لماذا أخطأت استطلاعات الرأي بانتخابات أميركا؟

استطلاعات حول المناظرة تعتبر كلينتون أفضل من ترامب

الانتخابات الأكثر إثارة
بين الاستطلاعات والنتائج
لماذا فشلت استطلاعات الرأي؟

رغم أن استطلاعات الرأي في الانتخابات الأميركية لها إرث طويل من الدقة والثقة ولم تفشل إلا نادرا منذ أكثر من سبعة عقود فإن الانتخابات الحالية جعلت بعض مستطلعي الرأي الأميركيين الذين اشترك معهم بمجموعة نقاش متخصصة ضمن عضوية الجمعية الأميركية لاستطلاعات الرأي العام، يترقبون نتائجها عشية الانتخابات بتوجس خاص لاحتمالية حدوث انتكاسة أخرى في تاريخ صناعة استطلاعات الرأي، وهو ما حدث فعلا بعد فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، وهو الحدث الذي ربما تكون الأكثر وجعا وأثرا داخل الولايات المتحدة وخارجها.

هذا المقال يتناول بعض ملامح استطلاعات الرأي في الانتخابات وخصوصيتها في انتخابات الرئاسة الأميركية ومسيرتها بالولايات المتحدة، والمعيطات التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في فهم ما حدث من فشل معظم استطلاعات الرأي الأميركية في التنبؤ بنتائج استطلاعات رأي الانتخابات الأميركية 2016 ، ومحاولة البحث عن مبررات وتفسيرات لهذه "الانتكاسة" ، وفي ثنايا المقال نذكر بعض الدروس المستفادة.

الانتخابات الأكثر إثارة
تعد الانتخابات من أكبر الفرص الذهبية التي ساهمت في نماء مسيرة استطلاعات الرأي، وربما لا نبالغ إذا قلنا إن انتخابات الرئاسة الأميركية هي سبب وجودها، وبقيت مثار اهتمام واستخدام مختلف الفئات من عامة الناس والمرشحين ووسائل الإعلام وغيرها؛ حتى قيل "الانتخابات تجعل استطلاعات الرأي مجنونة" وأكثرها بالطبع انتخابات الرئاسة الأميركية، لدرجة طرح أسئلة افتراضية للعديد من شعوب العالم لمن سيصوتون في حال كان يسمح لهم التصويت بانتخابات الولايات المتحدة.

إعلان
تعد الانتخابات من أكبر الفرص الذهبية التي ساهمت في نماء مسيرة استطلاعات الرأي، وربما لا نبالغ إذا قلنا إن انتخابات الرئاسة الأميركية هي سبب وجودها، وبقيت مثار اهتمام واستخدام مختلف الفئات من عامة الناس والمرشحين ووسائل الإعلام وغيرها

هذا فضلا عن كونها تصبح حديث الناس يتناقلون أرقامها وانخفاضها وارتفاعها، وتغطية الصحافة لها وحتى في يوم الانتخاب تستمر بما يعرف بـ"استطلاع الخروج من الاقتراع".

ورغم هذا الارتباط العميق بين الانتخابات واستطلاعات الرأي فإن الأخيرة أشمل وأكبر من اقتصارها على انتخابات موسمية والنظر لدورها ومدى نجاحها وفشلها في التنبؤ بنتائج انتخابات لها خصوصيتها ومحاذيرها ومخاطرتها مقابل عشرات الاستخدامات والفوائد والتأثيرات التي ليس هنا مكان سردها سواء كانت سلبية أو إيجابية.

ومع ذلك تبقى استطلاعات الرأي في الانتخابات بشكل عام تختلف عن غيرها من أنماط استطلاعات الرأي الأخرى، واستطلاعات انتخابات الرئاسة الأميركية بشكل خاص تختلف أكثر وأكثر؛ فالجميع يترقب نتائجها وتقلباتها أولا بأول وينتظرون نجاحها أو فشلها بفارغ الصبر.

وتختلف استطلاعات الرأي في انتخابات الرئاسة الأميركية هذه المرة أكثر عن غيرها حتى أصبحت حقل ألغام لمستطلعي الرأي؛ زاد من ذلك أن أحد مرشحيها (دونالد ترامب) شخصية مثيرة للجدل، فضلا عن ما اكتنفها من أحداث وفضائح وتكتيكات وما جرى تحت الطاولة وفوقها من ممارسات ما زال يحاول الكثيرون اكتشافها.

مثل هذا الجانب من البيئة المضطربة يجعل من استطلاعات الرأي عملية أقرب للمغامرة، وتصبح أداة قياس الرأي العام عاملا مستقلا يؤثر على عوامل تابعة يضلل ويغرر بالرأي العام بدل قياسه بحسن أو سوء نية، وربما هذا ما دفع البعض للمطالبة بقتل مستطلعي الرأي باعتبارهم من المفسدين للعملية الانتخابية!

ولذا، قد تحجم بعض الجهات الاستطلاعية عن تنفيذ استطلاعات رأي بمثل هذه البيئة، كما حدث حينما رفض مركز الآراء الخليجية إجراء استطلاعات رأي للمرشحين في الانتخابات الأولى لمجلس الأمة الكويتي بعد إقرار قانون الصوت الواحد، وما تبعه من ارتفاع نسبة الناخبين المترددين مع دعوات المقاطعة وتذبذب قرار المشاركة لدى نحو نصف الكويتيين.

إعلان

ومن هذا المنطلق، تجد في العديد من الدول قوانين تمنع تنفيذ استطلاعات الرأي في موسم الانتخابات مع اختلافها بعدد أيام المنع قبل الانتخابات.

لم يكن خافيا أن ثمة خصوصية في بيئة الانتخابات الأميركية هذا العام انعكست على مستطلعي الرأي بطريقة خرجت عن المألوف؛ فعلى سبيل المثال أعلنت "وحدة استطلاعات الرأي في صحيفة الواشنطن بوست" انحيازها لهيلاري كلينتون! كذا بعض وسائل الإعلام الكبرى سواء من يجري منها استطلاعات رأي ومن لا يجري، وهو ما يمكن أن يقود لاحتمالية انحياز غير شعورية لصالح كلينتون مقابل تعميق شعور بعض المشرفين على هذه الاستطلاعات بأن فوز ترامب قد يكون مستحيلا رغم أن بعض الجهات أشارت لتقدم ترامب.

بين الاستطلاعات والنتائج
يجتهد الكثيرون بمحاولة البحث عن تفسيرات لفوز ترامب، وستبقى هذه التفسيرات مثيرة للجدل ومناط اتفاق أو اختلاف، مثل استخدام ترامب لوسائل التواصل الاجتماعي بشكل احترافي لدرجة التأثير والتضليل على الديمقراطيين أنفسهم أو استخدام إستراتيجية التركيز على الولايات الكبيرة، ومدى تأثير الفضائح من الطرفين ولا سيما فضيحة غريمته كلينتون بشأن البريد الالكتروني، والنقاش حول الفرق البسيط في بعض الولايات بين أصوات المواطنين والمجمع الانتخابي وغيرها مما ذكره الكثيرون بعد الانتخابات والقليلون قبلها.

لم يكن خافيا منذ البداية أن ثمة حالة متأرجحة ما بين المغامرة والسخرية من المرشح الجمهوري ترامب، وتفاوت الأمر بين النخب من الأكاديميين والباحثين والمثقفين وبين شرائح أخرى من المجتمع الأميركي لم يكن من السهل إظهار دعمها له مع نماء الصورة الذهنية العنصرية عنه

ويمكن أن نذكر هنا بعضها بما له ارتباط بكيفية تأثيرها على نتائج استطلاعات الرأي حتى في اللحظات الأخيرة التي بقيت أغلب استطلاعات الرأي تظهر تفوق كلينتون.

– لم يكن خافيا منذ البداية أن ثمة حالة متأرجحة ما بين المغامرة والسخرية من المرشح الجمهوري ترامب، وتفاوت الأمر بين النخب من الأكاديميين والباحثين والمثقفين وبين شرائح أخرى من المجتمع الأميركي لم يكن من السهل إظهار دعمها له مع نماء الصورة الذهنية العنصرية عنه بمعاداة الأقليات والأديان والنساء وغيرها، مما يدفع هؤلاء للصمت بالإعلان عن تأييدهم لترامب العنصري أو الجنسي لاحقا ضمن ما يعرف بنظرية دوامة الصمت، حيث يسكت البعض خوفا من مخالفة الأغلبية أو التيار العام ذي الصوت العالي حتى حينما يسألون في استطلاعات الرأي يضطرون للكذب والكشف عن قناعتهم أمام صندوق الاقتراع السري.

إعلان

يبدو أن ترامب أتقن جيدا كيف يخاطب فئة الناخبين الجدد من الشباب، وأكثرهم ينطبق عليهم الميل للمغامرة وتواضع التجربة والثقافة، وحالة الإحباط الاقتصادي والقلق من المستقبل مع ارتفاع وتيرة محاربة الإرهاب، فضلا عن عدم وجود خبرات سابقة لهذه الفئة العمرية تسمح بمعرفه توجهاتهم الانتخابية، ولا سيما أنه لم يكن أكثرهم مشمولا في مجتمع الناخبين بالانتخابات السابقة، ولعلنا نستذكر كيف كانت فئة الشباب البريطاني الأكثر مغامرة لخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.

– كان من حظوظ ترامب الذهبية ضعف منافسته وجنسها، والتي تشكل حالة جديدة على المجتمع الأميركي الذي صعب عليه قبول أن تقوده امرأة، حتى ولو كان بعضه مثاليا حينما أجاب على استطلاعات الرأي بأنه سيصوت لها خوفا من العنصرية ضد النساء! ولعل هذا الحدث أقرب ما يعرف بتأثير "برادلي" حيث يميل الناخبون الأميركيون إلى الكذب على باحثي جمع البيانات باستطلاعات الرأي خوفا من اتهامهم بالعنصرية ضد الأقلية أو فئة من فئات المجتمع، وهو ما حدث تاريخيا مع المرشح الأميركي الأسود توم برادلي حينما خسر أمام منافسه الأبيض الجمهوري جورج دوكمجيان برغم تقدمه في استطلاعات الرأي.

لماذا فشلت استطلاعات الرأي؟
تتعرض صناعة استطلاعات الرأي لتحديات وتهديدات منهجية عديدة لا ننكرها دفعت بعض الجهات الاستطلاعية للتنحي عن تنفيذ استطلاعات رأي في ميدان حساس مثل ميدان الرئاسة الأميركية، وتتنوع هذه التحديات التي من بينها:

– تحدي فهم مجتمع الدراسة والوصول لعينات احتمالية تسمح بوضع المستجوبين في سلة واحدة، ويكون لكل واحد منهم نفس الفرصة لاختيار ما يراه مناسبا في الاستطلاع. وكما تعاني صناعة قياس الرأي من انخفاض نسبة استخدام الهواتف الأرضية الثابتة مقابل ارتفاع تكلفة الوسائل التقليدية مع إغراءات قلة تكلفة الوسائل التكنولوجية والإلكترونية لدرجة دفعت لتأسيس تحالفات بين شركات جمع البيانات الإلكترونية والجهات الاستطلاعية.

إعلان

– في ظل ضعف الاستجابة لأسئلة استطلاعات الرأي وما ينبثق عنه من خطأ عدم الاستجابة ولا سيما في الانتخابات وتحديدا حول السؤال عن اسم المرشح المضل أو لمن ستصوت المستجوب، يصارع مستطلعو الرأي بحثا عن مستجيب، حيث وصل الأمر لدرجة الاتصال على عشرين ألف شخص للحصول على ألف استجابة مكتملة وهو ما يحدث في الولايات المتحدة وغيرها كالكويت خلال المواسم الانتخابية.

سيبقى ما حدث انتكاسة وصدمة لمستطلعي الرأي ليس من أميركا فقط؛ وإنما من كل أنحاء العالم، وهو ما دفع فورا بمنظمة بحوث الرأي العام الأميركية لتشكيل لجنة من الخبراء والباحثين والممارسين وأساتذة الجامعات لدراسة ما جرى تفصيلا ونشر النتائج بشفافية في مايو/أيار 2017

– إن نقل أرقام استطلاعات الرأي دون محاولة تبيان هامش الأخطاء غير خطأ المعاينة الإحصائي والاحتمالات المتوقعة للتأثير على نتائج الاستطلاعات أصبح من أكثر المخاطر التي تحيط بهذه الصناعة ولا سيما باستطلاعات رأي الانتخابات دون غيرها، وهو ما لا يدركه المستطلعون أو ربما لا يرون أنه مطلوب منهم ذكره في التقارير، ومن ذلك إشكالية الفرق بين من قال إنه سيصوت ومن فعلا سيذهب لصناديق الاقتراع، وكم نسبتهم ؟ وما هو حجم الدافعية للتصويت لديهم؟ فالتجارب تقول إن 60% ممن يقولون إنهم سيصوتون يذهب منهم فقط 30 إلى40% لصناديق الاقتراع، وهو ما يحدث أكثر عندما يكون مناصرو أحد المرشحين من المؤيدين "الباردين" كما هي عادة الديمقراطيين مقارنة بالجمهوريين وما يمكن أن يكون قد حصل مع كلينتون.

وفي هذا السياق يقوم مستطلعو الرأي بتحدي قياس ومعرفة هذه النسبة وحقيقتها يوم الانتخاب أو حتى مدى مهنية ذكرها في تقارير استطلاعات الرأي لضبط قراءة أفضل للنتائج، وهو ما رأيت نفسي أقوم به في استطلاع رأي للشباب الأردني عن مشاركتهم في الانتخابات البرلمانية السابقة تحت عنوان "هل فعلا سيذهب الشباب الاردني لصناديق الاقتراع"؟

– ومما يرتبط بما سبق، عدم تنبه مستطلعي الرأي لمدى احتمالية تأثير الثقة الزائدة بنجاح كلينتون في استطلاعات الرأي على تقاعس الناخبين المناصرين لها باعتبارها العربة الفائزة واعتبار دونالد ترامب الخاسر، وهنا تصبح استطلاعات الرأي التي أكدت فوز كلينتون أحد أسباب فشلها، وهذا ما كتبته شخصيا قبل أسبوع من موعد الانتخاب.

إعلان

سيبقى ما حدث انتكاسة وصدمة لمستطلعي الرأي ليس فقط الأميركيين، وإنما من كل أنحاء العالم، وهو ما دفع فورا بمنظمة بحوث الرأي العام الأميركية بتشكيل لجنة من الخبراء والباحثين والممارسين وأساتذة الجامعات لدراسة ما جرى تفصيلا ونشر النتائج بشفافية في مايو/أيار 2017.

والأهم من ذلك أن هذه ليست المحطة الأولى في إخفاقات استطلاعات الرأي بهذه الصورة فقد سبقتها محطة عام 1948، وكان من إيجابياتها إحداث تغييرات جذرية في طريقة تنفيذ استطلاعات الرأي من حيث التقنيات والعينات وسبل التعرف على الناخبين المحتملين والمترددين وعرض الأخطاء بشفافية في اللقاءات المتخصصة، حتى تمت استعادة ثقة الجماهير وتثقيفهم وصولا لمرحلة الاعتراف الشرعي باستطلاعات الرأي وتجاوز الإخفاقات النادرة مع استذكار مسيرة حافلة من نجاحات لا تخفى على المتتبع لمسيرتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان