التهجير القسري.. من جريمة حرب إلى وسيلة مشروعة

صور من استعداد أهالي داريا للرحيل

جريمة برعاية دولية
سياسة ممنهجة
تقاطع المصالح
ملامح الواقع الجديد
استعادة التوازن

التهجير القسري سياسة ممنهجة في الصراع السوري لصناعة واقع محلي وإقليمي خاص، يحدث أن تلتقي فيه مصالح أطراف كثيرة ضالعة في الصراع، مما جعل التهجير وسيلة دنيئة أخلاقياً مشروعة سياسياً تبررها غاية أشد دناءةً، وفي ظل تأزم المشهد السياسي ـوالسياسة فن الممكنـ يمكن أن يصير المعروف منكراً والتهجير معروفاً، فكيف حصلت هذه المعادلة في سوريا؟

جريمة برعاية دولية
أمام مشهد قافلة المهجّرين بالباصات الخضراء العالقين عند معبر الراموسة بين العاصفة الثلجية والخطيئة الدولية، يحلو للساسة ووسائل الإعلام الأجنبية الحديث عن الإغاثة وسلة غذاء ومواد تدفئة، يصل دفئها نشرات الأخبار ولا يصل المحاصرين والعالقين إلا بعد زوال العاصفة دون الخطيئة.

المؤكد أن حاجة أولئك إلى الأمان سابقة على الحاجة للإغاثة، غير أن الرؤية الدولية المسيطرة على الصراع في سوريا لا تمنح السوريين الأمان بل الفوضى، في جدلية تقوم على ثنائية الفوضى والتبعية، وهو ما يجعل جرائم الدولة في سوريا مصلحة أجنبية تنتهي بارتماء جميع الفرقاء في حضن الأجنبي، إما هروباً من الموت أو هروباً من المساءلة.

عقب بدء عملية الترحيل جاء تصريح المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا السيد ستيفان دي ميستورا في 22 ديسمبر/كانون الأول محذراً: "ذهب الكثيرون منهم إلى إدلب التي يمكن أن تصبح حلب التالية"، موجهاً بذلك رسالتين:

– اعتبار المرحّلين من حلب مطاردين لا ضحايا، وهذا وصف يجيز لمشهد الحصار والتشريد تعقب أثرهم أينما حلوا، دون التطرق مباشرة لوصفهم بأنهم إرهابيون أو حتى معارضون غير مرحب بهم.

– اعتبار الترحيل من حلب خطوة منجزة نحو مخرج سياسي تسمح بالعودة لمسلسل جنيف، وليس جريمة حرب في بشاعتها -كالتي وقعت في سربرنيتشا أو أشد خزياً- تستوجب الانتقال بالمشهد نحو لاهاي.

الرؤية الدولية المسيطرة على الصراع في سوريا لا تمنح السوريين الأمان بل الفوضى، في جدلية تقوم على ثنائية الفوضى والتبعية، وهو ما يجعل جرائم الدولة في سوريا مصلحة أجنبية تنتهي بارتماء جميع الفرقاء في حضن الأجنبي، إما هروباً من الموت أو هروباً من المساءلة

وعلى اعتبار مكانة صاحب التصريح في الأمم المتحدة؛ لنا أن نفهم في موقف هذه الأمم مباركة لسياسة الحصار والتهجير، وسرورا لدرجة تسمح بتجاوز مواثيق حقوق الإنسان، لا سيما أن الأمم متحدة تعاطت بشكل مختلف مع تقدم المعارضة في حلب بينما سارعت إلى توجيه نداء للمعارضة لإبرام هدنة 72 ساعة عقب تمكن الأخيرة من كسر الحصار في يوليو/تموز الماضي، أي في وقت ظهر فيه وكأن رؤية موسكو للحل من خلال "نموذج غروزني" مهددة بالفشل.

أما الجرائم التي اقترفتها الطائرات الروسية -وعلى الهواء مباشرة- فهي أظهر من أن نذكرها بين يدي هذه القراءة، غير أن الموقف الدولي اكتفى بالتفكير في ممرات آمنة لإخلاء المدينة، مستخدماً ألفاظا مضللة غير مهنية وتحمل طابعاً إنسانياً لا سياسياً ولا حقوقياً، كوصف ما يحدث في حلب بالكارثة الإنسانية كما جاء على لسان العديد من الرؤساء الأوربيين.

وهكذا غابت في عبارات التنديد أي محاولة صادقة واضحة لوضع النقاط على الحروف بوصف ما يحدث في حلب بأنه جريمة تستوجب المساءلة، مع تحديد أسماء المتهمين بدقة ترقى إلى أن تكون محاولة ضغط جادة لحماية المدنيين، علماً بأن خيارات المجتمع الدولي لحماية المدنيين هي أوسع بكثير من تفعيل المساءلة القانونية.

سياسة ممنهجة
كجزء أصيل من إستراتيجية المواجهة منذ 2013؛ عمد النظام إلى سياسة الحصار وفي 2014 جنى لأول مرة ثمارها في صورة ترحيل قسري للمحاصرين في حمص، وأعقبتها حتى الآن حالات كثيرة مروراً بداريا وخان الشيح والتل وغيرها من بلدات ريف دمشق، وصولاً إلى حلب والآن في مضايا والزبداني وكامل الريف الغربي في دمشق وقريباً ريفها الشرقي.

ومع واقع الانتشار والتكرار المستمرين يصبح التهجير سياسة ممنهجة وعلنية، لا تقتصر على حصار المعارضين داخل سوريا بل ترسم لطردهم خارج البلاد، وقطع آمال العودة بالاستيلاء على ممتلكاتهم، ومن ذلك:

– ترحيل سكان مناطق كاملة بدعوى إقامة مشاريع إعمارية، كما حصل مطلع 2014 في كفرسوسة وبساتين المزة وأحياء ما خلف الرازي في دمشق.

– استملاك منازل أهالي دمشق المقيمين خارجها، في حملة أمنية كبيرة ازدادت ضراوةً في 2016، واستهدفت منازل غادرها أصحابها بسبب الاعتقال لدى النظام أو بسبب السفر.

ويزيد في وضوح سياسة التهجير خطاب الأسد في يوليو/تموز 2015 حين قال إن سوريا لمن يدافع عنها، مشيراً إلى المليشيات الشيعية المساندة له، ومشرعناً بذلك عمليات تهجير المعارضين ونقل أملاكهم لحرز مقاتلي الشيعة الوافدين.

تقاطع المصالح
سياسات الحصار والتهجير والاستملاك تأتي ضمن إستراتيجية واحدة ترمي لصناعة مستقبل للأسد فضلاً عن كونها إستراتيجية مواجهة. إنها -وبكل وضوح- تغيير ديمغرافي لفرض أمر واقع، فهي لا تشرد الثوار فحسب بل تشرد حاضنتهم الشعبية، وتسمح للنظام بادعاء السيطرة الأمنية وعودة الهدوء كما فعل في يبرود مثلاً.

تمنح سياساتُ الحصار النظامَ فرصة للمقايضة على استمرار حكمه مقابل تمكين داعميه داخل سوريا، وتوطين الشيعة لزراعة ضاحية جنوبية لدمشق على غرار بيروت وتأسيس حزب الله جديد في سوريا، ونشر التشيّع في الدولة والمجتمع كجدار وقائي للنفوذ السياسي

كما تمنح سياساتُ الحصار النظامَ فرصة للمقايضة على استمرار حكمه مقابل تمكين داعميه داخل سوريا، وتوطين الشيعة لزراعة ضاحية جنوبية لدمشق على غرار بيروت وتأسيس حزب الله جديد في سوريا، ونشر التشيّع في الدولة والمجتمع كجدار وقائي للنفوذ السياسي.

أما على صعيد صناعة مستقبل للأسد فسياسة تهجير شعب معارض واستقدام وتوطين آخر مؤيد من شأنها أن تضمن نتائج صناديق الاقتراع التي لم تكن لتصلح كحل سياسي في وقت سابق. وطالما كان من العسير تهجير شعب بأكمله فإنها تكفي السيطرة على مراكز الثقل السكاني وتأمينها كدمشق وحلب والمناطق الحيوية ذات الرمزية.

أما روسيا -التي تورطت بتدخل عسكري في سوريا بدا للوهلة الأولى قليل التكلفة- فتسعى بدورها لفرض أمر واقع يضمن انحياز حاكم دمشق لمعسكرها ويمنح الحماية لقواعدها في الساحل السوري، وإن كانت -بخلاف إيران– لا ترحب بخوض مواجهة مفتوحة للحسم العسكري الكامل، لكنها معنية بإحراز نصر عسكري جزئي يمنحها صفة المفاوض القوي.

وأياً يكن الثمن الذي قدمه الأسد للحصول على الحماية؛ فموسكو معنية بحماية نفوذها أكثر من زيادة المكاسب، وتعلم جيداً أن التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط بطبيعتها قلقة لا مستقرة، والمهم لديها ليس استنزاف المعارضة على المدى الطويل بل الوصول السريع إلى هدوء يسمح بادعاء السيطرة، عبر تغيير نوعي في ألوان خريطة السيطرة في سوريا من الأخضر إلى الأحمر، وهو ما يتحقق الآن بسياسة التهجير القسري.

ملامح الواقع الجديد
من شأن سقوط حلب أن يكشف ملامح شديدة الوضوح للمرحلة الجديدة؛ فقد استطاعت روسيا في سنة فعل ما عجزت عنه إيران في سنتين، والسبب لا يقتصر على فرض حصار على المقاتلين بل التمتع بقدرة أكبر على المجاهرة بالإجرام من خلال امتلاك الفيتو والقنابل العنقودية والنابالم، واستهداف المستشفيات والأسواق، واقتراف كل المحرمات بحيث لا يبقى في الأرض حياة تدعو للتمسك بها.

بينما العالم لم يجُد سوى بإرسال مراقبين لفتح طريق التشريد أمام أهالي مدينة ضربها زلزال من الإجرام فما أبقى لهم وطناً ولا عملاً ولا ماضياً ولا مستقبلاً، جاء المراقبون باسم هيئة أمم الأرض ليعلنوا الفرصة التاريخية أمام المتمسكين بأطلال وطن، إما التشريد الآن أو يعود الزلزال، وانتهت مهمة المراقبين بضمان حصول التشريد، مع التلويح باحتمال عودة الزلزال حيث حط المشردون.

وهذا المشهد المهم يقودنا لما يلي:

تحول تركيا من مدافع عن الشعب السوري وعن ثورته إلى مجرد وسيط بين المعارضة وقاتليها، ينسف منظومة كبيرة من التعهدات ويعطل حجماً كبيراً من الإمكانيات.

– النظم العربية والإسلامية لم تمتلك إنجاز أي تغيير معتبر يجنب حلب مصير السقوط المنظور وليس المفاجئ، وهذا يجعل الحديث عن شحذ عزائم الأمة لخوض معركتها في سوريا كالنفخ في قربة مقطوعة، إذ إن الأمة ما لم تتحرك عبر النظم السياسية الممثلة لها فلن تستطيع بأفرادها مواجهة دول تمتلك النووي والقوة النارية والعسكرية والسيادة السياسية، في وقت يغيب فيه المشروع والرموز والقادة.

الاتحاد الأوربي المشغول بعاصفة أزمات وجودية من ملف اللاجئين إلى انسحاب بريطانيا وتجميد عضوية المجر والحدود المفتوحة وغير ذلك من تحديات جميعها ذات صلة بسوريا في المحصلة، لا يمكن اعتباره صديقاً للشعب السوري ما دام لم ير في حلب ما يستحق سياسياً أكثر من الشجب وتشجيع جهود التوثيق، بغرض مساءلة لن تأتي قبل حسم الصراع وتحديد هوية المنتصر وبالتالي الصديق.

إيران التي تختلف مع روسيا في التفاصيل تتفق معها في جزء كبير من النتيجة، فالحرب المذهبية التي تخوضها إيران لا تعني لروسيا شيئاً بالمعنى الإيجابي سوى كونها تكتيكاً مرحلياً لإقرار أمر واقع، وربما تهديداً مستقبلياً في صورة تزاحم نفوذ داخل بيت الحكم في دمشق من المبكر الانصراف لمعالجته، خصوصاً أن العراق قدم نموذجاً ملهماً للمزاوجة بين التبعية السياسية والتسييس المذهبي، إنما في هذه المرة سيكون الحرس الثوري حارساً للمصالح الروسية لا الأميركية، ضمن معادلة الشرق الأوسط الضابطة لإيقاع السيطرة والنفوذ والتمدد بشكل عام.

– الولايات المتحدة الأميركية التي تشهد ولادة إدارة جديدة تختار لخارجيتها وزيراً لا يحمل أي بشارة سوى لبشار الأسد، وأياً تكن الإدارة الأميركية الجديدة فليس من المنتظر أن تأتي السياسات الجديدة بتدخل مختلف، ما دامت خريطة النفوذ في الشرق الأوسط ترعى التفاهمات ومساحات النفوذ المألوفة، بل إن سحق المعارضين وتعويم الأسد لن يعني فوز موسكو بل غرقها وتكريس الرؤية الأميركية في ثنائية الفوضى والتبعية.

استعادة التوازن

بينما العالم لم يجُد سوى بإرسال مراقبين لفتح طريق التشريد أمام أهالي مدينة ضربها زلزال من الإجرام فما أبقى لهم وطناً ولا عملاً ولا ماضياً ولا مستقبلاً، جاء المراقبون باسم هيئة أمم الأرض ليعلنوا الفرصة التاريخية أمام المتمسكين بأطلال وطن، إما التشريد الآن أو يعود الزلزال

من هنا ينبغي أن نعيد تحديد العدو والصديق، والأدوات والإستراتيجيات، وعدم التعويل على إدارة أميركية جديدة، ولا على خلاف روسي إيراني متزايد طرداً بازدياد المكاسب، ولا توقع أي تحرك مجدٍ من أصدقاء الشعب السوري ولا انتظار سلاح نوعي من دول الجوار.

والأجدى العمل على تفعيل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي (صاحب العلاقات المتوترة مع روسيا) ليكون صديقاً حقيقياً للثورة السورية، مؤمناً بربط استقراره باستقرار حقيقي في سوريا، إذ أنه في تعاطيه معها لا يزال ينطلق من موقع ردود الفعل، نتيجة الإرباك في الرؤية والتردد في تجاوز السقف الأميركي الذي لم يعد ضامناً لسلامة حدود وقيم ومصالح الاتحاد الأوروبي، صاحب المؤسسات الضخمة والموارد الكثيرة.

وإذا كانت الغوطة الشرقية تمتلك خصوصية لا تسمح بإعادة سيناريو حلب في الوقت الحالي، فإنها بعد حين لن تجد في جوارها لدمشق وفي امتلاكها لمنظومة سلاح مضاد للطائرات ما يمنحها الخصوصية، عندما لا يبقى للّون الأخضر مكان سوى إدلب على الحدود التركية.

لخوض المرحلة القادمة ينبغي الإعداد لتحويل شكل المواجهة من صراع على الأرض إلى رهان على الاستقرار، بما يجعل الشوارع ساحات مواجهة ويحفظ لحاضنة الثوار مدنها، ويجعل الحِمل على داعمي الثورة أخف وطئاً، ويعيد معالجة العلاقة بين المدني والعسكري، ويسمح للثوار بخوض معركة تعتمد على المهارات والموارد المحلية أكثر من اعتمادها على الدعم العسكري والسياسي، وبالمجمل من المهم التفكير في بدائل تراعي محدودية الصداقات والموارد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.