أصول الاستدلال الإسلامي للفكر المدني

epa01788723 Ethnic Uygur Muslims walk outside a mosque in Urumqi, Xinjiang province, China, 09 July 2009. Several mosques around the city remain closed following the unrest that started on 05 July which has so far left over 140 people dead according to official estimates. Questions remain as to whether mosques will be open for Friday noon prayers, regarded by Islam as an obligatory prayer for every adult male Muslim. EPA/DIEGO AZUBEL


هناك مدخل مهم لابد من شرحه قبل المضي في بحث مصادر وآفاق الفكر المدني في فقه الشريعة الإسلامية، هذا المدخل متعلق بمعركة المصطلحات، ومع أن القاعدة الأصولية المعروفة تقول "لا مشاحة في الاصطلاح"، إلا أن الواقع الثقافي والفكري لحاضر العالم الإسلامي، شهد جدلا واسعا حول المصطلحات.

وأدى ذلك إلى إشعال صراع فكري شرس داخل الساحة الإسلامية، أو بينها وبين الحراك الثقافي العربي ببعده العلماني المتعدد أو المستقل، ومع ما يمكن وصفه بالمثقفين التكنوقراط، أي المهتمين بقيمة المفهوم والمصطلح في حياة المجتمع المدني دون الخلفية الأيديولوجية.

ولذلك فإن اختيار المصطلح هنا قضية مهمة، وهو ما دفعنا إلى استخدام هذا المصطلح (الفكر المدني في فقه الشريعة) لتحديد معالم ما نقصده من احتياجات الفكر الإسلامي المعاصر، دون اللجوء إلى مصطلحات قد استهلكت أو حرّف معناها، أو كان نقص الوعي الثقافي في الحالة الإسلامية عن إدراكها محفزا لرفضها، رغم إيجابياتها المهمة للوعي الإسلامي المعاصر ومشتركات الحياة المدنية مع كل الاتجاهات.

نقصد هنا بالفكر المدني كل ما يُصلح شأن المسلم وشريكه الوطني أو الإنساني في فضاء صناعة الحياة، ومشتركات التنمية، وفضاء التعبير والتمتّع بمُتع الحياة التي لم يقطع الشرع بحرمتها، في الحالة الاجتماعية للفرد، وعلاقة ذلك بداخله الإنساني وبيئته المحلية

ونقصد هنا بالفكر المدني كل ما يُصلح شأن المسلم وشريكه الوطني أو الإنساني في فضاء صناعة الحياة، ومشتركات التنمية، وفضاء التعبير والتمتّع بمُتع الحياة التي لم يقطع الشرع بحرمتها، في الحالة الاجتماعية للفرد، وعلاقة ذلك بداخله الإنساني وبيئته المحلية، والمؤسسات القانونية التي قد تتقاطع مع هذا المفهوم.

أما الباب الثاني، فهو الفقه الدستوري والنظم والقوانين، وتشريعات الأفراد والجماعات، والأعراف القانونية، التي تتداخل مع أي بنية مرتجاة لتنظيم الدولة المعاصرة، وتشريعاتها العدلية، سواء كانت دولة تؤسس في طور حديث، بعد مرحلة حرجة أو حرب أهلية أو صدام سياسي عسكري، أو كانت دولة تسعى لتجديد بنيتها القانونية، ويَسألُ مجتمعها عن موقف الشريعة من ذلك.

ولا بد هنا من توضيح قضية مهمة للغاية، وهي أن الفكر المدني في فقه الشريعة لا يعني تحييد الفقه والفتوى وصناعة الرأي العارض للنوازل، وفق قاعدة أخف الضررين ودرء المفاسد، وتغليب المصالح الكبرى، حتى وصول الدولة أو المجتمع إلى خلاصات دستورية كاملة لحياة جديدة بأفق إسلامي.

وبالتالي يُجمّد الرأي والفقه، حتى يحسم الصراع العسكري أو السياسي، ويبرر ذلك بالتمسك بمفهوم أن المخرج هو دولة تطبق الشريعة بأفق محافظ أو أفق معاصر للفكر المدني الإسلامي، فهذا خطأٌ بالغ، وقد تترتب عليه كارثة تذهب بالضرورات الخمس لشريحة واسعة من أي شعب داهمه محتل أو مستبد.

والذي نعنيه تحديدا، أن مفاصل الفتوى لإخراج المجتمعات من كوراثها -وهذا من أصول الفقه في الشريعة- لا تقتضي على سبيل المثال، أن يكون الهدف هو تطبيق الشريعة وإعلانها على الفور، وخاصة أنّ هذا المفهوم أصلا لم تنضج كيفيته في حاضر العالم الإسلامي اليوم، والخلاف في تقنياته واسع للغاية، بين الفقهاء وأدواتهم والتقنين الدستوري المصاحب لهم.

لكن من الطبيعي أن يكون الميثاق الانتقالي المتفق عليه للخروج من الأزمة لا يتضمن مواد مخالفة للشريعة وقطعياتها في بلاد المسلمين، أما تجارب الحياة السياسية للمسلمين في غير بلادهم، فهي تقاس بمعطيات المصالح والمفاسد ومساحة ما يتحقق لهم في هذا المهجر وقد باتوا جزءا من مكونه في هذا اليوم.

وبناء على ما تقدم فإن كثيرا من الدماء والضحايا، والصراعات قد يكون أُنفق في غير موضع تحقيقه، فإذا كان المخرج مطلوب ومتفق عليه عقلا من مفسدة القتل والفوضى وصراع المجتمعات الدامي، فإن المدار على دفع المستبد الصائل، وليس على وثيقة تطبيق الشريعة المرتجاة، لعدم وجود أرضية معاصرة لها أصلا، فحجم الفراغ الذي عاشته مجتمعات حاضر العالم الإسلامي ضخم جدا، وبعيد عن روح القيم الإسلامية التي ارتُضيت للجيل الأول، وبناها النبي صلى الله عليه وسلم.

هنا سنصل إلى تحديد معالم أساسية في صناعة قاعدة الوعي لأصول الاستدلال، ثم تقنين الأحكام في الفكر المدني، كمقدمة لمرحلة الدسترة، أو العرف الثقافي الإسلامي في وعي الحياة المدنية، والمقصود هنا وضع خطوط عامة، وليس تفصيلات تشريعية لهذا المنهج.

وتنقسم هذه المعالم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن سكوت المشرّع عن مساحة واسعة من أمور الدنيا في المدنية الاجتماعية وفي الفقه الدستوري -حتى مع عدم ورود هذه المصطلحات قديما- كان أصلا تشريعيا معتمدا.

هذه الخلاصات قد تساعد حركات البعث الإسلامي الجديدة في تجاوز عثرات الماضي، وجراحاته الصعبة وتنظيم ثقافة الوعي الإسلامي المعاصر الذي يخنق نقصه الشباب، أو قد يدفع غيابه إلى معارك وصراعات تذهب بقوة المجتمع وممانعته لمصالح المحتلين والمستبدين، فيحترق ربيع المسلمين

فمن خالفه وأصر على تلبيس التفصيل الذي ورد في العهد الأول على الزمن المعاصر، وهو لا ينطبق عليه في مقاصد الشرع فقد أخطأ خطأ بالغا وأوجب مالم يوجبه الشرع المطهر.

ثانيا: إن إعطاء أحكام وعقوبات محددة للممارسات الشخصية بما فيها ما استكرهه الشارع، ولم يرتب عليه عقوبة محددة، بل جعله محمولا على الورع الشخصي الذي يتفاوت فيه الناس، وندبهم إلى الاستغفار عنه، هو تشريع لم يرد، وإلزام بما لم يُلزم به من فقه الشريعة.

وهنا تتفاوت طباع الناس وأعرافهم وشعوبهم، وهو ما استقر في العالم القديم عند بلوغ دعوات الأنبياء، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة لها، فكان تقدير ضبط المجتمع وأخلاقياته مختلف لكل بيئة، ومساحة الناس في ذلك مرنة، لكن دون إخلال بمبدأ الفضيلة العامة في المجتمع، وتحاشي نشر ما يقدح فيها علنا بين الناس.

ولم تُعرف منهجية متابعة عورات الناس ومطاردتهم، والتحريض عليهم وكشف خفاياهم لدى سلف الأمة الأول، بل ذمها النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر على ذلك ثلة من الصحب والتابعين، وإن بقيت مدرسة محافظة في الأمة تنزع إلى التضييق، لكن ليس لها حجة الإجماع على رقاب الناس.

ثالثا: إن أصول الفكر المدني في فقه الشريعة عبر الوقوف على المقاصد واستعراض سير الصالحين من الحكام والعلماء المستقلين، لا تتجاوز أصول الحياة الإنسانية الرشيدة وهي:

1- العدالة الاجتماعية.
2- الحريات السياسية.
3- الرفاه والمساواة الاقتصادية.
4- الحقوق الشخصية الرشيدة.
5- البلاغ الرسالي.

واختلاف الفكر المدني في فقه الشريعة مع بعض منظومة المجتمع المدني الحديث المتعدد، موجود في الأساسيات الأربع، ولكن في مساحة تفصيل محدودة، أما الخامس فهو خاص بفقه الشريعة، وهو من لوازم الرسالة الإسلامية ولا مجال لتجاوزه كمفهوم، أما التطبيق والدسترة فلها مساحة من الصعب تحديد تقنينها فيه.

إن هذه الخلاصات في الفكر المدني لفقه الشريعة، حين تناقش ويستقر الأمر عليها وعلى مفاهيمها، قد تساعد حركات البعث الإسلامي الجديدة في تجاوز عثرات الماضي، وجراحاته الصعبة وتنظيم ثقافة الوعي الإسلامي المعاصر الذي يخنق نقصه الشباب، وقد يدفعهم لفكر التوحش والغلو الديني المسلح أو غير المسلح، أو قد يدفع غياب هذا الوعي إلى معارك وصراعات تذهب بقوة المجتمع وممانعته لمصالح المحتلين والمستبدين، فيحترق ربيع المسلمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.