لكي لا يقع خليجنا العربي في فخاخ "النمو المفقر"
تأثيرات الليبرالية الجديدة
النموذج الألماني
لا تصلح للخليجيين
في الاقتصاد، تتبنى الليبرالية الجديدة بعض الأفكار التي تزعم بأنها ضرورية لبناء اقتصاديات قادرة على تحقيق نمو مستمر، ومن ذلك نأي الحكومة عن التدخل في الشأن الاقتصادي، وضمان هوامش حرية للنشاط الاقتصادي لكي ينمو في كل اتجاه.
وهو ما يتطلب توسعا كبيرا في الخصخصة للمشروعات والقطاعات والأعمال التي كانت الحكومات تقوم بها والعمل على تقليص القطاع العام بقدر المستطاع، بحجة توفير مقومات أفضل للنمو الاقتصادي وتحسين الكفاءة الحكومية.
تأثيرات الليبرالية الجديدة
ويترتب على تطبيق هذه الليبرالية الاقتصادية العديد من الآثار الاقتصادية، ومنها التوجه نحو تخفيض معدل الضرائب على رأس المال (المشاريع) حتى لو كان ذلك على حساب رفع معدلاتها على العمل (العاملين)، ويعني هذا أن العمل هو الذي يتحمل الأعباء لا رأس المال في كثير من الحالات، مع ارتفاع مطرد في الأسعار وتكاليف الحياة.
النموذج الألماني واضح في أن الليبرالية الجديدة هي ضرب من "النمو المفقر"، فقد دفعت الليبرالية الجديدة التروس الاقتصادية في الربع الأخير من القرن الماضي بطريقة معينة، ومنها أنها خفضت الضرائب المفروضة على المشاريع بنحو 50%في حين ارتفعت الضرائب على العاملين بنحو أربعة أضعاف |
ولا تقتصر الآثار على الأبعاد الاقتصادية، بل تشمل أبعادا مجتمعية عديدة، فمثلا، تكرس الليبرالية الجديدة فلسفة "المسؤولية الفردية" بنزعة متطرفة، بحيث تكون على حساب "الحقوق" و"الرعاية الاجتماعية" و"الصالح العام" ونحو ذلك، مع توجه متنام إلى دفع الأفراد لإيجاد الحلول لمشاكلهم وتلبية احتياجاتهم بأنفسهم، وفي حالة عدم تمكنهم أو فشلهم، فإن الليبرالية الجديدة تدمغهم بتهم "الكسل" و"التبطل" و"اللامبالاة".
النموذج الألماني
الشواهد الدالة على أن الليبرالية الجديدة هي ضرب من "النمو المفقر" كثيرة ومتنوعة. لنأخذ النموذج الألماني مثالا على ذلك، فقد دفعت الليبرالية الجديدة التروس الاقتصادية في الربع الأخير من القرن الماضي بطريقة معينة، ومنها أنها خفضت الضرائب المفروضة على المشاريع بنسبة تقترب من 50% ، في حين ارتفعت الضرائب على العاملين بنحو أربعة أضعاف بدءا من 1975.
والسجل الاقتصادي لا يعكس نموا بالطريقة التي بشرت بها الليبرالية الجديدة، بل العكس حيث شهد الاقتصاد الألماني قدرا من التباطؤ في النمو بسبب عوامل عديدة، ومنها تراجع المواطنين عن الاستهلاك، لا لتغير في أنماط حياتهم بل لتراجع في دخولهم، مما يوجب رفع هذه الدخول لا لتحقيق العدالة الاجتماعية فحسب، بل لتعضيد النمو الاقتصادي، ولتمكين المشاريع المتوسطة والصغيرة من تجاوز مسارات التعثر والإفلاس، وفي كل هذا تهديد خطير يؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى (أفهيلد، اقتصاد يغدق فقرا، 2007).
وبجانب التباطؤ في الاقتصاد الألماني، خسرت الخزانة الألمانية مبالغ كبيرة نتيجة تخفيض الضرائب على الشركات، تقدر بنحو 80 مليار مارك في عام 2000، ولهذا كله يقرر الباحث ماينهارد ميغيل أن المجتمع الذي يبالغ في تحميل سفينة العمل أعباء لا قدرة لها على تحملها، يجب أن يأخذ في الحسبان أنها ستغرق.
هذا، بجانب ترسخ حقيقة أن الاقتصاد وإن حقق نموا في الإطار العام في بعض السنوات، إلا أن نسب الفقر تزداد، مع ارتفاع مستمر في الأسعار والتكاليف (مثلا يدفع الألمان للحلاق 10 أضعاف ما يدفعه البولنديون)، الأمر الذي جعل العديد من المفكرين الألمان يحذرون من مغبة إعطاء الاقتصاد الألماني جرعات خاطئة من دواء غير مناسب (المرجع السابق).
والنموذج الألماني مجرد مثال، إذ أن الصورة متكررة في كثير من الدول في أوربا الغربية وفي أماكن متفرقة من العالم، فالليبرالية الجديدة تمنحك حرية متوهمة وتكسبك فاقة أكيدة.
لا تصلح للخليجيين
تشهد منطقة الخليج العربي حراكا كبيرا لتحديث البنى الحكومية والاقتصاد وتنويع مصادره، وهذا أمر محمود، بل هو واجب، إذ يتعين على الحكومات الخليجية ضمان زيادة فعاليتها وتنويع اقتصادياتها، والانفلات من قبضة "الاقتصاد الريعي"، بكل ما يولده هذا الاقتصاد من مخاطر على المستويات المتوسطة والبعيدة، فهو أشبه بالكلأ الذي يعتمد في وجوده ونموه على غيث سماء لا تملك التحكم بسحبها المطيرة. ومع تقريرنا لما سبق كله، أؤكد على وجوب توخي الحذر من التوجه نحو تبني سياسات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد الخليجي وبرامج تحديثه وتطويره، فهي خطيرة جدا ونتائجها سيئة في المجالين الاقتصادي والمجتمعي.
يتعين على الحكومات الخليجية ضمان زيادة فعاليتها وتنويع اقتصادياتها، والانفلات من قبضة "الاقتصاد الريعي"، ولكن عليها مع ذلك توخي الحذر من التوجه نحو تبني سياسات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد الخليجي، فهي خطيرة جدا ونتائجها سيئة في المجالين الاقتصادي والمجتمعي |
وفي سياق التحديث والتطوير الحالي للاقتصاديات الخليجية، أشير إلى جملة من الأمور الأساسية، التي أحسب أنه يتعين التفطن لها جيدا:
أولا: اتسام الاقتصاد الخليجي بالنزعة الريعية ليس جديدا، بل هو نتيجة متراكمة جراء تطبيق سياسات اقتصادية امتدت لعقود، مع غياب للرؤى التنموية والخطط التطويرية في تلك العقود، وغلبة أنماط "الاقتصاد السياسي"، الذي غيّب البعد الاحترافي في تحريك التروس الاقتصادية فترات طويلة.
الرغبة الصادقة في الخروج من الوضع الريعي -كما أسلفت- أمر إيجابي ومقدر، بيد أنه يجب أن يطبخ الأمر على "نار هادئة" وبـ "القدر العادي" لا "القدر الضاغط"، أي دون اللجوء إلى تبني ليبرالية جديدة، تعد بالكثير من النتائج في إطار زمني قصير نسبيا. وتتأكد خطورة ذلك في الوضع الخليجي نظرا لعوامل عديدة، ومنها: شيوع مفاهيم الدولة الراعية والرفاهية الاجتماعية طيلة العقود السابقة. وهذه العوامل، منها المبرر تماما، ومنها ما فيه شيء من التبرير، ومنها ما هو غير مبرر إطلاقا، إلا أنها عوامل ضاغطة في السياق المجتمعي، والتعامل معها يجب أن يتم بتؤدة وحكمة وتدرج ذكي.
ثانيا:إن أي إصلاح اقتصادي لكي يثمر ويؤتي أكله، يحتاج إلى الاتكاء على قاعدة صلبة من إصلاح أشمل، يلامس الجوانب التشريعية والسياسية والمجتمعية، ليؤلف "مشروعا حضاريا" على المستوى الوطني والخليجي، وخاصة أن الإصلاح الاقتصادي الخليجي الحالي يتضمن جوانب تطبيقية ذات نزعة نحو الخصخصة وتبني فرض الضرائب بوتائر يبدو أنها ستكون متزايدة.
مثل هذا الإصلاح المنشود يمكن أن يبدأ بتطوير التشريعات وتحديثها وتبني ما أسميه بـ "ديمقراطية القيمة المضافة" (على منوال "ضريبة القيمة المضافة")، بحيث يتم ضخ جرعات تدريجية من النهج الديمقراطي "الملائم" في السياقات المجتمعية، وبالذات في نطاق الإدارة المحلية، ليؤمن الناس بأنهم صناع للقرارات التي تؤثر على حياتهم الخاصة وتحسّن مقومات المستقبل لهم ولأجيالهم القادمة.
ثالثا: ضرورة بلورة البرامج التنموية وفق فلسفة "التنمية المستدامة"؛ بمكوناتها البيئية والاجتماعية والاقتصادية. آمل، أن نتفهم بشكل معمق ماذا تعني التنمية المستدامة؟، وما استحقاقاتها وكيف نضمن تحققها وفق منظور مؤسسي إستراتيجي؟، فنحن أحيانا نردد المصطلحات دون وعي دقيق بها، حتى في الجامعات والمؤسسات البحثية، للأسف الشديد، فالمصطلح يفرغ من مضمونه ويسطح على نحو يجعله عديم الفائدة. مع تأكيد العناية الفائقة بالمكون البيئي، لا سيما أن مؤشرات عديدة تشير إلى أن ثمة تدهورا متناميا في الوضع البيئي في العالم العربي ومنه الخليج العربي.
ضمان عدم المساس بالطبقات الوسطى والتأثير على فعاليتها المجتمعية وإسهاماتها التنموية في مختلف المجالات، ومثل هذا الأمر يتطلب انتباها من صناع الخطط والبرامج التنموية عبر تبني سياسات ممكّنة لهذه الطبقات ومعززة لدورها |
رابعا: ضمان عدم المساس بالطبقات الوسطى والتأثير على فعاليتها المجتمعية وإسهاماتها التنموية في مختلف المجالات، ومثل هذا الأمر يتطلب انتباها من صناع الخطط والبرامج التنموية عبر تبني سياسات ممكّنة لهذه الطبقات ومعززة لدورها، ووجوب إخضاع هذه السياسات لنقد مستمر وتطوير مستديم.
خامسا: تحقيق تطوير ملموس في ملفات محاربة الفساد، لا الفساد الصغير فحسب، بل المجابهة الحاسمة والموجعة لـ "الفساد الكبير"، ومن ضمنه تطويق سياسات وممارسات ما يسمى بـ "اقتناص الدولة"، والمؤدي لإصابة المستويات والأجهزة العليا بالفساد، مع تسخير "النخب" لخدمة أهداف تلك الأجهزة والشخصيات النافذة.
إن عدم أو ضعف تلك المجابهة يعني تورطنا بأعتى أنواع الفساد، وهو ما أسميه بـ"الفساد المقنّن"، الذي يولّد ذاته تلقائيا ويحمي نفسه بنفسه. وهذه المعركة ليست يسيرة، ولا تُنجَز دفعة واحدة، بل هي عملية نضالية إصلاحية تراكمية، يشارك فيها السياسي والديني والثقافي والاقتصادي على مختلف المستويات. والنهايات الجيدة تولد من بدايات جيدة، ونوايا مخلصة.
وفي كلمة أخيرة، أؤكد على حاجة دول الخليج العربي للطروحات البنائية المنهجية والتقويمية النقدية من قبل مفكريها وباحثيها وشبابها، وضمان مشاركتهم المباشرة في البلورة والتنفيذ والتقييم للخطط والبرامج التنموية، فالمشاركات البنائية والطروحات النقدية هي منطلق أساس لتحقيق أي نجاحات صلبة في المستقبل.
وليحذر المسؤولون من الطروحات الإعلامية التي تمجد كل خطوة تنفذ، ففيها السم الزعاف الذي يخدر ويفتر، ويحجب النظر عن جوانب مهمة وأبعاد قد تكون حرجة في سياق البرامج التنموية التحديثية التطويرية التي يجب أن تستهدف نموا مثريا، لا مفقرا، لكل الفئات والفعاليات والديناميات المجتمعية بنفس تنموي مستدام. ثمة تفاؤل كبير بنجاحنا، فنحن لا نملك أصلا إلا أن ننجح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.