زها حديد التي لم ترحل

Iraqi-born architect Zaha Hadid poses inside Maxxi museum of contemporary art and architecture in Rome, in this file photohraph dated November 13, 2009. Internationally renowned Iraqi-British architect Zaha Hadid, whose designs included the London Aquatics Centre used in the 2012 summer Olympics, has died aged 65, her company said on March 31, 2016. REUTERS/Max Rossi/files

مخاطر التمجيد والمصادرة
معمارية في عالم الرجال
الحاجة إلى قراءة جديدة
المسكوت عنه أوروبيا

كيف لها أن ترحل وقد حفرت اسمها في نحو ألف عمل بديع يتجلى شاخصا للناظرين، عبر أوروبا والعالم؟ اجتازت زها حديد تجربة صعود مذهلة، ولم تكتمل سيرتها بوفاتها البيولوجية، فتجربة ابنة الموصل والعالَم "باقية وتتمدد"، ولعلها أسست الآن لبداية حضورها الجديد عبر الأجيال التي ستعيد اكتشافها وإدراك أعمالها والاختلاف في تأويلها.

مخاطر التمجيد والمصادرة
ينبغي التحوّط من نزعتين قد تحاصران زها حديد في هذه اللحظة؛ أولاهما تمجيد المبدع وتحويله إلى صنم بلا روح، وتطويقه بأسلاك الشعارات الشائكة أو تغليفه بلافتات تعزل المبدع عن الإبداع، وتصعد به إلى برج عاجي. والمخاطرة الثانية أن تصادرها قوالب التحجيم الوطنية والنسوية والأيديولوجية والقراءات التجزيئية، كما فعلت ببعض من بزغوا قبلها في الفضاء الإنساني عبر الحقول كافة، فاستحالوا علامات مسجلة لدعايات وطنية أو شعارات أيديولوجية أو فصائل سياسية.

من القوالب الجاهزة للتحجيم، التي نحتها بعضهم وابتغى اختزال زها حديد فيها، اعتبارها "معمارية ما بعد حداثية"، هكذا ببساطة. وبصرف النظر عن نزعات أيديولوجية تتستر أحيانا خلف "شعارات" كهذه؛ يتسرّع بعضهم بإطلاق تصنيف أحادي الوجهة، مثل "ما بعد حداثي" أو غيره، وقد تتحرر هذه الأحكام تحت وطأة لحظة الانبهار بأعمال زها حديد، فيتم تركيب استنتاج تقليدي يستدعي "ما بعد الحداثة" مثلا لمجرد أنّ المعمارية المتألقة كسرت توقعاتهم، حتى قبل أن يُتاح لهم التأمل المديد في الأعمال وسبر أغوارها والانفتاح على أبعادها.

أسست زها حديد لقواعد جديدة لها توازناتها وتناسقاتها المحسوبة وإن تجاوزت المألوف، ولهذا، يمكن أن تُنسَب إليها مدرسة أو نمط مخصوص في فن العمارة، تحت عناوين من قبيل الحركية والانسيابية مثلا، وألا تُحشر في عباءة من سبقها كما يجري عادة

يقتضي الزعم خوض المراجعة والتمحيص على أي حال، فهل بالوسع تعميم وصف "ما بعد الحداثة" على تجربتها؛ مع الاتجاه الانسيابي الواضح في وفرة من أعمالها وانسجامها المذهل مع البيئة والطبيعة بتموّجاتها الأفقية أو بارتقائها العمودي؟

والواقع أن أعمال زها حديد اتجهت من كسر التوقعات إلى الحركية الانسيابية التي تبعث طمأنينة بصرية مذهلة، وذلك دون التفريط بالمقاصد الوظيفية للتشكيل والبناء. ولم يغب عن أعمالها منحى التناغم مع هوية البناء ذاته، فاعتمدت تصاميم تراعي دور كل بناء بصفته المستقلة، كما يتضح مثلا في تصميم منصة للتزلج على الجليد في جبال الألب النمساوية ومركز للفن المعاصر في أوهايو ومركز للعلوم التجريبية في فولفزبورغ الألمانية، وثلاثتها على سبيل المثال مالت إلى الحدّة في الشكل، خلافا لمنحى التموج والانحناء في معالم أخرى وفيرة.

ألا يمكن ردّ القوالب الاختزالية من قبيل "ما بعد الحداثة" على أصحابها؛ بالقول مثلا إنّ زها حديد عادت أيضا إلى الطبيعة وتألّقت بالروح، وهذا من قلب الحداثة ذاتها أو من التفكيكية التي حُسبت عليها ابتداء؟ وهل بوسعنا أن نعزل روح الخط العربي عن المنحى الانسيابي لديها؟

لقد طوّعت زها حديد، التي نشأت نشأتها الأولى في العراق، صروحها الأخّاذة، كما يطوِّع شيخ الخطاطين الحروف العربية ويشكِّل منها مفاجآته المبهرة. ويتناغم الحراك البصري الناعم في أعمالها المتأخرة مع تشكّلات الكثبان الرملية أفقيا أو التموجات البحرية كما في مركز حيدر علييف في باكو، أو يتماهى مع تفاعلات الشجر في صعودها العمودي في غابات كمبوديا كما يتجلى في مركز للتوثيق في البلد ذاته، ثم إنّ الملمح البصري الحاد في متحف شيدته في جنوب التيرول الواقعة أقصى شمال إيطاليا لا يمكن أخذه بصفة مستقلة عن الطبيعة الجبلية الحادة للقمة التي انتصب فوقها.

قد نستنتج بنظرة أعمق أن زها حديد لم تكسر القواعد في البناء؛ بل أسّست لقواعد جديدة لها توازناتها وتناسقاتها المحسوبة وإن تجاوزت المألوف، وفي هذا ما يخالف تصنيفها بصفة مختزلة على أنها مجرد "معمارية ما بعد حداثية". ويسعنا أن نجازف بالقول إنّ زها حديد تستأهل أن تُنسَب إليها مدرسة بحالها أو نمط مخصوص في فن العمارة، تحت عناوين من قبيل الحركية والانسيابية مثلا، وألا تُحشر في عباءة من سبقها كما يجري عادة.

معمارية في عالم الرجال
تستوقفنا تجربة هذه المعمارية التي ظهرت على السطح بدءا من ثمانينيات القرن الماضي، واستغرقت عقدا أو عقدين حتى حازت الاعتراف العالمي بمكانتها المتفردة في رواق كبار المعماريين.

لم يكن الصعود يسيرا على امرأة في عالم المعماريين الرجال، فكيف إن التصقت بها فوق ذلك "وصمة الشرق الأوسط"!. لكنه المعمار الذي يتحدث بلغته البصرية الشاخصة للناظرين، وقد جاءت هذه اللغة من زها حديد بليغة ومذهلة مع باكورة أعمالها الكبرى، وهي دار الإطفاء في مدينة فايل الألمانية الراقدة على الراين عام 1993، ثم تلاحقت المآثر المعمارية وتكاثرت، فتقاسمتها مدائن أوروبا والعالم.

كان ظهور زها حديد أو غيرها من المبدعين في مشهد مسلمي أوروبا سيؤدي إلى خدش الرواية المفتعلة عنهم أو نقضها من أساسها، كيف لا وقد تركت للقارة تشكيلة واسعة من أروع صروحها التي أنعشت التمدّن وعبرت بها إلى المستقبل، بينما لم تبخل على العالم بمآثر عصيّة على الحصر تختطف الأنظار وتأسر الأفئدة؛ من طوكيو حتى الأميركيتين

أما وطنها العربي فاكتشف ابنته زها حديد، المولودة في بغداد لأسرة من الموصل، فقط بعد أن ذاع اسمها في أرجاء أوروبا والعالم، إنه إفصاح متجدد عن عقد ثقافية، تجعل السبيل الأقرب لتقدير مبدعي العرب والمسلمين والعالم الثالث في أممهم؛ أن يحوزوا تصفيقا غربيا فيغدو بطاقة عبورهم إلى بيئات المنشأ التي لم تكترث بهم.

وربما لأن زها حديد كانت أي شيء إلا دمية شقراء نمطية؛ فقد حازت اعترافا عربيا متأخرا ترتّب على أسبقية الاعتراف الأوروبي الواسع بها، كما تجلّى في سلسلة الجوائز المرموقة التي أُغدقت عليها، وعلى رأسها جائزة برتزكر عام 2004، وصولا إلى تقليدها الميدالية الذهبية للمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين قبل أسابيع من وفاتها؛ لتكون بذلك أول امرأة تحوز هذا التكريم، وهكذا رسّخت حديد منشآتها في أوروبا والعالم قبل أن يدعوها العرب إلى وضع تشكيلاتها الإبداعية في حواضرهم؛ عبر مشروعات كبرى مثل جسر الشيخ زايد في أبوظبي ومترو الرياض ودار الأوبرا في دبي وغيرها.

لكن أوروبا، حيث عاشت زها حديد حياتها المهنية ومنها انطلقت في فضاء العالمية؛ لم تبرأ هي الأخرى من عقدها وتحيّزاتها الضاربة بجذورها في عصور الظلام. رأت أوروبا فيها معمارية مبدعة فوق العادة، دون أن تضعها في نسق ثقافي مخصوص أو مستقل عن أوروبا ذاتها. ومع استثناءات محدودة؛ لم يتم فهمها غالبا ضمن خصوصية حضارية وبيئية، ولم يتم استدعاء وصف مسلمة أو عربية في هذا السياق إلا في ما ندر. لقد صفقوا لهذه "العالمية اللندنية" بعد أن انتزعت الاعتراف بإبداعها، ولم يروا فيها المعمارية "العربية المسلمة" إلا قليلا.

حان وقت السؤال المشاكس: ماذا لو جاءت زها حديد من الموصل بحزام ناسف؟ لا يتطلّب التخمين خيالات خصبة لنتوقع منحى الاتهامات والشكوك والمرافعات التي ستمتد إلى دينها وثقافتها وأمتها، سيجري حينها إخضاع زها حديد لتأويل ثقافي انتقائي نجا منه حتى عتاة الإرهاب والقتل الجماعي في أوروبا ذاتها؛ مثل النرويجي أندرس بريفيك الذي اقترف مذابح أوسلو سنة 2011 أو الطيار الألماني أندرياس لوبيتز الذي هوى بطائرته سنة 2015 فوق جبال فرنسا وفتك بالركاب جميعا.

هكذا يسري الانطباع السلبي على منتسبي الأقليات التي تحفها نظرة قلق أو ارتياب، بينما يبقى الانطباع الإيجابي محصورا في حالات مفردة غير متعدية إلى غيرها، ومن المألوف أن تمضي المعادلة بشكل معاكس في تصوّر مجتمع "الأغلبية" لذاته، إذ يتم قراءة الجرائم والفظائع ضمن تأويلات فردية لا تكاد تتعدى مقترفيها.

الحاجة إلى قراءة جديدة
لا غنى عن قراءات أفقية وعمودية وزمنية وترابطية في أعمال زها حديد، الممتدة من خطوطها التصميمية الأولى في المجلات المعمارية العالمية وصولا إلى صروحها الكبرى التي تفترش المعمورة.

على هذه القراءات أن تسبر الأغوار وتلحظ الأواصر بين البدايات والخواتيم التي تنوّعت بين التصاميم والمحاولات المخطوطة والمساهمات الدقيقة وتشييد الأبنية العملاقة وتصميم المراكب الفاخرة وإنجاز قطع أثاث تختزل الإبداع في ذاتها. صمّمت زها حديد أرائك ومقابض أبواب أيضا، كما يفعل مبدعو التصميم والعمارة، فمن ينجح في الإجابة على أسئلة الاستعمال المتجددة في غمرة التحولات الاجتماعية والثقافية ويقدم نموذجه المبتكر؛ لن يُعجزه الصعود بصرح يشغل الأبصار ويحرك الوجدان.

وفي أعمالها التصميمية، من قطع ومنشآت؛ جمعت زها حديد بين رسوخ البناء وحركة البصر، ولكنها حركة بدت حادة أو متطرفة أحيانا؛ قبل أن تنحو إلى الانسيابية والانبساط والتماهي مع البيئة أو استدعاء بيئة بحيالها مع البناء. فهل كانت زها حديد تعبِّر عن روح منافسة وانطلاق في مجتمع كبار المعماريين الذين كانوا ذكورا وقتها، قبل أن تعبِّر عن روحها الخاصة؛ روح الحرف العربي والكثبان الرملية ومحاكاة الشجرة والغابة مثلا؟ لن نستبعد إن قرأ بعضهم في ذلك انعطافة نسبية من ملمح "ذكوري" في بعض أعمالها، في زمن تأكيد الحضور وانتزاع الاعتراف، إلى نزعة الانسجام مع طابع "أنثوي" يتصالح مع البيئة ويتسع لأشواق الروح حتى عدها بعضهم ملكة الانحناءات والتموجات.

الواقع أن هذه العربية المسلمة أجابت ببراعة على السؤال الاتهامي: وماذا قدّمتم لأوروبا وأسديتم لثقافتها وفنونها؟ على أن الشق الآخر من الجواب، هو أنّ زها حديد شيّدت صروحا مرئية فوق الأرض، بينما كانت مساهمات مسلمي أوروبا متنوعة فوق الأرض وتحتها، بما في ذلك الأجيال التي استنفدت أعمارها في المناجم وشق الأنفاق وتشييد العمائر 

وهل راكمت زها حديد المراحل؛ من استغراب معماري خلال احتسابها على التفكيكية، إلى نمط ما من الاستشراق الكامن أو النزعة الروحية عبر التفاعلات الانسيابية اللاحقة؟ وهل اشتقّت هذه المعمارية معادلتها الخاصة التي تنجز التماهي الماثل للعيان بين شرق وغرب؛ بما يدحض زعم روديارد كبلنغ المشبّع بثقافته الاستعمارية؛ بأنّ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"؟ هي أسئلة لا تروق غالبا لكهنة صدام الحضارات الذين افتعلوا خطوط صدع بين الدوائر الثقافية في عالم واحد ومتداخل.

المسكوت عنه أوروبيا
لم يتطرق المصطفون في مسيرة وداعها، إلى أنّ أهل الموصل والعراق، ومعهم العرب ومسلمو أوروبا، قدّموا من خلال زها حديد وآخرين كثر، خدمات جليلة ومآثر كبرى ومفاخر باقية عبر أوروبا والعالم، وليس من الإنصاف اختزالهم بمشهد الأحزمة الناسفة وأفواج الباحثين عن الأمان والمستقر، لكن الحيلة الذهنية المتبعة عادة في المجتمعات لا تسعف في إدراك الواقع بإنصاف، إذ يتم عزل الخدمات الجليلة التي تسديها صفوة مختارة عن الصورة الإجمالية المخصصة لذلك "الآخر" الكريه أو الخصم.

وقد تم طوال ربع قرن من أعمال التشييد المعماري النشطة إخراج زها حديد من السياق الذهني المتخيل للمسلمين والعرب في القارة الأوروبية، أي من القالب المخصّص لأولئك المتهمين في بعض الروايات الإعلامية والثقافية والسياسية الشائعة بأنهم عوامل تقويض لأوروبا المُفترضة. 

كان ظهور زها حديد أو غيرها من المبدعين في مشهد مسلمي أوروبا سيؤدي إلى خدش الرواية المفتعلة عنهم أو نقضها من أساسها، كيف لا وقد تركت للقارة تشكيلة واسعة من أروع صروحها التي أنعشت التمدّن وعبرت بها إلى المستقبل، بينما لم تبخل على العالم بمآثر عصيّة على الحصر تختطف الأنظار وتأسر الأفئدة؛ من طوكيو حتى الأميركيتين.

وحتى في الإدراك الذاتي للوجود المسلم والعربي في أوروبا؛ لم يتم احتساب زها حديد ضمن رصيد المساهمات الحضارية المباشرة في الواقع، لأنّ النظرة إلى الذات تخضع هي الأخرى لقوالب نمطية وتوقعات مسبقة. والواقع أنّ هذه العربية المسلمة أجابت ببراعة على السؤال الاتهامي: وماذا قدّمتم لأوروبا وأسديتم لثقافتها وفنونها؟ على أنّ الشق الآخر من الجواب، هو أنّ زها حديد شيّدت صروحا مرئية فوق الأرض، بينما كانت مساهمات مسلمي أوروبا متنوعة فوق الأرض وتحتها، بما في ذلك الأجيال التي استنفدت أعمارها في المناجم وشق الأنفاق وتشييد العمائر وتشغيل الخدمات عبر ثلثي قرن.

من قال إنّ زها حديد قد رحلت؟ إنها باقية بأعمالها وبتفاعلات تجربتها الثرية وبما ترسمه من أسئلة وتثيره من تأويلات وتبعثه من قراءات، مضت وبقيت حاضرة، وها هي مآثرها اللاحقة برسم الاكتمال في الأمد المنظور بعد أن اختطتها كعادتها على الورق، قبل أن تنشغل بها فرق العمل الهندسية التي تعمل بلا كلل على الخروج بالمفاجأة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.