العقل الدعوي المعاصر.. المهمة المعطلة

Men listen during a prayer service as Rep. Don Beyer, D-Va., and other local elected officials also attend Friday prayers at Dar al-Hijrah Mosque in Falls Church, Va., Friday, Dec. 4, 2015. Beyer and other elected officials attended prayer services at the northern Virginia mosque as a show of solidarity with the region's Muslim population. (AP Photo/Jacquelyn Martin)


في نكبة 1948 أصيب التيار الليبرالي بانتكاسة بينة، وانكسر مده في المجتمع بحكم ما رآه الرأي العام العربي شراكة بين جغرافيا الفكر الأصلية في الغرب، وبين دور الغرب في مصادرة فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني، وتكرر هذا الأمر مع التيار القومي بعد نكسة يونيو/حزيران 1967 كردة فعل على فشل الفكرة الاشتراكية وحليفها القومي في إنقاذ فلسطين عبر العهد الناصري.

ومنذ نهاية الستينات بدأ الحضور الإسلامي في الصعود، وهو الذي كان يتأرجح بين قضايا الإيمان والتربويات، وكان محل مطاردة من الموقف العلماني الشرس في حينه، فشعر بجفاف وضغط مستفز، يُصر على فصل الضمير العربي عن الإسلام، بموازاة خطاب فكري بدأ السعي لاستعادة المنهج الإحيائي لمقاصد الشريعة ليجيب على أسئلة النهضة.

بيد أن الضلع الثالث في تشكيل العقل الدعوي، بعد بروز التيارات على حساب الأفكار، كان هو ازدواجية الصراع المر الذي عاشته الحركة الإسلامية مع الاستبداد، ثم إيمانها بفكرة المذهبية الصافية، لإنقاذ أهل السنة وهدايتهم، ثم الصراع مع الطوائف الأخرى، والصراع مع العدو الصليبي واليهودي.

ولم تكن فكرة المذهبية الصافية متحدة في النشأة مع الحركية الدعوية بل مختلفة، حيث كانت مصر والشام، في موقع المراجعات الفكرية الناهضة، ومنهجها الشرعي المختلف، خلافا لمنطقة الخليج العربي التي عبئت بفكرة النقاء المذهبي ضد مدارس السنة الأخرى.

الضلع الثالث في تشكيل العقل الدعوي، بعد بروز التيارات على حساب الأفكار، تمثل في ازدواجية الصراع المر الذي عاشته الحركة الإسلامية مع الاستبداد، ثم إيمانها بفكرة المذهبية الصافية لإنقاذ أهل السنة وهدايتهم، ثم الصراع مع الطوائف الأخرى، والصراع مع العدو الصليبي واليهودي

ولم تكن جغرافيا الدعوة مختنقة حتى نهاية الثمانينات، حين أطبقت عليها معركة التصفية العقائدية مع المحيط المسلم، لكن ظروفا سياسية واجتماعية وأمنية، ساهمت في هذا الدمج، الذي تشكل منتصف التسعينات، فجمع هشاشة الصحوة الخليجية، وتدخل المذهبية السياسية في تشكيلها، مع أزمة الحركات الدعوية وصراعها الحزبي.

وهذا المأزق التاريخي ومنتجه الفكري الذي نحتاج بالضرورة لتفكيكه اليوم، لا يعني دمغ كل مجموعات أو شخصيات تلك الفترة بهذا الفكر، ولا المقصود نقد مسارات التذكير الإسلامي التربوي في المجتمع، لكن المشكلة العميقة التي كانت أحد أسباب اجتياح السلفية الجهادية للميدان العربي هو ضعف هذا المنتج، وفوضى ترتيب عقول الشباب فكريا للوقاية من الغلو وجذوره، قبل أن يحمل الغلاة السلاح.

وهنا تقفز لنا قضية الصراع بين الفكر الإخواني والفكر السلفي وهو صراعٌ مر معقد، تحديد مسؤولية كل طرف فيه يمثل مسارا صعبا، غير أن الواضح هو تأثير الفكر السلفي المتشدد في صراع المذهبيات الشرس داخل البنية السنية قبل غيره، وهو المشروع المرتبط بالحرب الفكرية للتصفية المذهبية التي آمنوا بها، في حين كانت مسؤولية فكر الإخوان في المدخل للصراع الفكري الشرس للآخرين، والتصنيف حسب مواقف الحركة الحزبية الدعوية.

هذا الإرث الثقيل كان أحد مسببات الأزمة، ومنع صناعة الوعي الإسلامي الجديد، وفقه الإنقاذ السياسي، وقدرات تفكيك نزاعات الأمة المعقدة، وهو هنا في مشهد حلب وغيرها، لا يعني أبدا التقليل من بأس العدو أو وحشيته وإرهابه، وأنه لا ينتظر مبررات، كما أن ذلك لا يُنكر أبدا الرغبوية الغربية، في إسقاط كل المشرق العربي، وتواطؤه عليه مع الاستبداد العربي.

ولعل المدخل المهم هنا، هو كيف كان يُصنع العقل الدعوي لعقود خلت ليتجنب التوظيف المعادي، وإذا اعتبرنا ذلك العقل هو في أصله يمثل الفكر المعتدل، ولا يؤمن بالعنف خاصة في موقف المستشار الهضيبي الشهير وكلمة مرشد الإخوان المعتقل وثباته على السلمية، وإن زلت بجماعات قريبة منهم أو بعيدة أعمال عنف عبر استفزاز الاستبداد، فسيبقى السؤال هو كيف أنشأ العقل الدعوي مكتبته في الشباب، ونظم فكرهم كمتطلب إسلامي، لا كتوجيهات مواسم سياسية.

وهل سعى حتى في السنوات المتأخرة، بأن يوجد مسار توعية وقائية لهذا التطرف والغلو، كخطاب فكري تأصيلي مكثف، وإن لم يكن بالضرورة مسؤولا عنه، فقد يكون من هيأ الأرضية هو الاستبداد والخطاب الديني المنافس له، لكن هذا الغلو الذي استُخدم لتحقيق ثغرات كبرى يمر من حوله، ويتَدفق عليه دعم ديني ومادي، تُنفذ عبره حروب أو اختراقات مدمرة، أو تصادر ميادين مقاومة باسم صحة منهجه، لصالح السلفية الجهادية، ثم تأتي بعدها الاجتياحات الكبرى التي تُسقط الشرق لا في أزمات فقط، بل فوضى ساحقة.

فهل واجه العقل الدعوي المعاصر هذه الثقافة؟
هل كانت هناك وحتى اليوم، إعلانات صريحة تدعو لإعادة هيكلة الوعي الشبابي الدعوي، مستقلا عن الغلاة والمستبدين، أم أن حروب التيارات وعقلية الصراعات مع المذهبيات وقبائل التيارات الفكرية، خاصة تأثيرات توجيه القرار السياسي المستتر، سيطرت على برنامج الدعوة الإسلامية، وغابت عنها كليا إعادة قراءة الشريعة والفقه والسيرة النبوية عبر مظان المقاصد، وتحقيق معادلة درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.

وسؤال مهم آخر كم كان نصيب منابر هذه الدعوات وجمهورها، من الخطاب الشعبوي الحاد في المنطقة العربية، ومواسم التجييش المذهبي وغيره، بدلا من صناعة دعم سياسي ومادي مختلف للمقاومة، ومستقل عن مواسم الاستبداد الصوتية، وتسخير القدرة الشبابية لوعي أسئلة النهضة كبناء معرفي، بدلا من خطاب المفاصلة الدعوي.

إن تكتلات الشباب الدعوي في الساحة السلفية والإخوانية وحتى المدارس الدينية الروحية والفقهية، بحاجة إلى وجبة توعية وإنقاذ، تسألهم عن عجزهم عن توحدهم، وتصيغ لهم معنى وعي المستقبل لهذا الدين، لا خطابات الأحلام التي تُسقط عقل الشاب ودينه وهويته، فيخسر نفسه، وتخسر أمته

إننا هنا نتحدث عن أجيال قائمة وأجيال سابقة، وأجيال تُنشأ في البيئة العربية، وهي أيضا أحد أهم كتل التواجد الشبابي، فماذا يعني غياب التصحيح الفكري وأولويات ترتيب هذا العقل الشبابي لديها، وهل هناك وعيٌ لحجم القصور أم أن هناك حملات عاطفية مستمرة تدافع عن مفهوم الصحوة الخليجية والحزبية دفاعا مطلقا، ولا تتوقف للحظة لنقد ذاتي يراجع حصيلة الشباب، ووعيهم ليقينيات الفكر المقاصدي الإسلامي.

إن حركة التمرد المتزايدة داخل منظومة الدعويين والصحويين من الفريقين، وبحث الوعي الشبابي عن أسئلة الوجود والانتماء والإنسانية، هو أحد معالم الأزمة الكبيرة في العقل الدعوي المعاصر، كما أن تحكم البعد السياسي بجمهور وشخصيات دعوية ليفرغ انفعالهم وعجزهم، إلى مشاتمات مذهبية لم توقف إيران الطائفية شبرا، ولم تحقق لشبابهم مستوى من الوعي، ليفهم هذا الشاب شخصيا، لماذا ينهار حاضر العالم الإسلامي، ولم تنقذه معركة الصحوة.

إن هذا التعلق الوهمي الذي لم يأخذ بسنن الله ولا بأسبابه الكونية للنصر، والذي بنى عليه الشباب في صفوف الحركات الإخوانية أو السلفية أحلامهم، انتقل بصورة متطرفة للسلفية الجهادية، في شقيه المذهبي والدعوي لآمال النصر الكبير، وتعززت أفكار الكفر بوسائط مقاصد الشريعة في النجاة بالأمة وشعوبها، وبتحقيق النصر المرحلي أو النصر السياسي.

ويتأكد ذلك خاصة مع فكرة أن الانفصال الاجتماعي عن مواطني الأمة أو فكرة الانفصال العقائدي، كانت دافعا لهذا الانزواء، ثم صدمته باكتشاف العالم الجديد، وأن رحلة الانتصار الدعوي العظيم في مخيلتهم سياسيا أو فكريا، ورضوخ الإنسانية له، لم يتحقق مطلقا كما كان يؤمله القادة الدعويون.

وحين بدأت رحلة الدراسة المعاصرة للسيرة النبوية طرح العلماء الباحثون مسألة العهد المكي، هل يشرع للأمة التعبد به؟ ورأوا أن ذلك مما يسع فيه الخلاف، وهو ما يعني أن مساحة وعي دلائل الشريعة، لا تقف عند ما يفهمه الداعية أو الشاب لنص آحادٍ معزول عن سياق المقصد الذي أراده الشارع، فيراهن على نصر تاريخي، وصناعة أمة وهزيمة الغرب في سنوات، ويهتف خلفه بنشيد حماسي ليخوض المعارك، ويزعم أن ذلك من دلائل الإيمان، وهو من فتن الفقه الساذج.

إن أزمة المكتبة الدعوية، قد يُغطي بعضها شخصيات الفكر الإسلامي الجديد الذين تناولوا مفهوم الشريعة والإنسان، وفكر صناعة الوطن الجماعي لا الوطن الدعوي، ومن ثم تحقيق بناء تحالفي تكاملي يعتمد القوة في مسارها، لردع العدو أو لصناعة النهضة.

لكن تكتلات الشباب الدعوي في الساحة السلفية والإخوانية وحتى المدارس الدينية الروحية والفقهية، بحاجة إلى وجبة توعية وإنقاذ، تسألهم عن عجزهم عن توحدهم بل وتحالفهم، وتصيغ لهم معنى وعي المستقبل لهذا الدين وما وعد الله به المرسلين، وما جعله سنة بين العالمين، بإدراك حقائق الكون وتتبع سنن الله فيه، لا خطابات الأحلام التي تُسقط عقل الشاب ودينه وهويته، فيخسر نفسه، وتخسر أمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.