الاستبداد المستحيل

جانب من احتجاج ضحايا الثورة التونسية/العاصمة تونس/يناير/كانون الثاني 2016 مصدر الصور:خميس بن بريك-تونس

يمكن تلخيص فكرة هذا المقال برسالة متخيلة إلى الحكام صادرة من الشعوب العربية، بلغة شركة الاتصالات: عزيزي الحاكم: بخصوص الباقات السياسية التي تستخدمونها، نود إعلامكم بأنه تقرر وقف العمل بـ "باقة الاستبداد اللامحدود".

(1)

من وجهة نظري، تغير الوضع المجتمعي العربي بحيث لا يمكن للحكومات العربية أن تديره بذات القدر من الاستبداد، كما ونوعا، كما كانت تفعل في العقود الماضية. وهذا ما دعاني لإيجاد مفهوم جديد للتعبير عن هذه الفكرة. إنه مفهوم "الاستبداد المستحيل". لم يعد بالإمكان الجمع بين حكم الدولة والاستبداد اللامحدود (وهنا ربما يستدعي البعض منكم المفهوم الذي اقترحه وائل حلاق للتعبير عن استحالة الجمع بين الدولة الحديثة والتشريع الإسلامي، وهو مفهوم "الدولة المستحيلة". وهو استدعاء في محله).

ليس من السهل التدليل العلمي على فرضية الاستبداد المستحيل، ولا يزعم هذا المقال أنه يقدم إطارا استدلاليا مكتملا لها. الهدف منه طرح هذا المفهوم بشكل أولي، مع إيجاد بعض الشواهد الداعمة، بقدر ما يتيحه سياق مقال مختصر.

مع أهمية البرهنة على الفرضيات والأفكار التي تقف وراء ابتكارنا لمصطلحات جديدة، أشير إلى قناعتي بأن كثيرا من المصطلحات تروج في الوسط المجتمعي لا بسبب قوة البرهنة المفاهيمية والعلمية، وإنما لأن هذه المصطلحات أفلحت في التعبير عن جوانب جوانية يشعر بها الناس، مع عدم قدرتهم على نقلها بقوالب لغوية دقيقة محددة، فيتطوع هذا المصطلح أو ذاك للتعبير عما يختلج في عقول الناس ومشاعرهم، ويكتسب المصلطح "كاريزما مجتمعية"، فيشيع المصطلح بذلك ويروج (وهذا مقوم رئيس من فعالية المصطلح).

لماذا أقول مثل هذا الكلام؟ لأنني أميل إلى أن "الاستبداد المستحيل" قد يكون داخلا في منظومة المصطلحات المتطوعة للتعبير عن المكنونات الشعبية في هذا الزمن العربي البائس. هذا مجرد احتمال، لا أكثر. والآن دعونا نقدم بعض الحيثيات والمسوغات والإيضاحات من خلال الإجابة المقتضبة على خمسة أسئلة محورية.

(2)

1- ما هو الاستبداد اللامحدود؟
إنه الاستبداد الشامل، المعطل للحريات العامة والمشاركة الشعبية
وبرامج الإصلاح من جهة، والمحرك لتروس الفساد والإفقار والتفاوت الطبقي من جهة ثانية. في الاستبداد اللامحدود، يضمن الحاكم لنفسه القوة المطلقة الخالصة في التحكم في كل شيء أو في أكثر الأشياء دون رجوع للناس أو للأطر التشريعية المقرة، فهو فوق الناس والقانون. في الاستبداد اللامحدود يضمن الحاكم لنفسه الفخامة والرفاهية المتناهيتين في المسكون والمطعوم والمركوب والملبوس والمستثمر والمدخر، ولو كانت على حساب أقوات الناس ومعاشهم، في سلوك تراكمي تجميعي للنفوذ والثراء المتغولين. على أن هذا الاستبداد يقدم مقابل هذا الجور والتعسف والإذلال والإقصاء ما يعده كافيا للشعب، وهو الاستقرار والأمن، مع فتات حريات وموارد وخدمات وعمل وترفيه ونحو ذلك من بقية الفتات.

(3)

2- ما الجرعة المقبولة من الاستبداد في المستقبل؟
مفهوم الاستبداد المستحيل يعني ضرورة الانتقال إلى أطوار مخففة من الاستبداد المحدود. وهو ما يعكس "الاستبداد الممكن". القول بالاستبداد الممكن، يعني أن هذا المفهوم يجافي الأحلام الوردية بإمكانية الحكم الديموقراطي في العالم العربي في هذا الوقت، باستثناء الدول التي يقرر حكامها صناعة لحظات تاريخية فارقة. يبقى هذا السيناريو محتملا، ولا يمكننا استبعاده، وبخاصة أن ثمة دولا عربية قطعت شوطا جيدا من الإصلاح السياسي والتطوير التنموي، على أرضية فيها قدر من الصلابة والقبول المجتمعي.

تختلف الجرعة المقبولة مجتمعيا من الاستبداد في المستقبل من دولة إلى أخرى. ولا يمكن لنا إعطاء توصيفات معممة لكافة المجتمعات العربية، لوجود تفاوت جوهري في عدد من العوامل المؤثرة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. وهي عوامل بالغة التعقيد.

(4)

3- كيف ستقاوم الشعوب الاستبداد اللامحدود؟
كما أن الجرعات المقبولة مجتمعيا من هذا الاستبداد تختلف من دولة إلى أخرى وفق عوامل معقدة، فإن شكل مقاومة الاستبداد تختلف هي الأخرى، إذ قد تتراوح من حراك نفوري مشاعري، مرورا بحراك شعبي احتجاجي، وصولا إلى حراك شعبي ثوري. وهنا يكمن الخطر. وعلى أي اتجاه كان الحراك، سيكون ثمة تأثير على الاستقرار الاجتماعي في هذه الدول التي تحكم بهذا النوع من الاستبداد، بمقادير مختلفة (سأفصل في هذه المسألة في السؤال الخامس).

(5)

4- أليس في هذا تقليل من شأن أهمية الاستقرار الاجتماعي في نظر الشعوب؟
الاستقرار الاجتماعي له أهمية قصوى لدى الشعوب، وذلك أنه يقدم ضمانات لحماية الناس، أرواحا وأعراضا وممتلكات. هذه قضية لا جدال حولها. ربما يتوهم البعض أن الحراك الشعبي المؤثر على الاستقرار الاجتماعي لا يمكن أن يحدث في المجتمعات العربية الغنية. لماذا؟ لأنهم لا يريدون التفريط بالوضع الجيد الذي يعيشونه مقارنة بالمجتمعات الفقيرة. هكذا، يفكر بعض الناس. وأنا أقول بأن هذا الرأي غير صحيح. لماذا؟ لأن كل قدر يسخن بالنار الذي تحته، وإن طال الزمن. ولكي أدلل على صحة ذلك، أعرض هاتين الصورتين المتقابلتين:

الصورة الأولى: عائلة فقيرة، تعرّض أحد أفرادها لظلم أسود ممتد من قبل أخيه، مما دفعه للانتقام منه بطريقة أو بأخرى. زج به إلى السجن، ودمرت حياته، وتأثرت حياة العائلة بهذه الماسأة.

الصورة المقابلة: لو افترضنا أن ذات الشيء حدث في عائلة غنية مترفة، هل يمكن لأحد أن يقول بأن المظلوم سيسكت هذه المرة لأنه لا يريد خسارة ما هو فيه من النعيم والرخاء؟ التاريخ والواقع يقولان: لا. في العادة، لن يسكت، لأن الشعور بالظلم لا تطيقه النفوس السوية ولا تحتمله، بغض النظر عن الخسارة المحتملة أو المؤكدة للمال والجاه والنفوذ.

(6)

5- لماذا لم يعد يسع الحكام استخدام باقات الاستبداد اللامحدود في المستقبل؟
هذا من أصعب الأسئلة، ويحتاج إلى تعمق وتفصيل كبيرين. لنضع بعض الحيثيات:

– حقبة 2011 (الربيع العربي) أبانت بأن الشعوب العربية عانت الظلم والإفقار والتهميش، وأخرست أحلامَها وعطّشت رغباتها، ورضعت الحلم والتجلد لعقود. غير أن الوضع يبدو متغيرا بعد هذه الحقبة التي أحدثت تغييرات بنيوية في الأفكار والتوجهات للمواطن العربي، وارتفعت سقوف الأحلام والتطلعات. والتدخلات الخارجية في الدول العربية لها تأثيرها في هذا المجال، سواء في الأطر السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو الثقافية أو التشريعية.

– الثورة المعلوماتية، أتاحت كل شيء للمواطن العربي، حيث تعرّف على الأداء السياسي والمنجز التنموي في الدول الديموقراطية، وكيف يتم تحقيق المطالب الشعبية والاحتياجات المجتمعية بأكبر قدر ممكن من العدالة والحريات والتكريم للشعوب. هذه المعلومات من شأنها تأسيس "العقلية المقارِنة"، فالناس يميلون إلى مقارنة الأشياء في بلدهم بما يحدث في البلدان الأخرى التي يعتقدون أنها تشاركهم في بعض السمات والخصائص (بغض النظر عن دقتهم في ذلك).

– بانتشار استخدام الأجهزة الذكية بات المواطن العربي البسيط على مرمى شاشة من خبر صاعق بفساد هنا وفساد هناك، وتفتحت عقول الناس على حجم مهول من الفساد الكبير (المالي والإداري والقانوني والإعلامي)، واتضح لهم أن كثيرا من الوعود الإصلاحية ليست أكثر من مجرد مشاريع جزئية صغيرة على أحسن الأحوال، وقد تستهدف كسب الوقت أو تهدئة النفوس المشتعلة، مع غلبة تحقيق مصالح سياسية ضيقة للحكام أنفسهم.

– الفشل المتكرر للسياسيين في تحقيق الإصلاح الجوهري ومجابهة الفساد بشكل جاد، يؤدي إلى حالة يمكننا توصيفها بغياب أو حتى موت القدوة الإصلاحية في البلد، مما يورث فئات مجتمعية عريضة يأسا وإحباطا ينعكسان على نفسياتهم، حيث تطفح بالخيبة والتشكيك في أكثر الوعود والمشاريع الرسمية، من جهة النوايا والأهداف والمخرجات والمنافع.

– قد لا يقتصر الأمر على الإحباط، إذ قد يصل إلى ما أسميه بـ "الاحتباط"، وهو: "اجتفاف" الأمل في العقول وتيبس الفأل في النفوس. إنه موت دماغي للأمل الإصلاحي. وقد يحمل الاحتباط من ثم بذور حياة لنوع آخر من "التفكير العدمي"، يصل به الإنسان العربي إلى نتيجة مدمرة، وهي: استحالة الإصلاح السلمي التدريجي، مما يوقعه في أحابيل التغيير بالقوة، بما في ذلك الانجرار وراء شعارات جماعات العنف والإرهاب، أو السقوط في براثن ما أصفه بـ "الثورة الماحقة" والتي تشير إلى أي حراك احتجاجي شعبي فوضوي تقويضي للدولة القائمة على الاستبداد والفساد والظلم، دون "رؤية ناضجة واقعية" لإقامة الدولة الجديدة على أسس سليمة، وباختصار هي: شراكة فوضى وخراب. (انظر مقالتي المعنوتين بـ: الاحتباط .. موت دماغي للأمل الإصلاحي؛ الثورة الماحقة، منشورتان في موقع الجزيرة نت).

هذا بيان مختصر لما أقصده بالاستبداد المستحيل، ولعل هذا المفهوم يسهم في المراجعة والتصحيح من قبل الساسة العرب الذين يحكمون بلادهم بباقات من الاستبداد اللامحدود، فيتأملوا في مدلولاته ومآلاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.