أميركا تبحث عن قطبية جديدة في عصرها

US President Barack Obama delivers his final State of the Union address in the US Capitol in Washington, DC, USA, 12 January 2016. The White House indicated that the President's seventh and final State of the Union address will not include the typical 'laundry list' of policy proposals, but rather be a more impassioned speech on the country's direction.


كانت تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما الأخيرة لمجلة أتلانتك بمثابة إعلان صريح عن نوايا أميركية قادمة قد لا تكون صادمة تجاه المشرق العربي أو ما يسمى بالشرق الأوسط.

ومع أن الشواهد كانت تشير إلى الطبيعة المعاكسة أو غير الودية لكثير من التوجهات الأخيرة في السياسة الخارجية الأميركية، فإن تاريخا طويلا من التحالف كان يميل بالعرب إلى ترجيح حسن الظن، حتى نطق الرئيس أوباما بما كنا نغرد به خارج السرب حين كنا نقول إنه يؤمن به، وإنه يمارس تقنية موازية للتقنية المتعارف عليها عند بعض الشيعة بمصطلح التقية.

وقد تصاعد حجم الاندهاش من خروج هذه التصريحات عن معظم علامات الحدود المرسومة في الخط المتصور لعلاقة أميركا بالسياسات العربية، بل واندفاعها أو ميلها إلى تبني وجهات نظر معاهد بحثية متأثرة و"متأطرة" بعلاقات محدودة وبنظرات أكثر محدودية مما يستحقه الأفق الأميركي المعروف باتساعه في مجال رؤيته للأحداث والتاريخ على حد سواء.

ليس من المتوقع أن يخلو أي لقاء قمة عربي أميركي مرتقب من إظهار القادة العرب لقدر من التبرم المبرر من هذا القدر المفاجئ من التنصل من علاقات خارجية تقليدية بدعوى الاختلاف مع إطار فكري ظل ثابتا ومحترما لنصوصه وأبجدياته وبما لا يسمح بتوجيه أي انتقاد لمضامينه الفكرية

وليس من المتوقع أن يخلو أي لقاء قمة عربي أميركي مرتقب من إظهار القادة العرب لقدر من التبرم المبرر من هذا القدر المفاجئ من التنصل من علاقات خارجية تقليدية بدعوى الاختلاف مع إطار فكري ظل ثابتا ومحترما لنصوصه وأبجدياته وبما لا يسمح بتوجيه أي انتقاد لمضامينه الفكرية. وربما تعدى الأمر درجات الخشونة الحوارية إلى مستويات أخطر من تغييب الحوار نفسه؛ أي الإعلان عن تأجيل موعد اللقاء، وربما كان الطرف العربي هو الأكثر ميلا إلى تغييب لقاءات الحوار أو تأجيلها.

ومن الطريف هنا أن نشير إلى أن معظم الباحثين الدوليين والمحليين في الشئون الأميركية كانوا قد تعودوا على احترام الفكرة القائلة بمحدودية دور الرئيس الأميركي فيما يعلنه ويتخذه ويتفاعل به من سياسات، وكان هؤلاء ولا يزالون يقفون بهذا الدور عند حدود المايسترو المقتدر الذي يجيد قيادة الفرقة الموسيقية في عزف سيمفونية معدة سلفا أو مؤلفة جيدا.

وظل هذا الاعتقاد -وربما لا يزال- يجد ما يدعمه من تصريحات وسياسات إلى أن جاء رئيس شاب كان -فيما بدا من أدائه بوضوح شديد- أضعف من كل أسلافه، وقد بدا التناقض في تصريحاته وتكرر التردد في قراراته، كما ظهر التأرجح في تقييماته، فإذا بالمفاهيم التقييمية تنتقل من تقييم القدرة على الأداء المحترف إلى محاولة البحث عما يبرر القبول بالأداء التلقائي على نحو لا ينتقص من هيبة الروح الإمبريالية للولايات المتحدة، ولا ينحو أيضا بالأداء الرئاسي إلى الوقوف تحت مظلة الذرائعية!

وقبل أن تحاول المفاهيم التقييمية أن تعدل أو تحور في جواهرها المستقرة كان الرئيس نفسه يواجه الحاجة الملحة إلى تقنين آلية التسويغ، وضبط دوافع التبرير في مضمون ردوده على الشباب وعلى رجال الصحافة ممن ينقلون أصداء احتجاجات الأجيال الشابة وسخرياتهم من تذبذب مواقف الرئيس ونكوص قراراته وتراجع مثالياته.

ولا جدال في أن الإحباط المعنوي من تراجع مستوى سياسات أوباما كان يرفع صوته عاليا حتى لا يبدو أن هناك فرصة لصوت آخر في الأجواء الأميركية، فإذا برنين الدولار ومشتقاته يعلن انتصارات متوالية لقيمة العملة الأميركية على كل عملات العالم بلا استثناء، فيعود إلى الأميركيين شعور ما بالزهو يجعل جيوبهم المنتفخة الأوداج تلطف من مشاعر الوجنات التي أخجلها الاحمرار من تراجع الضمير في سياسات رئيس كان واعدا حين عمده العالم مبكرا بجائزة نوبل للسلام قبل أن ينجز أي سلام وكأنه يقول له: يكفيك من السلام جائزته الكبرى فاعمل لغير السلام والعدل ما كان يفترض أن تنجزه للسلام والعدل.
ومع أن ساسة العالم وكتابه يعرفون حق المعرفة أن أميركا حرة في أن تنتهج ما تشاء من سياسات معادية للسلام أو متجاهلة له، فإنهم يعرفون أيضا أن هناك نوعا آخر من الالتزامات الحاكمة استأثرت بها أميركا لنفسها حين نادت متحمسة بما أسمته النظام العالمي الجديد، وكانت مناداتها الصريحة المتحمسة من الوضوح والجلاء بحيث لا يمكن لها أن تتراجع عما جاهدت في سبيل الحصول عليه إلا بأن تعود من سياسة القطب الواحد إلي سياسة القطبين.

ومع أن المنطق يرى في مثل هذا الارتجاع المريض -ولا نقول المرضي حتى لا يكون اللفظ ملتبسا ما بين المرض والرضا في مقام يتحرى فيه الوضوح- استحالتين (منطقية وعملية) فإن الرئيس الأميركي أوباما نفسه بدا مشوقا بشدة وشغف إلى أن يجرب هذه "الارتجاعة" حتى إنه شجع التدخل الروسي في سوريا، واستحث عملية تخليق استقطاب تركي روسي حاد، كما شجع في المقابل على تسريع وتفعيل حوار إيراني روسي، قابل أيضا للانفجار.

معظم الباحثين في الشئون الأميركية تعودوا على احترام الفكرة القائلة بمحدودية دور الرئيس الأميركي فيما يعلنه ويتخذه ويتفاعل به من سياسات، وكان هؤلاء ولا يزالون يقفون بهذا الدور عند حدود المايسترو المقتدر الذي يجيد قيادة الفرقة الموسيقية في عزف سيمفونية معدة سلفا أو مؤلفة جيدا

وبدا في مقام رابع متهاونا تماما في مواجهة النشاط الروسي الإستراتيجي المحموم في الجمهوريات الإسلامية التي كانت محتلة في جنوب الاتحاد السوفييتي، وبدا أيضا محافظا على درجات من الحدة والاشتعال في الخلاف الأميركي الروسي في الملف الأوكراني، وبدا سادسا مرحبا -مع قدر من السخرية- بأن ينتمي الانقلاب العسكري المصري للأيديولوجيا الروسية القديمة؛ أي الأيدولوجية الإدارية السوفيتية التي التحقت فكريا وعلميا وفلسفيا بعلوم الآثار والحفريات إلا عند عدد من موظفيها المصريين المتقاعدين.

ولم تكن صدفة فيما بعد تعدد وتكثف الجهود الأميركية الزاعقة الفشل في هذه "الرحلات السياسية المستنقعية "عبر الكرة الأرضية أن تلجأ الولايات المتحدة الأميركية وبسرعة إلى ميدان تثبت فيه أنها لا تزال حريصة على ما وصلت إليه من نجاح في إحراز سياسة الاستحواذ لنفسها وشعبها المختار على مكانة ووضعية ومهابة القطب الواحد في نظام عالمي جديد لا يعترف لروسيا إلا بدور تمثيلي، ولا للصين إلا بدور تصنيعي، ولا لأوروبا إلا بدور تاريخي، ولا للإسلام إلا بدور عدائي.

ومن الإنصاف أن نعترف للمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة بالذكاء الصناعي المتقدم حين اختارت المسرح الكوبي في هافانا لتعزف عليه عدة سيمفونيات متوالية تؤكد بها على أنها لن تتنازل عما وصلت إليه من أحادية القطب على الرغم من هذه الاندفاعات الفاشلة والسكتات المفاجئة التي انتابت قيادة "مايستروها" الأخير للفرقة الموسيقية.

وهكذا استعادت أميركا من خلال سلاح الإعلام والصورة زخم قوتها المعنوية في شهور قليلة؛ فها هي -وهي الدولة البروتسانتية بالأغلبية والسلوكية- تأتي ببابا الفاتيكان لزيارتها وزيارة كوبا؛ وفي زيارتها يقبل البابا منحنيا يد ملياردير أميركي داعم للأنشطة الكنسية؛ ولأن النجاح يغري بالنجاح فإن أميركا من تحت الشاشات والمناضد -أو من خلف الكاميرات والمقاعد- تنظم زيارة أخرى لبابا الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا ليلتقي في كوبا مع بابا الكاثوليك الذي يعود لزيارة كوبا خلال شهور من زيارته الأولى، مع أن هافانا لم تكن أبدا من محطات زيارات الباباوات الكثالكة، ولا تملك لاهوتيا ولا كنسيا ما يؤهلها لذلك.

وهكذا تنعقد في خاصرة الولايات المتحدة الأميركية "البروتستانتية" أواصر المحبة المسيحية المسيحية الغائبة والمغيبة منذ ألف عام؛ لكنها لا تعود إلا تحت أضواء المسرح لساعات تنتهي بالتوقيع المشترك على مانفيستو فلسفي لاهوتي طويل لا يذكر منه بابا الكاثوليك ولا بابا الأرثوذكس اللذان وقعاه كلمة واحدة.

ثم تتوج الولايات المتحدة هذا الأداء المسرحي الاستعراضي الممتع بزيارة تاريخية وعائلية وسياحية يقوم بها أوباما وعائلته لكوبا بعد ٨٨ عاما من آخر زيارة لرئيس أميركي لكوبا، وبعد أكثر من نصف قرن من أزمة خليج الخنازير، وكأن أوباما قد وحد العالم المسيحي أخيرا على نفس المسرح الذي شهد الذروة في الحرب الباردة بين مسيحيين تركوا الإيمان ومسيحيين آخرين حافظوا عليه كما يحلو لرجال الكنيسة أن يؤرخوا للحرب الباردة.

وبعد أن يقود أوباما عزف هذه السيمفونية بنجاح واقتدار أو في ذات وقت العزف فإنه يبدأ في عقد المقارنات "الخفية" أو "غير المصرح بها" بين عالم مسيحي توحد أخيرا بفضل إدارته حتى وإن كان التوحد مسرحيا فحسب؛ وبين عالم إسلامي يعاني من الافتراق بين السنة والشيعة رغم أنه (وأنه هو نفسه على حد قوله المفاجئ) نصح السعودية وإيران!! بينما العالم كله يعرف أنه لم يفلح في أي أداء سياسي مارسه بقدر ما نجح في تأجيج الصراع بين السعودية وإيران بكل ما هو ممكن من تنظير للخلاف أو تأطير للأحداث في صورة الخلاف المستحكم، وذلك على الرغم من أنف الأحداث وعلى الرغم من أنف الحقيقة.

لكن تزاحم التقارير والتفصيلات كفيل بأن يستر التناقضات ولو إلى حين، وهي خاصية باتت سياسات الولايات المتحدة ومذكراتها الدبلوماسية تفيد منها على نطاق واسع.

لم تكن صدفة أن تلجأ أميركا وبسرعة إلى ميدان تثبت فيه أنها لا تزال حريصة على ما وصلت إليه من نجاح في إحراز سياسة الاستحواذ لنفسها على مكانة ووضعية ومهابة القطب الواحد في نظام عالمي جديد لا يعترف لروسيا إلا بدور تمثيلي، ولا للصين إلا بدور تصنيعي، ولا لأوروبا إلا بدور تاريخي، ولا للإسلام إلا بدور عدائي

وفي هذا الصدد أذكر على سبيل المثال طرفا من حوار طويل مع صحفي أميركي من العازفين للألحان التي يقودها أوباما حين ذكر لي بكل ثقة -وهو لا يدري مدى التناقض في كلامه- أن مما أخذته الإدارة الأميركية على الرئيس محمد مرسي أنه أسهم بصورة بالغة في إساءة معاملة الشيعة في مصر؛ فساعد أولا على اضطهادهم بل وقتلهم، ثم مضى ثانيا بخطوات واسعة في خلق نفوذ إيراني في مصر بدءا من تعاون سياحي وخط طيران وزيارة رسمية.. الخ!.

وحين أوضحت للصحفي الأميركي المرموق العلاقة بين إيران والشيعة وراجع ما ذكرته من أوليات ووجده صائبا؛ فإنه أخذ يسخر من نفسه ومن "تكويم" الإدارة الأميركية للمتناقضات في تقرير واحد يستخدم المتناقضات كمبررات متآزرة، وقد أعجب الصحفي الأميركي بوصفي للتقرير بأنه "أملاه الهوى الصهيوني مع تعاون انقلابي غير ناضج بالطبع".

واليوم.. تقف الولايات المتحدة على شفا انتخابات رئاسية جديدة ستنتهي بالطبع في موعدها المحدد بفوز مرشح واحد وحزب واحد وسياسة واحدة لكنها -أي الولايات المتحدة الأميركية- في الوقت ذاته أي وقت نهاية الانتخابات الرئاسية ستنتهي من مناظرات ومعارك تلك الانتخابات بوجدان متمزق فيما يخص علاقتها بالإسلام: هل تتمادى في إعلان الحرب عليه؟ هل تنقلها من حرب مستترة على الإرهاب كما تقول أدبياتها الملبسة إلى حرب صريحة على الإسلام كما تقول سياساتها الصريحة العداء لأرواح المسلمين؟ وهذا هو السؤال الذي ستتهرب الولايات المتحدة بكل مؤسساتها في الأغلب من إجابته.

ثم نأتي إلى أسئلة أعمق، هل تميل الولايات المتحدة إلى الملل من التعقيدات التي تراها في علاقات العالم القديم فتتمنى الخلاص من ملف العالم الشرق أوسطي خلاصا من دوافع الاكتئاب ومن ظلال فلسفة "إيمانويل كانت"؟ وهل تعيد أميركا التفكير من منطلق إنساني فتتجنب السقوط بمنطق "شوبنهاور"؟ وهل تعيد التفكير من منطلق تاريخي فتتجنب مضاعفات الصراع المسوق المستلهم من "فاوست"؟ وهل تمارس الذاتية بشغف فتسرع من مسار تاريخها الدامي والدموي بمنطق "نيتشة"؟ أم أن الولايات المتحدة يمكن لها أن ترقى إلى منطق "غوتة " فتقول عن حب وعقل واتزان: إن كان الأمر كذلك فإننا كلنا مسلمون؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.