الوجود الروسي في سوريا بين مرحلتين

epa05290102 A Russian Mi-28 helicopter patrols the area around Hmeimym airbase in Latakia province , Syria, 04 May 2016. Hmeimym airbase serves as the base of operation for the Russian air force in Syria. The United States and Russia have agreed to extend the cease-fire in Syria to the city of Aleppo, the US State Department reported on 04 May. EPA/SERGEI CHIRIKOV

مرحلة الضغط
مرحلة الحسم
ماذا بعد؟

يُعتبر الموقف الروسي بشأن المسألة السورية أكثر المواقف الدولية غموضا، ففي الوقت الذي أمنت فيه موسكو للنظام السوري الغطاء العسكري والسياسي اللازمين لبقائه واستمراره، أكدت في المقابل أن إستراتيجيتها ليست خارج المعادلة الدولية الرامية إلى تحقيق حل سياسي للأزمة، وأن هدفها هو منع إسقاط النظام عسكريا لمنع انتشار الفوضى في الإقليم.

تحت هذا العنوان جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا الذي نقل موسكو من خارج الأزمة إلى قلبها، فبدأ صناع القرار في الكرملين يقفون على مفاصل بنيوية في الأزمة السورية لم تكن واضحة لهم قبل ذلك، سواء على مستوى الواقع الميداني العسكري في البلاد ومتطلباته، أو على مستوى صناعة القرار في دمشق وطبيعة وتعقيدات النظام وحدود التدخل الإيراني فيه.

مر التدخل العسكري الروسي بمرحلتين عكستا تطور رؤية موسكو لطبيعة الحل في سوريا:

مرحلة الضغط
جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا نهاية سبتمبر/أيلول 2015 لإنقاذ النظام وإخراجه من عنق الزجاجة، بعدما تمكنت فصائل المعارضة -وفي مقدمتها "جيش الفتح"- من تحقيق انتصارات عسكرية هددت وجود النظام في الشمال الغربي لسوريا، وأصبح معقله الرئيسي (اللاذقية) قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.

وبطبيعة الحال جاء هذا التدخل من دولة خارج النطاق الإقليمي مثل روسيا لإجراء تغيير في الميدان السوري من شأنه أن يقوي موقف النظام التفاوضي في مباحثات التسوية السياسية.

التدخل العسكري الروسي في سوريا نقل موسكو من خارج الأزمة إلى قلبها، فبدأ صناع القرار في الكرملين يقفون على مفاصل بنيوية في الأزمة السورية لم تكن واضحة لهم قبل ذلك، سواء على مستوى الواقع الميداني العسكري أو على مستوى صناعة القرار في دمشق وحدود التدخل الإيراني فيه

وكان طبيعيا آنذاك أن تبدأ العملية العسكرية الروسية بضرب فصائل المعارضة المسلحة، بما فيها "الجيش الحر" وحركة "أحرار الشام" و"أجناد الشام" و"جيش الإسلام" و"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقا)، فهذه القوى -باستثناء النصرة- إلى حد ما غير منفصلة عن التسوية، وإضعافها عسكريا سيدفعها إلى الانخراط في التسوية وفق شروط النظام.

ولذلك بدأت موسكو مدفوعة بالانتصارات العسكرية تعبيد الطريق أمام مفاوضات جنيف وفق تأويل معين لبيان "جنيف 1″، فجاء بيان فيينا الأول في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وفيينا الثاني في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ثم القرار رقم 2254 منتصف ديسمبر/كانون الأول 2015، تتويجا للجهود الدبلوماسية الروسية/الأميركية.

وفي محاولة لاستثمار النجاحات العسكرية بعد إعادة النظام السوري سيطرته على ريفيْ اللاذقية الشمالي والشرقي وأجزاء من ريفيْ حلب الجنوبي والشرقي، ضغطت موسكو باتجاه إحياء مفاوضات جنيف، بينما ضغطت واشنطن في اتجاه إنشاء هدنة عسكرية تثبت الواقع العسكري الجديد.

قبلت موسكو الهدنة العسكرية الأولى مدفوعة بقناعة بأن الانتصارات العسكرية التي تحققت كافية للحصول على نتائج سياسية، فكانت الهدنة تعبيرا مكثفا عن الإستراتيجية الروسية/الأميركية في سوريا.

مرحلة الحسم
بعد الهدنة العسكرية الأولى بدأت مرحلة التحضير لجولة جديدة من مفاوضات جنيف، لكن روسيا اصطدمت بعقبتين دفعتاها فيما بعد إلى تغيير تكتيكها:

ـ العقبة الأولى جاءت من النظام السوري ذاته الذي أعلن رفضه أكثر من مرة أي حل سياسي قبيل إنهاء معركته على الأرض، وعند هذه المسألة حصل الافتراق الجزئي بين النظام وروسيا، وبدأت التصريحات تنطلق من العاصمتين بحمولات سياسية مختلفة، الأمر الذي دعا المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركن آنذاك للرد على تصريحات الأسد التي أعلن فيها عزمه الاستمرار في الحرب، ثم جاء تصريح المتحدثة باسم الخارجية الروسية حول إجراء انتخابات تشريعية في سوريا ليباعد بين الموقفين.

وفي محاولة للضغط على دمشق أعلنت موسكو سحب جزء من قواتها من سوريا في اليوم ذاته الذي انطلقت فيه مفاوضات جنيف في مارس/آذار 2016، إنها رسالة سياسية لدمشق بأن وقت التسوية السياسية قد آن.

لكن الضغوط الروسية على الأسد لم تفلح، وأثناء ذلك اكتشف صناع القرار في موسكو أن تركيبة النظام السوري لا تسمح بعمليات ضغط داخل أروقة السلطة، في ظل عجز تام عن تمييز مكونات النظام عن مؤسسات الدولة، وفي ظل استحالة وجود مراكز قوى قادرة على الضغط، وفي ظل عدم قابلية النظام لفكرة التسوية ذاتها.

– العقبة الثانية جاءت من حلفاء المعارضة الإقليميين وبتواطؤ أميركي عبر رفض إدخال "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" في قائمة المنظمات الإرهابية أولا، وتعديل وفد هيئة التفاوض للمعارضة بما يستجيب مع المطالب الروسية ثانيا، وتغيير السقف السياسي للمعارضة ثالثا.

هنا اكتشفت موسكو أن مقاربتها لا تستقيم مع المقاربة الأميركية التي تفصل فصلا حادا بين ما يجري على الأرض وما يجب أن يجري على طاولة المفاوضات، أو على الأقل منع استثمار النجاحات العسكرية على طاولة المفاوضات.

الضغوط الروسية على الأسد لم تفلح، وأثناء ذلك اكتشف صناع القرار في موسكو أن تركيبة النظام السوري لا تسمح بعمليات ضغط داخل أروقة السلطة، في ظل عجز تام عن تمييز مكونات النظام عن مؤسسات الدولة، وفي ظل استحالة وجود مراكز قوى قادرة على الضغط، وفي ظل عدم قابلية النظام لفكرة التسوية ذاتها

وجدت روسيا نفسها في مأزق كبير مع فشل آلتها العسكرية في ترجمة نصرها إلى لغة سياسية، فقررت الإلقاء بكامل ثقلها العسكري لتغيير معطيات الميدان بشكل شبه كامل، ولذلك أعادت تعزيز قوتها في سوريا.

هذا التغيير في الموقف الروسي تُرجم بشكل واضح على الأرض، فمع انهيار مفاوضات جنيف الأخيرة تراجعت الضربات الروسية على تنظيم الدولة الإسلامية، في وقت رفعت فيه وتيرة القصف على فصائل المعارضة، ثم جاءت معركة حلب لتعبر عن الوضع العسكري الجديد.

جاءت الهدنة العسكرية الثانية في سبتمبر/أيلول تعبيرا عن التغيرات في الميدان السوري وخصوصا في محافظة حلب، وتعبيرا عن التحالفات الجديدة التي تُرجمت بدخول عسكري تركي إلى الأرض السورية عبر بوابة "درع الفرات"، لكن الهدنة سرعان ما فشلت أو أُفشلت من قبل الأطراف المحلية (النظام/المعارضة).

استغلت روسيا فشل الهدنة لاستكمال عملية الحسم العسكري في حلب بمباركة أميركية مضمرة، وإذا كانت مرحلة ما قبل الهدنة تسمح بتمييز المعارضة المعتدلة عن تلك المصنفة تحت قائمة الإرهاب، فإن مرحلة ما بعد الهدنة لم تعد تسمح بذلك، وأصبح المطلوب هو خلو حلب من كافة المسلحين بمختلف ألوانهم.

ماذا بعد؟
مع النصر العسكري الذي حققته روسيا في حلب، بدأت الأسئلة تطرح: ماذا بعد؟ هل ستمضي روسيا قدما في عملياتها العسكرية؟ أم إن مرحلة المفاوضات قد أزفت؟

جاء "إعلان موسكو" (روسيا، تركيا، إيران) تعبيرا عن المتغير الحاصل في الساحة السورية، ولا تكمن أهمية الإعلان في أنه يحاول أن يستعيض عن منصة الأمم المتحدة في جنيف بمنصة أخرى تجسد الرؤية الروسية حسبما أعلنته أطراف في المعارضة السورية، أو أن الإعلان يشكل تراجعا عن بيان "جنيف 1" والقرار الدولي رقم 2118، ولم يتطرق لمصير بشار الأسد.

فهذه النقاط الثلاث جرى التخلي عنها -قبل "إعلان موسكو" بكثير- منذ صدور القرار الدولي 2254 في ديسمبر/كانون الأول 2015، حين تم التراجع عن صيغة "هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة" لصالح "حكما ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية"، وهي صيغة فضفاضة تحمل قراءات عدة.

وكذلك الأمر فيما يتعلق بمصير الأسد، فإن عدم تطرق "إعلان موسكو" له يعود إلى جملة تفاهمات دولية جرت سابقا، وترجمت في القرار الأممي 2254 والتفاهمات الدولية السابقة عليه (بيانا فيينا الأول والثاني).

ليس "إعلان موسكو" بديلا عن جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة كما يتصور البعض وإنما يمكن وصفه بـ"إعلان إطار"، فالمسألة السورية لا يمكن اختزالها ضمن محور بمفرده، ولا يمكن حلها وفق مصالح محور بمفرده، إنها أزمة تعكس المصالح الإقليمية والدولية المتعارضة، وحلها لا يكون إلا بمظلة دولية، وهو ما أكده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء المؤتمر الصحفي الثلاثي لحظة صدور الإعلان.

أهمية "إعلان موسكو" تكمن في أنه أعطى إمكانية حقيقية لتحقيق أمرين لم يتحققا من قبل:

الأول: إمكانية تنفيذ وقف إطلاق نار عام أو على الأقل تحقيق وقف إطلاق النار بمشاركة قوى في المعارضة السورية لها وزنها. والثاني: إمكانية الفصل بين المعارضة المعتدلة و"جبهة فتح الشام"، وهو ما يجري الإعداد له فعليا على الأرض.

ليس "إعلان موسكو" بديلا عن جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة كما يتصور البعض وإنما يمكن وصفه بـ"إعلان إطار"، فالمسألة السورية لا يمكن اختزالها ضمن محور بمفرده، ولا يمكن حلها وفق مصالح محور بمفرده، إنها أزمة تعكس المصالح الإقليمية والدولية المتعارضة، وحلها لا يكون إلا بمظلة دولية

وما كان يمكن الوصول إلى هذه المرحلة من دون تركيا وهنا تكمن الأهمية الكبرى لإعلان روسيا، فقد أدركت موسكو منذ أشهر أنه من دون أنقرة لا مجال لإطلاق قطار التسوية، كما أدركت أنقرة أنه من دون موسكو لا مجال للحصول على مكتسبات في سوريا تحمي مصالحها القومية العليا وتحمي القوى السورية المدعومة من قبلها.

وعلى الرغم من أهمية هذا التحول فإن التسوية ما زالت بعيدة، حيث الخلافات كبيرة وعميقة ليس بين أطراف "إعلان موسكو" فحسب، وإنما أيضا بين باقي الفاعلين الإقليميين والدوليين في سوريا.

فتركيا لن تتخلى عن دعمها للائتلاف الوطني كمرجعية أساسية للمعارضة، ولن تتخلى أيضا عن صيغة للتسوية تكون جادة لا شكلية هدفها إعادة إنتاج النظام من جديد، والقوى العربية الداعمة للمعارضة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لن تقبل بتسوية شكلية، وهذا ما تدركه روسيا جيدا التي لن يكون في صالحها استمرار المعارك إلى أجل غير مسمى.

وهنا بدا التباين واضحا بين موسكو وطهران، بدءاً من القرار الدولي الأخير الخاص بحلب وانتهاءً بشكل التسوية المطلوبة في سوريا.

بين روسيا وإيران خلافات حول فصائل المعارضة العسكرية التي ستدرج في التسوية، وبسبب هذه النقطة تصر إيران على استكمال محاربة فصائل المعارضة، في حين تبدو موسكو في هذه المسألة أقرب إلى الرؤية التركية ورؤية المجتمع الدولي الساعي وراء وقف عام لإطلاق النار، وضرورة دمج هذه القوى ضمن الجيش السوري المستقبلي عند تحقيق التسوية الكبرى.

أولى الخطوات الفعلية التي ستنجم عن "إعلان موسكو" هي إعادة ترتيب وفد المعارضة للمفاوضات، بحيث يضم قوى قريبة من موسكو وقوى أخرى تقف في الوسط بين النظام ووفد الهيئة العليا للمعارضة. وثانية الخطوات، هي وضع القوى العسكرية التي رفضت الابتعاد عن "جبهة فتح الشام" ضمن قائمة الفصائل الإرهابية. أما تفاصيل التسوية فستترك لمرحلة متأخرة ولمستوى آخر من التفاهمات مع الولايات المتحدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.