توجيه الشرق الأوسط إلى المستقبل
يتوالى ظهور التكنولوجيات الجديدة بسرعة كبيرة إلى الحد الذي يجعل المجتمعات في الشرق الأوسط تواجه صعوبة كبيرة الآن في التعامل مع التأثيرات المترتبة عليها. فمن خلال التأثير على كل شيء، من طبيعة العمل إلى المغزى من كوننا بشرا، قد تصبح التغيرات التكنولوجية مُحيِّرة ومُربِكة إذا لم نتعاون على فهمها وإدارتها.
في مختلف أنحاء العالم، تجري إعادة تعريف صناعات بالكامل وخلقها من الصفر، بفعل التطورات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والمركبات الذاتية القيادة، والطباعة الثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم المواد، وتخزين الطاقة، والحوسبة الكمية.
وقد أطلقنا نحن في المنتدى الاقتصادي العالمي على هذه الموجة من الإبداع وصف "الثورة الصناعية الرابعة"، لأنها تعمل جوهريا على تغيير الطريقة التي نعيش بها ونعمل ونتواصل بها مع بعضنا بعضا. وسوف تستشعر القاهرة، ودبي، والرياض هذه التغيرات بنفس القدر الذي تستشعره بها نيويورك، وفرانكفورت، وهونغ كونغ.
كانت تكنولوجيات جديدة مثل المحرك البخاري ومغزل القطن سببا في اندلاع الثورة الصناعية الأولى التي كانت مصحوبة بتطورات سياسية اجتماعية تاريخية مثل التوسع الحضري، والتعليم الشامل، والزراعة المميكنة.
وبفضل الكهرباء والإنتاج الضخم، قَدَّمت الثورة الصناعية الثانية نماذج اجتماعية وأشكال عمل جديدة تماما. ومع قدوم التكنولوجيا الرقمية والاتصالات الفورية، نجحت الثورة الصناعية الثالثة، التي توالت فصولها على مدى العقود الخمسة المنصرمة، في جعل كوكب الأرض كتلة مترابطة وتقليص الزمن والمكان.
ولن تكون الثورة الصناعية الرابعة أقل تحويلية: فسوف تكون التكنولوجيات الفردية مؤثرة، ولكن التغيرات التي ستشهدها أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية ستلعب دورا أكبر في تشكيل حياتنا في المستقبل.
في هذه المرحلة، لن نجد إجماعا على قضايا أساسية مثل ملكية البيانات الشخصية، وأمن البنية السياسية، وحقوق ومسؤوليات الشركات الجديدة المعَطِّلة للنظم القائمة. ونحن الآن في احتياج إلى إطار مفاهيمي لمساعدة الشركات والحكومات والأفراد على توقع التحولات الجذرية التي تحركها التكنولوجيا -في نماذج العمل، والأخلاق، والقضايا الاجتماعية- والتي تلوح في الأفق.
لضمان رخاء الشرق الأوسط في المستقبل، يتعين على حكوماته ومواطنيه أن يسألوا أنفسهم ما إذا كانت التكنولوجيات الجديدة يجري تصميمها وتكييفها على النحو الذي يلبي الاحتياجات الاجتماعية الحقيقية، أو أنها مجرد بشير بالتغيير لمجرد التغيير. وفي عموم الأمر، يتعين علينا أن نركز ليس فقط على التقدم التكنولوجي والإنتاجية الاقتصادية، بل أيضا على الكيفية التي قد تؤثر بها هذه القوى على البشر، والمجتمعات، والبيئة.
مع استمرار الثورة الصناعية الرابعة، لابد أن تسترشد السياسات وأساليب تنفيذها في المنطقة بأربعة مبادئ. فبادئ ذي بدء، لابد من التركيز على الأنظمة المتكاملة وليس على أي تكنولوجيا فردية؛ فلن يتسنى لقادة أو مواطني أي دولة تحديد وتوقع الكيفية التي قد تتغير بها الأعمال والمجتمع والاقتصاد إلا من خلال مراقبة كيف تتفاعل القوى التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية المتباينة مع بعضها بعضا.
ثانيا، لابد من مقاومة الرأي القَدَري الشائع الذي يدعي أن التقدم محدد سلفا. كما ينبغي تثقيف وتمكين المجتمعات والأفراد من إتقان التعامل مع التكنولوجيات لتحقيق أغراض إنتاجية حقا، وليس لتحقيق غايات أطراف أخرى. فإذا فشلنا في تسخير التكنولوجيات الجديدة لصالح أنفسنا، فإننا بذلك نسلم استقلالنا الشخصي والجماعي، ولا نترك سببا يُذكر للتفاؤل.
ثالثا، ينبغي لنا أن نصمم التكنولوجيات والنظم الجديدة ونحن نضع المستقبل نصب أعيننا، بدلا من قبول التغيير كلما طرأ من دون بصيرة. وسوف يتطلب إدماج التكنولوجيات التحويلية في أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية التعاون الوثيق بين أصحاب المصلحة في الحكومة، والصناعة، والمجتمع المدني. وخلافا لذلك، سوف يتحدد مستقبلنا وفقا لظروف مفروضة علينا لا دخل لحكمنا الجماعي في تشكيلها.
وأخيرا، لا يجوز لنا أن نتعامل مع الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية باعتبارها شوائب أو عللا ينبغي لنا أن نتغلب عليها أو نتجاوزها؛ بل ينبغي للقيم المشتركة في المنطقة أن تشكل سمة أساسية في كل التكنولوجيات الجديدة. وإذا استُخدِمت التكنولوجيات على النحو الذي يؤدي إلى تفاقم الفقر، أو التمييز، أو التدهور البيئي، فإن هذا يعني أنها لم تصمم على النحو الأمثل لتعزيز المستقبل الذي ترغب شعوب الشرق الأوسط في بنائه. ولا يكون الاستثمار في التكنولوجيات الجديدة مبررا إلا إذا ساهمت في خلق عالَم أكثر أمانا وتكاملا.
لن يتسنى لأي من أصحاب المصلحة، ولا حتى الحكومات، أن تعالج منفردة كل التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة. ومن جانبه، يتعين على مجتمع الأعمال أن يعمل على خلق البيئة التي تسمح للتكنولوجيات بالتطور والانتشار بأمان، ومع وضع الاعتبارات الاجتماعية في الحسبان.
يتعين على الحكومات أيضا أن تشارك بنشاط في طريقة تقديم الابتكارات للمجتمع. وينبغي لصناع السياسات أن يحافظوا على مستويات من التعاون الوثيق مع الشركات وأصحاب الأعمال في مجال التكنولوجيا الذين يقودون الثورة، خشية أن يتخلفوا عن الركب. ويتعين علينا جميعا كأفراد أن نحرص على الاطلاع حتى يتسنى لنا فهم القضايا الجديدة التي تنشأ من التفاعل المعقد بين التكنولوجيا والمجتمع، والتعامل مع هذه القضايا على النحو اللائق.
الواقع أن الثورة الصناعية الرابعة سوف تُحدِث تغيرات جهازية تتطلب المشاركة التعاونية. وفي حين تعمل دول الشرق الأوسط على تكييف اقتصاداتها مع التأثير المترتب على استخدام التكنولوجيا الجديدة، فسوف تحتاج إلى التفكير في طرق جديدة للعمل التعاوني عبر المجالين العام والخاص. ولأن وتيرة التغيير سوف تستمر في التسارع، فلابد أن يصبح مستوى الشفافية أعظم لصالح أصحاب المصلحة كافة، حتى يتسنى لكل جزء من المجتمع أن يزن المخاطر والمكافآت التي ينطوي عليها كل تطور جديد.
إننا نعيش في عصر بالغ التعقيد، وتدعو القيادة الحكيمة في الشرق الأوسط، كما هي حالها في مختلف أنحاء العالم، إلى تحول شامل في الطريقة التي ننظر بها إلى المشاركة التعاونية من أجل المستقبل. وإذا كان لنا أن نتجنب نتائج مروعة ربما تُفضي إليها التكنولوجيا بسهولة، فيتعين علينا أن نتصور بشكل جماعي المستقبل الذي نرغب في خلقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.