وضع الثورة الشعبوية في مكانها

Republican U.S. presidential nominee Donald Trump talks with a member of the audience at the conclusion of the debate with Democratic U.S. presidential nominee Hillary Clinton at Washington University in St. Louis, Missouri, U.S., October 9, 2016. REUTERS/Saul Loeb/Pool


تعتبر هذه السنة سنة الثورة ضد النخبة في كثير من الديمقراطيات الغربية. وتبشر عدد من الأحداث مثل نجاح حملة البريكسيت في بريطانيا، وترشيح دونالد ترامب غير المتوقع من قبل الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، ونجاح الأحزاب الشعبية في ألمانيا وأماكن أخرى تبشر بنهاية حقبة.

وكما قال الكاتب فيليب ستيفنس في جريدة فايننشال تايمز، " يتعرض النظام العالمي الحالي -النظام القائم على قواعد ليبرالية أنشئت في عام 1945 وتوسعت بعد نهاية الحرب الباردة– لضغط غير مسبوق.. العولمة في تراجع ".

في الواقع، قد يكون من السابق لأوانه استخلاص هذه الاستنتاجات العامة.
ويعزو بعض الاقتصاديين الارتفاع الحالي للشعوبية إلى "الإفراط في العولمة" منذ التسعينيات من القرن الماضي، مع تحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية -وخاصة انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001-وتلقت هذه التطورات أكبر قدر من الاهتمام. ووفقا لإحدى الدراسات، أدت الواردات الصينية إلى إلغاء ما يقرب من مليون وظيفة في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1999 و2011. وإذا أضفنا إلى ذلك الواردات والصناعات ذات الصلة فقد ترتفع الخسائر إلى 2.4 مليون.

علينا أن نكون حذرين من إسناد الشعبوية فقط للضائقة الاقتصادية؛ فقد اختار الناخبون البولنديون حكومة شعبوية رغم استفادة بلادهم من واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، في حين تبدو كندا في مأمن من مزاج المناهضة للمؤسسات التي تؤرق جارتها الكبيرة في عام 2016

كما صرح الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل أنجوس ديتون، "ما هو صادم هو أن بعض المعارضين للعولمة نسوا أن بليون شخص قد تخلصوا من الفقر إلى حد كبير بسبب العولمة". ومع ذلك، يضيف أن للاقتصاديين مسؤولية أخلاقية لوقف تجاهل أولئك الذين هُمشوا. وقد صب تباطؤ النمو وتفاقم عدم المساواة الزيت على النار السياسية.

ولكن علينا أن نكون حذرين من إسناد الشعبوية فقط للضائقة الاقتصادية؛ فقد اختار الناخبون البولنديون حكومة شعبوية على الرغم من الاستفادة من واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، في حين تبدو كندا في مأمن من مزاج المناهضة للمؤسسات التي تؤرق جارتها الكبيرة في عام 2016.

وفي دراسة متأنية لارتفاع دعم الأحزاب الشعبوية في أوروبا، وجد العالِمان السياسيان رونالد إنكهارت من جامعة ميشيغان وبيبا نوريس من جامعة هارفارد، أن انعدام الأمن الاقتصادي في مواجهة التغيرات في أوساط القوى العاملة في مجتمعات ما بعد الصناعية له تأثير أقل من ردة الفعل الثقافية. وبعبارة أخرى، دعم الشعبوية هو رد فعل قطاعات سكانية كانت مهيمنة، على التغيرات التي حدثت في القيم التي تهدد أوضاعها. "يبدو أن الثورة الصامتة في السبعينيات قد ولدت ثورة مضادة ورد فعل عنيف مليء بالغضب والاستياء اليوم"، كما كتب إنكهارت ونوريس.

في الولايات المتحدة، تظهر استطلاعات الرأي أن أغلب أنصار دونالد ترامب من كبار السن، الذكور البيض الأقل تعليما. ويوجد عدد قليل من الشباب والنساء والأقليات في ائتلافه. ويدعم أكثر من 40٪ من الناخبين ترامب، ولكن مع انخفاض البطالة على المستوى الوطني، يُعزى جزء قليل من هذا الدعم في المقام الأول للمناطق الضعيفة اقتصاديا.

على العكس من ذلك، وفي أميركا أيضا، هناك ما هو أكثر من تأثر الشعوبية بالاقتصاد فقط. وقد لاحظ استطلاع يوجوف بتكليف من مجلة الإيكونيميست تنامي الاستياء العنصري القوي بين مؤيدي ترامب، الذين استخدموا قضية "بيرثر" (التشكيك في صلاحية شهادة ميلاد باراك أوباما، أول رئيس أسود لأميركا)، مما ساعد على وضع ترامب على الطريق السريع في حملته. وشكلت معارضته للهجرة، بما في ذلك فكرة بناء الجدار وجعل المكسيك يدفع ثمنه، بمثابة ركيزة في برنامجه العرقي في وقت مبكر.

غير أن استطلاع منظمة بيو الأخير أظهر تنامي المشاعر المؤيدة للمهاجرين في الولايات المتحدة، نسبة 51٪ من البالغين تؤيد القادمين الجدد بدعوى أنهم سيساهمون في تقوية البلاد، في حين يعتقد 41٪ أنهم يشكلون عبئا. وتعد هذه النسبة انخفاضا من 50٪ في منتصف عام 2010، عندما أثار الكساد الحاد مشاعر مناهضة للمهاجرين. في أوروبا، على النقيض من ذلك، كان للتدفقات الكبيرة والمفاجئة للاجئين السياسيين والاقتصاديين من الشرق الأوسط وأفريقيا آثار سياسية أقوى، مع تأكيد العديد من الخبراء أن البريكسيت كان سببه الهجرة إلى بريطانيا أكثر من مشكل البيروقراطية في بروكسل.

ويمكن للكراهية تجاه النخب أن تكون نتيجة الاستياء الاقتصادي والثقافي؛ فقد حددت نيويورك تايمز مؤشرا رئيسيا للمناطق ذات الميول نحو ترامب: غالبية السكان البيض المنتمين للطبقة العاملة التي تأثرت سلبا خلال العقود تقلصت على إثرها سبل عيشهم بسبب تراجع القدرات التصنيعية للاقتصاد الأميركي. ولكن حتى لو لم تكن هناك عولمة اقتصادية، فقد خلق التغير الثقافي والديموغرافي قدرا من الشعبوية.

إذا كان عام 2016 هو عام الشعبوية السياسية بامتياز.. فلا يعني ذلك أن "الانعزالية" تمثل وصفا دقيقا للمواقف الأميركية الحالية تجاه العالم. في الواقع، وفي جوانب حاسمة (كقضايا الهجرة والتجارة) يبدو خطاب ترامب في تناقض مع مشاعر معظم الناخبين

ولكن من المبالغة القول إن انتخابات 2016 ستدعم الاتجاه الانعزالي الذي سينهي عصر العولمة. بدلا من ذلك، على النخب السياسية التي تؤيد العولمة والاقتصاد المنفتح معالجة عدم المساواة الاقتصادية ومساعدة من تقهقرت حالته بسبب التغيير على التكيف، وسوف تكون للسياسات التي تحفز النمو، مثل الاستثمار في البنية التحتية، آثار مهمة أيضا.

قد تختلف أوروبا بسبب المقاومة المتزايدة للهجرة، ولكن من الخطأ التنبؤ بأن النبرة المتحمسة للحملة الانتخابية لهذا العام ستكون لها تداعيات طويلة الأمد على الرأي العام الأميركي. وبينما تؤكد التوقعات أن الاتفاقات التجارية الجديدة المتطورة سوف تشهد انخفاضا، فإن ثورة المعلومات قد عززت المبادلات العالمية، وعلى عكس الثلاثينيات (أو حتى الثمانينيات)، لن تكون هناك عودة إلى الحمائية.

في الواقع، ازدهر الاقتصاد الأميركي اعتمادا على التجارة الدولية. وفقا لبيانات البنك الدولي لفترة ما بين 1995 وعام 2015، زادت التجارة السلعية من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.8 نقطة مئوية. وعلاوة على ذلك، في عصر الإنترنت، زادت مساهمة الاقتصاد الرقمي عبر الحدود الوطنية في الناتج المحلي الإجمالي بسرعة.

في عام 2014، صدرت الولايات المتحدة 400 بليون دولار من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) ما يناهز نصف جميع صادرات الخدمات في الولايات المتحدة. وفي الشهر الماضي نشر مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية استطلاعا للرأي مفاده أن 65٪ من الأميركيين يتفقون أن العولمة في معظمها مفيدة بالنسبة للولايات المتحدة، في حين يظن 59٪ أن التجارة الدولية جيدة للبلاد، ويدعم الشباب بشكل قوي هذا الاتجاه.

لذلك، إذا كان عام 2016 هو عام الشعبوية السياسية بامتياز.. فلا يعني ذلك أن "الانعزالية" وصف دقيق للمواقف الأميركية الحالية تجاه العالم. في الواقع، وفي جوانب حاسمة (كقضايا الهجرة والتجارة) يبدو خطاب ترامب في تناقض مع مشاعر معظم الناخبين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.