ترمب والشوق لنظرية الاستعمار القديم

US President-elect Donald Trump (2R), his wife Melania Trump (R), Vice President elect Mike Pence (L) and Senate Majority Leader Mitch McConnell (2L) walk to a meeting in the Majority Leaders office in the US Capitol in Washington, DC, USA, 10 November 2016. Earlier in the day President elect Trump met with US President Barack Obama and Speaker of the House Paul Ryan.


تنطق التصريحات العفوية المتناثرة للرئيس المنتخب ترمب بتوجهات معبرة عن روح إمبريالية عتيقة. ومنها على سبيل المثال إيمانه بالخروج من غابة القوانين إلى قوانين الغابة كحل عملي لبعض المعضلات الدولية التي تنامت نتيجة لما يعرفه العالم اليوم ويعانيه من السياسات شبه المتضاربة للولايات المتحدة نفسها.

وليس أدل على هذا من قوله بحق أميركا في بترول العراق من باب أنه "غنيمة حرب" مع أن أحدا في أميركا كلها لم يقل أبدا إن الحرب في العراق كانت تستهدف اغتنام ثرواتها ولا استعمارها. حتى وإن كان هذا قد حدث. ومع ما هو معروف من أن الوجود العسكري الأميركي في العراق قد مثل أكبر "إقلاق" واستنزاف لأميركا.

ومع أن الخطاب السياسي لترمب في مثل هذا التوجه يبدو مختلفا تماما عن الخطاب الأميركي الذي التزم به كل أسلافه فإن المفارقة تكمن في أن الرئيس باراك أوباما هو أقرب هؤلاء الأسلاف إلى ترمب في مقتضى ما عبر عنه هذا الخطاب من ترتيبات أو أولويات السياسات ومآلاتها كما في بعدها عن المنطق القويم وانتهاجها أو تبنيها لكود مختلف من المعايير الأخلاقية والإنسانية.

وليس من باب المبالغة أن نقول إنه كان من الواضح أن الكود الاخلاقي للسياسة الأميركية الخارجية قد أصيب بهزة كبيرة منذ وقع الانقلاب العسكري المصري، ونال ما نال من تواطؤ أميركي مشبوه وصف في البداية بأنه غير مفهوم أخلاقيا وإن كان قد تم استيعاب جوهره بعد شهور قليلة. من خلال ما تفلت أو تسرب تباعا على لسان جون كيري.

كان من الواضح أن الكود الاخلاقي للسياسة الأميركية الخارجية قد أصيب بهزة كبيرة منذ وقع الانقلاب العسكري المصري، ونال ما نال من تواطؤ أميركي مشبوه وصف في البداية بأنه غير مفهوم أخلاقيا وإن كان قد تم استيعاب جوهره بعد شهور قليلة

وسرعان ما أصبح النسق الشائك في المقاربة الأميركية للأزمة السورية مفهوما من الوجهة البراغماتية المستترة نوعا ما، وذلك في ضوء التوجه الخفي ثم العلني نحو التصريح بالعداء المكثف للإسلام (ومن ينتمي إليه حتى بالدفاع المنطقي) ثم الحرب الجادة عليه، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح فيما اتخذته حكومة الولايات المتحدة من ترتيبات سلبية تجاه الممارسات المعادية للديموقراطية في اليمن وليبيا على حد سواء.

لكن هذا الافتراق البالغ حد التناقض المطلق بين الأخلاق المتزنة يطبعها وبين المصالح المتقلبة بطبيعتها سرعان ما أربك. دون توقع أو تحسب. كل الاستقرارات والتوازنات التي كانت قائمة في المجتمعات الدولية والإقليمية ومساعدة لها على تقبل ناعم واضطراري لكثير من طرز الهيمنة الأميركية.

ولأن وهج الحياة الانسانية وتألق مسارها ينبعث من النتائج المباشرة لتفاعل مبدأي التوازن (أو الاتزان أو الاستقرار) والتجديد (أو التنبيه أو الاستثارة) فإن كل الأمور الخلافية (أو الإشكالية) سرعان ما بدأت تجد نفسها وهي تخضع في تفسيرها في مثل هذه الاتجاهات الديماجوجية التي ظهرت نتائجها المضطربة بوضوح غير متوقع في معركة الاستفتاء على الخروج البريطاني؛ بكل ما أوحت به من رفض جماهير عريضة للانسياق وراء سياسات مرسومة بعناية دون أن تعنى مكوناتها الجوهرية بوجدانيات الجماهير.

ومن العجيب أن سوء حظ أوربا صور لبعض ساستها النافذين من خلال اعتمادهم على الدراسات والمآرب الأميركية أن الربح الآني يكمن مثلا في أن يهدد الإعلام الغربي بتغطياته المتحاملة زعيما ناجحا من طبقة أردوغان إذا لم تقدر الدبابة على إزاحته، وهكذا ظهرت تصرفات ساسة أوربا في صورة مناقضة للمنطق حين أخذت تهدد أردوغان في تركيا في ذات الوقت الذي تهدهد فيه الانقلابي الذي في القاهرة، وهكذا كانت العقلية السياسية الغربية تثبت على نفسها بكل السبيل أنها مع العداء الأعمى لا للإسلام وحده ولكن لحقوق الإنسان ولاستقرار الدول والمجتمعات أيضا.

وإذا بأوروبا دون أن تدري توشك أن تخسر أردوغان وشعبه وقوميته ورجولته وكلمته وجديته. وإذا بها أيضا تسدد معنويا وماديا، مرة بعد أخرى، ثمنا مضاعفا لهدهدتها للانقلابيين. بينما الانقلابيون لا يكفون عن تلويث وجهها وثيابها بل وبطنها وقلبها بالدماء من خلال ما يرتكبون من جرائم أصبحت تمتد إلى المواطنين الأوربيين مباشرة من قبيل ريغيني ومن قبيل حالات كثيرة مشابهة اجتهدت السلطات الأوربية نفسها في التغطية المكثفة عليها في محاولة مؤقتة وممتدة لتأجيل شماتة الديموقراطيين والأخلاقيين.

إن الآلية الأولى للاستعمار القديم العائد بقوة هي توريط الجيوش في السياسة؛ وهي آلية لم تكن في حاجة إلى جهود إستراتيجية أو تعبوية في ظل ما عرف من ميل عسكر العالم الثالث بحكم ظروفهم وبطبعهم إلى تقديس السلطة وعشقها، وتفضيلهم الانشغال المفتعل بالحكم على الانشغال الطبيعي بتوقي الحرب

ومن الطريف في هذه الجزيئة أن الحسابات الغريبة الدقيقة بدأت تشكو من أن القدر في أحيان كثيرة يأبى إلا أن يسير في طريق قويم يصبح معها كل ما يدبره الخلق من شرور كونية جالبا للوبال على كل من يحارب السلام والتعاون الدوليين بالفعل أو القول أو اللسان، ومع هذا فإن الانتباه أو الاتعاظ أو التعلم من التجارب المريرة قد تأخر بأكثر مما يجوز. بل إن هذه الأنساق الفكرية الشريرة قد تدافعت -على النحو المتوالي الذي خبرناه- لتصوغ سياسات توجيهية عامة على هيئة آليات (أو ميكانزمات) تستعين بها الإمبرياليات الجديدة من أجل توليد الثورات المضادة.

وقد لاحظ المراقبون أنه مع تولد الثورات العربية المضادة فإن خطى الانتهازيين والنفعيين تتسارع من أجل مصادرة حركات الجماهير التي وصلت إلى درجة من الوعي لم تعد تسمح لها بالبقاء رهينة لدكتاتوريات محلية لا تستند في وجودها إلا إلى قوة السلاح الذي أعطت نفسها حقا غير شرعي في تحريكه واستخدامه فيما هو محرم بحكم الوظيفة المفترض أن تكون وطنية فإذا بها تتحول رويدا رويدا إلى امتياز فئوي ذي طابع طبقي يريد أن يُتوارث على نحو أو آخر.

وقد أصبحت هذه الآليات الجديدة قابلة للتأصيل (والتنفيذ) على أنها إستراتيجيات أميركية على نحو أو آخر.

وعلى سبيل التأكيد فإن الآلية الأولى للاستعمار القديم العائد بقوة هي توريط الجيوش في السياسة. وهي آلية لم تكن في حاجة إلى جهود إستراتيجية ولا تعبوية في ظل ما عرف من ميل عسكر العالم الثالث بحكم ظروفهم وبطبعهم إلى تقديس السلطة وعشقها، وتفضيلهم الانشغال المفتعل بالحكم على الانشغال الطبيعي بتوقي الحرب.

ولا شك في أن غواية السلطة بجاهها ووجاهتها ومخصصاتها كفيلة بأن تهيء بل أن تعزف موسيقى نفسية وعقلية متجاوبة مع إغراءات الأميركيين غير المباشرة بالتفكير في الاستحواذ على السلطة مادام هناك عسكريون قرب نهاية عمر خدمتهم الوظيفية يحسون بعمق بكراهيتهم للتقاعد وما يصحبه من انخفاض الدخل (بلا مبالغة) إلى أقل من واحد على عشرين من مخصصاتهم التي يحصلون عليها في سنواتهم الأخيرة من خدمتهم العسكرية.

وربما يسهل على كل إنسان طبيعي أن يتصور الفارق الشاسع في الثروة والممتلكات بين مدير السلاح السابق الذي خرج إلى التقاعد قبل الانقلاب وبين زميله التالي له في تولي منصب مدير نفس السلاح الذي شارك في الانقلاب بحكم الزمن(قبل أن يشارك بحكم الاقتناع).

أما الآلية الثانية للاستعمار القديم العائد بقوة فهي توظيف الإعلام إلى أقصى الحدود في صناعة البلبلة الفكرية (والتفكيرية بل والتكفيرية) في كل طرح سياسي أو تنموي.

تحول الإعلام "الوطني" في ملكيته الدفترية إلى إعلام خاضع تماما لسيطرة الشركات أو الكيانات العابرة أو المتعدية للجنسيات من خلال سيطرتها المباشرة على التمويل بل والتأسيس؛ ومما يؤسف له أن هذه السيطرة في حقيقتها وفي كليتها سيطرة مباشرة وصريحة

وقد لقيت هذه الآلية المصادفة المواتية من بلوغ الإعلام الخاص مرحلة المراهقة؛ وهي مرحلة حتمية في مسار ذلك النمط الجديد من أجهزة صناعة الوجدان في بلدان نامية لم تنضج بعد آلياتها القادرة على استكشاف مكامن الخطر وعلى استشراف منابع النصر.

وقد كان هذا المعنى واضحا في وسائل الإعلام التي دعمت أميركا وجودها منذ مطلع الألفية الثالثة في أطر مختلفة كان منها على سبيل المثال برنامج دعم الديموقراطية.

وهكذا تحول الإعلام "الوطني" في ملكيته الدفترية إلى إعلام خاضع تماما لسيطرة الشركات أو الكيانات العابرة أو المتعدية للجنسيات من خلال سيطرتها المباشرة على التمويل بل والتأسيس؛ ومما يؤسف له أن هذه السيطرة في حقيقتها وفي كليتها سيطرة مباشرة وصريحة، ولم يحدث أن تنازلت لتكون سيطرة غير مباشرة.

أما الآلية الثالثة للاستعمار القديم العائد بقوة فتتمثل في استثارة "المعارضة التشريحية"؛ وهو مصلح جديد يصف حالة لم توصف توصيفها الصحيح حتى الآن. فكما أن المعارضة الوظيفية تنبني على تقييم الفكر والأداء فإن المعارضة التشريحية تستند إلى استدعاء الانتماء بمعناه العرقي لا الفكري.

وتتأسس هذه الآلية من خلال برامج تعبوية محمومة تسعى بوضوح إلى توظيف الإحساس بالتهميش أو التغييب عند الأقليات العرقية في الأساس أو الجغرافيا سكنا أو استيطانا. بل إن هذه البرامج والخطط قد تمتد إلى الأقليات داخل كل مهنة؛ وهي آلية كفيلة بانتقاص وتمزيق روح النسيج الواحد، ومن ثم إفشال وظيفة الأعضاء الحيوية في كل جسد وطني أو قومي.

ومع أن معظم مقومات الأداء المهني في البلدان النامية قد تجاوزت الانحصار في مثل هذه المرحلة إلى الانعتاق منها فإن ضيق ذات اليد (أو تضييق ذات اليد من خلال خفض قيمة العملة الوطنية على سبيل المثال) لا يزال بمثابة وسيلة كفيلة بأن تروي وتنعش هذه الميول الكامنة وتبرزها لتسيطر على المشهد العام. وبخاصة في ظل ما يرافق هذا من انحياز انقلابي أعمى ومقصود إلى سياسات خلق طبقات مميزة مع إضفاء أسماء خادعة وضالة ومضللة عليها.

ويتحقق هذا على سبيل المثال أيضا من خلال وسائل مناقضة كاللجوء المعتاد أو التقليدي إلى استخدام تعبير "جهة سيادية" لتجنب ذكر تعبير آخر كان الإعلام الناصري هو الذي تولي تشويهه وتقبيحه للجماهير (المخابرات) مع أن المفارقة تكمن في أن الولايات المتحدة الأميركية لا تخفي اسم وكالة المخابرات المركزية ولا تتجنبه بل تذكره بفخر وشموخ على الرغم من كل الأساطير والحقائق التي تؤكد أبوة هذه الوكالة لمعظم الشرور في العالم منذ نشأتها وحتى نهاية التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.