السعودية بين البناء الإقليمي والخيارات الدولية
بوادر الفوضى في البناء الإقليمي
تفعيل الاستنزاف
الخيارات الإقليمية والدولية
لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم أن الخليج العربي مقبل على تحولات جذرية بدأت طلائعها تتشكل منذ العشرية الأخيرة للقرن المنصرم لكنه بقي خلال كامل منتصف القرن الماضي وبداية هذا القرن بمنأى عن الهزات العنيفة الكبرى التي طالت دولا ومجالات عربية أخرى في الجوار الإقليمي المباشر أو في بقية الأجنحة العربية ولو بشكل نسبي.
هذا المكون الخليجي بقلبه السعودي يمثل اليوم هدفا معلنا لكثير من المشاريع الإمبراطورية بدءا بتعديل المشروع الأميركي القديم وصولا إلى المشروع الروسي الناشئ مرورا بالمشروع الصفوي والمشروع الصهيوني. لكن مهما اختلفت مضامين المشاريع الاستعمارية فإنها تدرك جميعا عبر استهداف الخليج العربي والتحرك على تخومه أنها تستهدف الحاضنة المركزية للأمة ونواتها الصلبة الأخيرة.
بوادر الفوضى في البناء الإقليمي
منذ نهاية الحرب الكبرى الثانية واستقرار التقسيم العالمي لمجال النفوذ الدولي بين القوى المنتصرة على ألمانيا النازية وحلفائها ومنذ مجموع الاتفاقيات التي أبرمت لتقسيم المنطقة العربية من جديد برزت الإمبراطورية الأميركية كوريث غير مباشر للقارة الأوروبية العجوز في العالم وكذا عبر مستعمراتها.
استقرت الإمبراطورية الأميركية في منطقة المشرق العربي وحول موطن الطاقة الأهم في العالم وعقدت مع المملكة تحالفا ضمنيا يسمح للسعودية بحماية نفسها من المحيط الإقليمي ذي التغلغل السوفياتي ويمكّن الولايات المتحدة من التحالف مع أكبر مصدّر للطاقة في العالم. صحيح أن نعت "التحالف" قد يبدو مضللا بحسب حجم الدولتين صناعيا وماليا وعسكريا لكن لا يجب أن نغفل أن بلاد الحرمين بقطع النظر عن مخزونها "الطاقي" الهائل فهي تمثل وجهة مقدسة لمئات الملايين من المسلمين في العالم مما يجعل لها وزنا دوليا لا يستهان به.
نجحت السعودية كثيرا لكنها أخطأت أخطاء بالغة بشكل ساهم في خلل البناء الإقليمي الذي تعيشه المنطقة عربيا وخليجيا عبر تهديدات الفوضى المتمددة في كل مكان وخاصة في أطراف المنطقة الخليجية نفسها. نجحت السعودية في حماية أمنها الداخلي وفي حماية البيت الخليجي وحماية الكثير من الأنظمة العربية الرسمية في محاولة منها للحد قدر الإمكان من الفوضى ومن تمددها ولو كان ذلك على حساب بعض المطالب الشعبية الملحة أحيانا.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وبقاء الشرطي الأميركي وحيدا في المنطقة ارتفع منسوب الشهية الأميركية لمصادر النفط وتقرر خوض حرب إقليمية جديدة تضع عبرها الولايات المتحدة يدها العسكرية مباشرة على الحقل النفطي الأكبر في المنطقة وكانت حرب الخليج الأولى والثانية. صحيح أن مصيدة الحرب قد حيكت بشكل فائق الدهاء أميركيا لكن قابلتها غفلة عربية نادرة سمحت بسقوط البوابة الشمالية للأمة أمام الأطماع الفارسية وسمحت كذلك بنشأة البؤرة الأولى للفوضى التي تلتهم المنطقة اليوم أو تكاد.
قادت المملكة يومها ما سمي بمحور "الاعتدال العربي" مقابل محور "المقاومة" الذي تبنته سوريا وحلفاؤها لكن ما من أحد يومها كان يدرك أن "محور المقاومة" لم يكن غير حصان طروادة الإيراني في قلب البيت العربي وفي أروقته الخليجية.
ثم حتى محور الاعتدال نفسه بانَ محورا مزيفا لأنه ظهر اليوم ـومع تحالف العسكر المصري مع المشروع الروسي الإيراني في سورياـ أن النظام العسكري الانقلابي لا يمكن أن تكون حليفا إلا لمصالح المجموعة الاستبدادية الحاكمة وأن مواقفها معروضة للبيع والشراء لمن يدفع أكثر.
الانقلاب المصري على الرئيس الشرعي محمد مرسي ـمهما كان موقفنا منه ومن جماعة الإخوان المسلمين ـ إنما كان مدشنا لأكثر المراحل خطورة في تاريخ الأمن الخليجي وأمن المملكة السعودية بشكل خاص. وليس التمدد الإيراني والصلف الروسي وكل الجرائم التي ترتكب اليوم في حق الأبرياء إلا نتيجة غير مباشرة لسقوط الثورة المصرية بين براثن الانقلاب الدامي الذي أخرج مصر من المعركة وجعلها نزيفا لا يتوقف عربيا وخليجيا.
تفعيل الاستنزاف
لقد أزاح ربيع الشعوب العربية الكثير من الزيف عن مكونات المشهد وعن دور الفواعل فيه. فعندما سقطت المكونات الثابتة لفعل الاستبداد تحركت القوى الدولية الراعية لهذه المكونات من أجل إعادة الوضع إلى ما كان عليه مثلما تفعل روسيا وإيران في سوريا أو أميركا وإسرائيل في مصر أو فرنسا وأوروبا في ليبيا.
الخليج العربي مصدر من مصادر الثروة في العالم وفي المنطقة بسبب موارده الطبيعية الضخمة وقلة عدد سكانه وهو بذلك وبغيرها من الخصائص قادر على التحول سريعا جدا إلى محور فاعل وقوة مركزية في المنطقة. لذا تعمل كل القوى الإمبراطورية على استنزافه ماديا لإنهاكه ومحاصرته وليست صفقات الأسلحة الضخمة إلا جزءا من هذا الاستنزاف الذي يعطل المشاريع التنموية والانطلاقة الصناعية الحقيقية لدول الخليج العربي بشكل يسمح لها بتحصين علمي وتكنلوجي داخلي هو الحل الوحيد لكل مشاكلها.
صناعة الفوضى المتمددة على أطراف المشرق العربي وفي جواره الإقليمي المباشر هي جزء من عملية الاستنزاف هذه سواء في العراق أو في سوريا أو في اليمن أو في مصر.. حيث تحولت هذه الدول إلى عبء ثقيل جدا تنوء بحمله السعودية وكامل منطقة الخليج.
فعشرات المليارات من الدولارات التي ضُخّت في الخزينة المصرية لم تمنع انهيار الجنيه ولا انتشار الفساد بشكل مرعب ولا مكنت من تعافي الاقتصاد حيث تحول مصطلح "الرز الخليجي" إلى ذهنية خاصة لكيفية تصور النظام العسكري الانقلابي للمعونات الخليجية باعتبارها سلعة استهلاكية لا غير.
الجبهات المفتوحة عسكريا واقتصاديا وماليا تمثل اليوم أخطر الأوعية التي تستنزف المصادر المالية لدول مجلس التعاون يضاف إليها ظرف اقتصادي عالمي متأزم بفعل انعدام استقرار الأسواق المالية وانهيار أسعار النفط والمواد الأولية.
الخيارات الإقليمية والدولية
لا يستطيع أحد أن ينكر أن تحولا كبيرا في العلاقات الأميركية الخليجية بصدد الخروج إلى العلن وخاصة علاقة المملكة العربية السعودية بالإمبراطورية الأميركية، وليس "قانون جاستا" الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الأميركي بإجماع شبه كامل إلا مؤشرا صارخا على تحول عميق في السياسة الدولية تجاه المملكة.
كثيرة هي الخيارات الإقليمية والدولية التي تسمح لدول الخليج بالخروج من عين العاصفة واستعادة زمام المبادرة إقليميا ومحليا ودوليا، ولا شك أن أولى أولويات النظام الخليجي هي إعادة ترتيب البيت الداخلي بشكل يوحد قراره ويمنع الخلافات التي عصفت بالقدرات الخليجية منذ عقود ولا تزال خاصة من جانب القوى والأجنحة الداعمة للانقلابات والمساهمة في نشر الفوضى. دعم الانقلابات كان بحجة واهية وهي أن التغيير القادم ليس في صالح منظومة الحكم الخليجية في حين أن السؤال الحقيقي الذي لا يريد أحد من أصحاب القرار السياسي في الخليج طرحه هو التالي: كيف نستبق التغيرات الاجتماعية والمطالب الشعبية المشروعة ونجعلها في صالح المنظومة الخليجية ككل بما فيها منظومة الحكم السياسي؟
إن حاجة دول الخليج إلى حزام إقليمي صلب يُوجب أن يكون الملف المصري من أولى أولوياتها خاصة بعد وقوعها في مصيدة الانقلاب العسكري الذي تحول نزيفا داميا في الخاصرة الخليجية عسكريا وماديا ودبلوماسيا.
من جانب آخر يطرح على دول الخليج إعادة بناء العلاقات الخارجية بشكل صارم لا يقوم على مبدأ السخاء المجاني والصفقات العسكرية المفتوحة بل يقوم على شروط محددة تضع مسألة إنهاء الفوضى الإقليمية على رأس أولوياتها ولا يكون ذلك إلا بتوسيع دائرة التحالفات الدولية بالتوجه نحو آسيا بدل التعويل على الحلفاء القدامى الذين لا تنتهي أطماعهم إلا بالإجهاز على البقرة نفسها.
ثم إن إعادة صياغة المنوال الفكري والعقائدي للأمة بالسعي إلى تجميع القدر الممكن من الأطراف الفكرية والعقائدية والسياسية مهما بلغ حجم الاختلافات والتناقضات معها صار اليوم حاجة ملحة لأن تحديات المرحلة تستوجب التغاضي عن كل الخلافات والصراعات السابقة بما في ذلك المتعلقة بجماعة الإخوان المسلمين.
تستوجب المرحلة كذلك إعادة النظر في السياسة الإعلامية الخليجية التي لم تحقق ـباستثناء قناة الجزيرةـ اختراقا دوليا وإقليميا يُذكر رغم مواردها الضخمة بل الأدهى والأمرّ هو أن الكثير من هذه المنصات يعمل ضد المصلحة السعودية المباشرة بشكل يبعث على الحيرة والشك في سلطة القرار السياسي على الأذرع الإعلامية التي يمولها.
بكل هذا وعبر إعادة صياغة المنظومة الاجتماعية والتربوية للعمل ولمفهوم الإنتاج والمردودية بشكل يقطع مع التصور الريعي للعمل ولمفهوم الربح يمكن فعلا لمنطقة الخليج العربي تجاوز التهديدات التي تتربص بها وتحويلها إلى عناصر قوة داخليا ومحليا ودوليا.
إنّ ردود الأفعال المتشنجة والظرفية أو العمل بنفس العقلية ونفس الآليات ونفس النسق في مناخ متغير إنما يتسبب عادة في إخفاقات لا تغتفر بل تكون كارثية عادة. لا نقصد بذلك تغيير الثوابت أو مسّ الأسس الصلبة للدولة والمجتمع لكن نقصد به التأقلم السريع مع المتغيرات المتعاقبة التي تعرفها المنطقة.
لقد كشف ربيع الشعوب حجم الخلل في البناء العربي كما عرّى زيف الكثير من المكونات المتعلقة بدور النخب وبدور الإعلام وبدور المقاومة والممانعة.. وهو مكسب جليل يؤسس لوعي جديد لن يكون كسابقه وليس ما تنشره قوى الاستعمار العالمي والإمبراطوريات المرتبطة بها مشرقيا ومغربيا عبر الفوضى والإرهاب الصناعي إلا استباقا لهذا الوعي حتى لا تمتد جذوره إلى الأرض فتذهب بكل أطماعهم التوسعية صهيونيا وصفويا وروسيا وأميركيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.