأة نفسها بإيرادات أقل بكثير من المتوقع، وعندما كانت الأسواق غير راغبة في إقراضها الفرق؛ انتهى بها المطاف تطبع الأموال مما تسبب في إضعاف سعر الصرف وبدأ التضخم بالارتفاع، ومن أجل منع ذلك اختارت تلك الحكومات طريقا مسدودا آخر من الناحية الاقتصادية وهو ضوابط العملة والأسعار.

في نهاية المطاف وفي أواخر الثمانينات تبنت تلك الحكومات إستراتيجية مختلفة، فقد أعادت هيكلة الدين وألغت الضوابط المالية وفرضت التقشف ورفعت الضرائب وخفضت الإنفاق من أجل التوقف عن طبع النقود، وانتهى المطاف بالناخبين بإعادة انتخاب رؤساء مثل كارلوس منعم في الأرجنتين وفرناندو انريكه كاردوسو في البرازيل والبرتو فوجيموري في بيرو؛ تحديدا لأنهم كانوا قادرين على التغلب على أزمة الدين وتحقيق التوازن في الميزانية وخفض التضخم.

ولكن عندما كان من المفترض أن تجني تلك الحكومات فوائد عملها الشاق تسببت أزمة شرق آسيا في يوليو/تموز سنة 1997 في انهيار أسعار السلع والتي أجبرت روسيا على التقصير في الدفع في أغسطس/آب 1998، وأغلقت جميع الأسواق الناشئة بسبب العدوى المالية، وقد اندلعت الأزمات لاحقا لذلك في فنزويلا (1998) والبرازيل (1999) والأرجنتين (2001) مما أدى لانتخاب تشافيز ولولا وكريشنر.

وبضربة حظ تغير الموقف بشكل دراماتيكي سنة 2004 ودخلت أسعار السلع في أطول فترة ازدهار (دورة السوبر) وزادت شهية المستثمرين لديون الأسواق الناشئة بشكل كبير، وتم التخلي عن الحاجة للتقشف بسبب إمكانية الإنفاق بدون طبع النقود أو نفاذ النقد الأجنبي، ولكن تمت إساءة إدارة الثروة غير المتوقعة مما أشعل التبذير المالي، وتركت نهاية الازدهار الاقتصادي الاقتصادات في حالة ركود والناخبين بأحلام منكسرة.

لقد وجدت الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا أنفسها وبشكل مفاجئ في وضع مماثل لحقبة أواخر الثمانينات، وعليه فإن الحلول تبدو مشابهة كذلك. لقد أيد الناخبون بحماسة الإنفاق ببذخ خلال فترة الازدهار الاقتصادي وصفقوا عندما ألغى رئيس الإكوادور رافيل كوريا صندوق الاستقرار النفطي الذي ورثه، وعندما قام تشافيز بزيادة الدين الخارجي بمقدار خمسة أضعاف بدلا من ادخار الأموال للأيام العصيبة، والآن وبعد انتهاء الحفلة يريدون حكومات أكثر محافظة من أجل تحقيق الاستقرار واستعادة ثقة الأسواق الضرورية من أجل تشجيع الاستثمار الخاص.

وحتى يحين الوقت الذي يتعلم الناخبون ما الذي يريدونه من حكوماتهم فلا بد أنهم سوف يكرهون ما سيحصلون عليه في نهاية المطاف، ولسوء الحظ فإن الطروحات السياسية المهيمنة لا تساعد هذه العملية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.