ما الجديد في العلاقات الإيرانية الأميركية؟
بعد اعتقال البحارة الأميركيين في المياه الإقليمية الإيرانية، ثارت التكهنات عن فحوى ودلالات هذا التطور. أطلق سراح البحارة بعد أقل من 12 ساعة. وبعد ذلك ببضعة أيام، جرى رفع العقوبات الدولية بموجب الاتفاق النووي المعقود بين إيران والمجموعة السداسية بعد تأييد الوكالة الدولية للطاقة الذرية عمل إيران بالتزاماتها وفق الاتفاق.
كما أعلن عن صفقة لتبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة، أطلق بموجبها سراح خمسة أميركيين في إيران مقابل إطلاق واشنطن سبعة إيرانيين اعتقلوا بتهم تتعلق بمساعدتهم طهران في الالتفاف على العقوبات الدولية والأحادية.
وبعد تطبيق الاتفاق النووي بأسبوع، حلقت طائرة استطلاع إيرانية فوق حاملة الطائرات الأميركية "هاري ترومن". الواضح أن المياه الراكدة للعلاقات الإيرانية الأميركية لم تتحرك بهذه السرعة منذ عقود، ولذلك بات السؤال حول إمكانية التغيير في العلاقات الثنائية وآثاره ملحا أمام الباحث المتتبع للتطورات الإقليمية.
إلى جانب الاتفاق النووي وصفقة تبادل السجناء كإنجازين وسابقتين هامتين، أطلقت إيران صواريخها التجريبية كالماضي وأوقفت البحارة الأميركيين وتعاملت بقوة مع أي تطور قد يضع سابقة جديدة في مدى استقلال خياراتها الإستراتيجية |
يأتي السؤال حول إمكانية تحسن العلاقات الثنائية بعد بدء تطبيق الاتفاق النووي في المقدمة. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن التاريخ ما زال يُثقل هذه العلاقة، فإسقاط مصدق المنتخب ومساندة الشاه أمام معارضيه مرورا بدعم العراق في حربه ضد إيران وفرض عقوبات اقتصادية خانقة وغيرها، ما زالت حية في الذاكرة الإيرانية.
في المقابل، يتكلم الأميركي بامتعاض حول أزمة احتجاز الرهائن وتهديد إيران لأمن إسرائيل ووقوفها أمام سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كأجزاء لا يمكن إغفالها عند أي تطور في العلاقة بطهران. والتاريخ كراسم للصورة له تأثير يسابق الواقع بعض الأحيان، لذلك ورغم أن المفاوضات المجدية التي انتهت بتوقيع الاتفاق النووي أثرت كثيرا على الصورة التاريخية للجانبين، فإن مفعول التاريخ ما زال يحدد الكثير من التطورات.
وقد تكهن الكثير من الباحثين الإيرانيين والأميركيين والعرب بنتائج مختلفة للاتفاق النووي على علاقة إيران بالمجتمع الدولي، اشتركت كلها في أمر واحد: حتمية حدوث تغيير قياسا بالماضي. لكن مستوى ووجهة التغيير هما موطئ الخلاف.
ولفهم التغيير هذا يمكننا تتبع السياسة الأميركية والإيرانية من خلال التطورات المذكورة أعلاه، فالحكومة الأميركية وجدت في مفاوضات الملف النووي طرفا يمكن العمل معه. هكذا بدت الصورة في أحاديث كل من الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري غير مرة. ولذلك بعث الرئيس أوباما رسائله المعروفة إلى القيادة الإيرانية. إلا أن الإدارة الأميركية ما زالت تتكلم عن إيران من منظوريْ الاحتواء من جهة والتعامل من جهة أخرى.
فإلى جانب توقيعها الاتفاق، بررت الإدارة الأميركية الأمر لمنتقديها في الداخل والخارج على أنه يأتي في سياق احتواء الخطر النووي الإيراني. أما إيران المتأنية كثيرا في تعاطيها مع الولايات المتحدة، فرأت في إدارة أوباما واقعا أميركيا جديدا يبحث عن تغيير جدي خارج سياسة "تغيير النظام" المعهودة. لذلك تعاملت طهران مع واشنطن -في إطار التعامل مع المجتمع الدولي- بطرق مختلفة تماما عن المعهودة في العقود الماضية. إلا أن المطلوب إيرانيا يختلف جذريا عن المطلوب أميركيا في العديد من الملفات.
وبعيدا عن أسباب دخول إيران مفاوضات الملف النووي التي اختلف حولها المراقبون، ثمة سياسة واضحة تتبعها إيران في خطواتها المتأنية تجاه المجتمع الدولي: الإبقاء على القرار الإستراتيجي الإيراني بعيدا عن أي تأثير أميركي بعد الاتفاق النووي.
لذلك، وإلى جانب الاتفاق النووي وصفقة تبادل السجناء كإنجازين وسابقتين هامتين، أطلقت إيران صواريخها التجريبية كالماضي وأوقفت البحارة الأميركيين وتعاملت بقوة مع أي تطور قد يضع سابقة جديدة في مدى استقلال خياراتها الإستراتيجية.
إذن، نحن إزاء ثنائية إيرانية تشكل مجتمعة سياسة طهران تجاه المجتمع الدولي (والولايات المتحدة). فمن جهة يمكن العمل مع المجتمع الدولي والتوصل معه إلى اتفاق ينهي العقوبات إزاء تقييد وتحديد البرنامج النووي الإيراني، ومن جهة أخرى يجب الحزم مع أي قضية يمكن أن تمس استقلال إيران على المستوى الإستراتيجي. بهذا المعنى لم تخرج -ومن الصعب التنبؤ بخروج- السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من الأطر التي حددت الذهنية الإستراتيجية الإيرانية قبل توقيع الاتفاق النووي.
تبحث أميركا عن هدفين موازيين: إشراك القوى الكبرى في أعباء المرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط وغيرها، والتركيز على بناء موازنة إقليمية تُشرك اللاعب الإقليمي في أعباء الأزمات الإقليمية وتقلص مستوى التنافس الإستراتيجي وإسقاطاته السلبية على سياسة واشنطن في المنطقة |
رغم ذلك، تتخوف الكثير من الدول الإقليمية من التقارب الإيراني الأميركي وتحسب أنه آت لا محالة، فالاستياء العربي بادٍ في تصريحات النخب الحاكمة، خاصة في دول كالسعودية والبحرين والإمارات.
ورغم الرسائل الإيرانية المركزة على عدم الربط بين سياسة إيران الإقليمية والملف النووي، ما زال المشككون العرب في هذه الرسائل كثيري العدد. ومن التشكيك دخل بعض من هذه الدول طور الاستعداد لأي تطور في سياسة واشنطن الإقليمية من زاوية علاقتها بطهران.
بدأ مثلا تضخيم فكرة "الخطر الإيراني" على الأمن والسلم الإقليميين. وقد خرج هذا الخوف من خطاب لإخافة الدول الغربية من "الخطر الإيراني" إلى سياسات عملية -لإظهار جدية هذه المخاوف- بقطع العلاقات السعودية الإيرانية بعد الهجوم على السفارة السعودية، رغم اجتماع النخب الحاكمة في طهران على نبذه وشروعها في إجراءات معاقبة المسببين له وتقبّلها المسؤولية الكاملة عنه.
وما التخويف من إيران المحررة من قيود العقوبات الأممية إلا جزء من الصورة. يأتي الجزء الآخر في إطار محاولة دفع الولايات المتحدة للتعويض عن القبول بالاتفاق النووي، فإن كان هذا الاتفاق سيزيد من قوة إيران الإقليمية حسب هذه الرؤية، فعلى الولايات المتحدة بالتالي أن تعمل على موازنة هذه القوة (بالسعودية مثلا). هكذا تكتمل سياسة التخويف من إيران.
وقد بُنيت هذه السياسة على فرضيتين يصعب البناء عليهما: الأولى هي أن عدم قبول الدول العربية بالاتفاق النووي يشكل حجر عثرة في الإستراتيجية الإقليمية لواشنطن. وهذه فرضية جرى تضخيمها خطأ، فواشنطن لم تدعُ دول مجلس التعاون الخليجي إلى كامب ديفد إلا بعد أن بات الاتفاق النووي مع طهران قاب قوسين أو أدنى من التوقيع، وما تأكيد الرئيس الأميركي على التزام واشنطن بدعم حلفائها في هذا الاجتماع إلا رسالة أريد لها الحد من انزلاق هذه الدول تجاه روسيا والصين أولا، وتطمينها ببيع كميات أكبر من السلاح ثانيا.
الفرضية الثانية أن الولايات المتحدة بدأت الخروج بسياستها الشرق أوسطية من إطار موازنة القوى الإقليمية إلى ترجيح كفة إيران، وهو تصور خاطئ كتصور ترك واشنطن الشرق الأوسط للتركيز على صعود القوة الصينية. في التقدير النهائي، كل ما يمكن الحصول عليه جراء تضخيم "الخطر الإيراني" هو المتوفر مسبقا: كميات أكبر من السلاح.
وبعيدا عن الانطباعات العربية، لا يمكن التوصل إلى تصور دقيق حول تطورات العلاقات الإيرانية الأميركية دون التركيز على التغيير في الإطار الدولي. وعند الإسهاب في رصد السياسة العالمية وفي إطارها النظرة الأميركية للشرق الأوسط، يتوصل المرء إلى أربع نتائج:
1- تشكل تطورات النظام العالمي أهم مرتكز في أي تطور يظهر في سياسة واشنطن في الشرق الأوسط وغيرها من المناطق.
2- نحن في مرحلة انتقالية في النظام العالمي قوامها الانتقال من نظام القطب الأوحد الذي انتهى أو أوشك على الانتهاء، إلى نظام متعدد الأقطاب.
3- تبحث الولايات المتحدة عن إيقاف الانتقال أو تطويل أمده قدر الإمكان، وتحميل أعبائه على الأقطاب الصاعدة في النظام العالمي.
4- تنظر الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط على أنه عبء لا يمكن التخلص منه، ولذلك يجب إشراك القوى العالمية الصاعدة في تحمل هذا العبء من جهة، وإدخال اللاعبين الإقليميين المؤثرين في إدارة أزماته من جهة أخرى.
إذن نحن إزاء تطور عالمي، وما الانشغال البحت بإسقاطاته الإقليمية إلا تلخيص التحليل في إطار ينقصه الدقة. في ظل هذا التطور العالمي تبحث الولايات المتحدة عن هدفين موازيين: أولهما إشراك القوى الكبرى في أعباء المرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط وغيرها، وثانيهما التركيز على بناء موازنة إقليمية تُشرك اللاعب الإقليمي في أعباء الأزمات الإقليمية من جهة، وتقلص مستوى التنافس الإستراتيجي وإسقاطاته السلبية على سياسة واشنطن الشرق أوسطية من جهة أخرى.
رغم الاتفاق النووي وصفقة تبادل السجناء، تبدو طهران حريصة على إظهار المسافة بينها وبين واشنطن بإطلاق الصواريخ وطائرات الاستطلاع وغيرها من التصرفات. وسيستمر سلوك إيران الإستراتيجي هذا، ومن الصعب توقع تغيير مفاجئ فيه |
في المقابل لا تضع إيران نفسها في إطار إستراتيجي ترسمه الولايات المتحدة. وترى طهران في تغيير سياسة واشنطن فرصة للحد من عداء الأخيرة لها، بينما تنأى في ذات الوقت بنفسها عن الدخول في لعبة واشنطن الإقليمية أو العالمية.
لذلك ترجح إيران العمل مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي على العمل مع أميركا ذودا عن استقلال قرارها الإستراتيجي. ولذلك ورغم الاتفاق النووي وصفقة تبادل السجناء، تبدو طهران حريصة على إظهار المسافة بينها وبين واشنطن بإطلاق الصواريخ وطائرات الاستطلاع وغيرها من التصرفات. وسيستمر سلوك إيران الإستراتيجي هذا، ومن الصعب توقع تغيير مفاجئ فيه.
وعليه فإن السياسة الخارجية الإيرانية لم تشهد أي نقلة نوعية، بل جل التغيير كان في أولويات طهران الإقليمية التي باتت تركز في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي على محاربة التطرف، وفق الرؤية الإيرانية بالطبع.
بشكل عام يمكن القول إن العلاقة الإيرانية الأميركية ما زالت مستمرة بنفس الإطار السابق للاتفاق النووي، لكننا في مرحلة جديدة بالتأكيد قوامها إسقاط واشنطن الخيار العسكري ضد طهران كنتيجة للاتفاق النووي.
وقد شكّل هذا التغيير الذي يمكن عدّه الأكبر في العلاقات الإيرانية الأميركية منذ أربعة عقود، عنصرا هاما في الدفع باتجاه الاتفاق النووي. إلا أن هذا التغيير لم يؤد إلى تغيير إستراتيجية إيران في التعاطي مع الولايات المتحدة (المستوى الدولي) أو في سياستها الشرق أوسطية (المستوى الإقليمي).
كل ما حدث من جانب إيران كان استجابة لتغيير في المناخ الدولي إزاء برنامجها النووي وإمكانية إنهاء الأزمة دون تجميد البرنامج بالكامل. وكل ما صاحب ذلك وجاء بعده لا يُعد خروجا عن المألوف، ولم يعبّر عن تغيير مفاجئ كما يحلو للبعض تسميته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.