الديمقراطية المباشرة تعود من جديد

Colombian President Juan Manuel Santos (C-L) hands over a pin with the image of the dove of peace to Chief of Revolutionary Armed Forces of Colombia (FARC) Rodrigo Londono Echeverri (C-R), alias 'Timochenko', after the signing the peace agreement between Colombia's government and FARC to end over 50 years of conflict, in Cartagena, Colombia, 26 September 2016. The pact is the result of nearly four years of talks in Havana and was signed at a solemn ceremony in Cartag


مرة أخرى، يتسبب استفتاء في قلب بلد آخر رأسا على عقب. ففي يونيو/حزيران، قرر الناخبون البريطانيون إخراج بلادهم من الاتحاد الأوروبي؛ والآن قررت أغلبية ضئيلة من الكولومبيين رفض اتفاق السلام مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا (FARC). وبهذا قفز الكولومبيون إلى المجهول، وربما كانت قفزتهم هذه إلى الوراء، إلى هاوية قاسية عنيفة، إلى حرب بلا نهاية.

لا شك أن الشعبويين في كل مكان يحتفلون بالنتيجة باعتبارها توبيخا واضحا آخر للنخب التي لا تبالي إلا بمصلحتها الذاتية والتي "تلاعبت" بحكوماتها ضد الشعوب. وهم يزعمون أن الناس لابد أن يكون لهم صوت مباشر في القرارات المهمة التي تؤثر على حياتهم، وربما حتى القرارات بشأن الحرب والسلام.

ولكن إذا كان هناك بالفعل ما يمكن اعتباره "عجزا في الديمقراطية" كما يزعم الشعبويون فإن استخدام الاستفتاءات على نحو متزايد ليس العلاج لهذا العجز. بل على العكس من ذلك، تميل الاستفتاءات إلى جعل الأمور أشد سوءا، بل وقد تقوض الديمقراطية ذاتها. وهي قصة قديمة: فقد استخدم نابليون الثالث، على سبيل المثال، مثل هذا التصويت لإعادة تشكيل رئاسته المنتخبة في قالب اللقب الإمبراطوري الذي حمله عمه نابليون بونابرت.

بعد صعود الفاشية وأثناء الحرب الباردة، بدا الأمر وكأن ديمقراطيات العالم تدرك أن الاستفتاءات حيلة من صنيعة الحكام المستبدين الساعين إلى تركيز السلطة والقوة. فقد استخدم أدولف هتلر الاستفتاءات لتعزيز الرايخ الثالث. وبعد هتلر، استخدم جوزيف ستالين الاستفتاءات لدمج أوروبا الشرقية في الكتلة السوفييتية

بعد صعود الفاشية وأثناء الحرب الباردة، بدا الأمر وكأن ديمقراطيات العالم تدرك أن الاستفتاءات حيلة من صنيعة الحكام المستبدين الساعين إلى تركيز السلطة والقوة. فقد استخدم أدولف هتلر الاستفتاءات في السوديت والنمسا لتعزيز الرايخ الثالث. وبعد هتلر، استخدم جوزيف ستالين الاستفتاءات لدمج أوروبا الشرقية في الكتلة السوفييتية.

وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، نَظَّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استفتاء سريعا في شبه جزيرة القرم والذي يفترض أنه كان المسوغ لضم هذه المنطقة. وجريا على تقليد نابليون الثالث، وهتلر، وستالين، استخدم بوتين الديمقراطية المباشرة لملاحقة غايات دكتاتورية.

لم تكن كل الاستفتاءات الأخيرة أدوات للسلطة الدكتاتورية بكل تأكيد. ولكن قدرا من الكذب والخداع لا يليق إلا بالطغاة والمستبدين من حقبة الثلاثينيات كان بكل تأكيد طاغيا على الحملة الداعمة للخروج في المملكة المتحدة، وعلى المعارضة للاستفتاء الهولندي في أبريل/نيسان للموافقة على اتفاقية التجارة الحرة والشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا.

وفي المملكة المتحدة، ساعد بوريس جونسون هازئا في قيادة حملة الخروج في حين كانت عينه على خلع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وربما الحلول محله. ولكن عندما استقال كاميرون في يوليو/تموز، خان أنصار الخروج جونسون، فاضطر إلى القبول بمنصب وزير الخارجية في حكومة تيريزا ماي الجديدة.

وفي الحالة الهولندية، استغل المتشككون في أوروبا والذين يسعون إلى الوقيعة بين هولندا والاتحاد الأوروبي، مأساة رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17 في عام 2014، والتي غادرت أمستردام وأُسقِطَت فوق أوكرانيا بواسطة انفصاليين تدعمهم روسيا، وهي المأساة التي خلفت جرحا عميقا في وجدان الشعب الهولندي.

الواقع أن عقد الاستفتاء البريطاني أو الهولندي أو الكولومبي كان سيتطلب تبسيط القضايا المعقدة بشكل جذري، وهو ما عزز نقاط القوة لدى القادة الشعبويين. ففي هولندا، طُلِب من الناخبين إبداء موافقتهم أو رفضهم لاتفاق يتألف من أكثر من 2000 صفحة، والذي من المؤكد أن أحدا لم يقرأه حقا سوى حفنة من الناخبين. فبدلا من ذلك، اعتمد أغلب الناخبين على النقاط السطحية التي عرضها في حديثه الزعيم الشعبوي خيرت فيلدرز، والتي لم تقدم لهم أي تقييم صريح للمسألة.

على نحو مماثل، طَرَح الاستفتاء على الخروج البريطاني سؤالا حمل الكثير من التشعبات والتفرعات التي ما كان لأي ناخب أن يضعها جميعا في اعتباره. وفي الاستفتاء الكولومبي، كان الناخبون في احتياج إلى فهم عميق لعملية الحقيقة والمصالحة التي جرت في جنوب أفريقيا البعيدة، وتاريخ ما بعد الفصل العنصري، لتقييم اتفاق السلام على النحو الصحيح.

لقد نشأت الحكومة التمثيلية لإدارة هذا النوع من القضايا المعقدة. فنحن نصوت لاختيار ممثلين لنا ــ سواء بشكل فردي أو كجزء من حزب سياسي يقدم برنامجا سياسيا يمكن التنبؤ به نسبيا ــ لكي يدافعوا عن السياسات التي نؤيدها. ولكن كما أشار إدموند بيرك في مقولة شهيرة: "من يمثلك مدين لك، ليس بمهنته فقط، بل وبحكمه على الأمور أيضا، وهو يخونك ولا يخدم مصالحك عندما يضحي بهذا لتغليب رأيك".

كانت الحملات التي قادها الشعبويون في الاستفتاءات الكبرى هذا العام متباينة في نواح مهمة. على سبيل المثال، استند معارضو اتفاق السلام في كولومبيا إلى المعايير العالمية للعدالة في ما يتصل بجرائم الحرب التي ارتكبتها المؤسسة العسكرية والقوات المسلحة الثورية في كولومبيا، ولم يستشهدوا بخصوصية وطنية، كما كانت الحال في المملكة المتحدة وهولندا. ولكن الناخبين في كل الأحوال كانوا مدفوعين برغبة في إفشال الحكومات والمؤسسات التي يعارضونها. وكانوا جميعا على استعداد لاتباع تقليد الحكام المستبدين، واللجوء إلى التشهير والتشويه والمزاعم الخيالية.

لم تكن كل الاستفتاءات الأخيرة أدوات للسلطة الدكتاتورية، ولكن قدرا من الكذب والخداع لا يليق إلا بالطغاة والمستبدين من حقبة الثلاثينيات كان بكل تأكيد طاغيا على الحملة الداعمة للخروج في المملكة المتحدة، وعلى المعارضة للاستفتاء الهولندي للموافقة على اتفاقية التجارة الحرة والشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا

في العالم الحقيقي، تشكل التسويات الفوضوية حقيقة من حقائق الحياة الديمقراطية؛ والشيء الوحيد الأكثر فوضوية من التوصل إلى السلام عن طريق التفاوض هو الحرب ذاتها. وما دامت التسويات والتنازلات لا تنتهك الحقوق الفردية، فإن المواطنين في الدول الديمقراطية يقبلونها كضرورة لتعزيز الحكم الفعّال. وعندما نختزل اتفاقية سلام، أو معاهدة تجارية، أو العضوية في الاتحاد الأوروبي في جملة واحدة أو عبارة قصيرة، تتراجع المناقشة الديمقراطية الحقيقية فتفسح المجال للضجيج السياسي المتمثل في اختيار عدم المشاركة، والمؤامرات، والصفقات الجانبية.

بوسعنا أن نقول إن وقتنا هذا ليس مناسبا على الإطلاق لعقد استفتاءات، لأن ضائقة ديمقراطية أمسكت بتلابيب العديد من الدول منذ الأزمة المالية عام 2008. وفي الاتحاد الأوروبي، يتعين على ساسة التيار الرئيسي أن يتقبلوا بعض المسؤولية عن المسارعة إلى إلقاء اللوم على "بروكسل" بعد كل مشكلة، أو تزييف الحقيقة حول المغزى الحقيقي لعضوية الاتحاد الأوروبي أو اتفاقيات الشراكة مع الدول المجاورة. وقد مهد قادة التيار الرئيسي إلى حد ما الطريق لزعماء الدهماء من الشعبويين الذين يزايدون على الحجج المتعقلة بمطالبات غاضبة معادية للمهاجرين.

لا يحمل الحكم القائم على استفتاء عامة الناس ما قد يجعله مرغوبا في نظر العقلاء. ففي العقود التي مرت منذ قدمت كاليفورنيا "مبادرات الاقتراع" على مستوى الولاية ــ والتي يستطيع بموجبها أي ناخب أن يتقدم باقتراحات لا يتطلب إقرارها سوى الموافقة عليها بأغلبية بسيطة ــ أصبحت الولاية غير قابلة للحكم عمليا. وقد أنفق حاكم كاليفورنيا الحالي جيري براون السنوات الثماني الأخيرة في تنظيف الفوضى المالية التي خلقها الناخبون في الولاية في عام 1978، عندما أقروا الاقتراح رقم 13، الذي قضى بخفض الضرائب على العقارات بنسبة 57%.

وقد تصبح أوروبا قريبا على نفس القدر من الاختلال مثل كاليفورنيا. ففي هذا الشهر، عَقَد رئيس الوزراء المجري المتزايد الاستبداد فيكتور أوربان استفتاء لمعارضة سياسة الهجرة المشتركة للاتحاد الأوروبي. وإذا لجأت دول أخرى في الاتحاد الأوروبي إلى مثل هذه المبادرات، فقد ينقلب التكامل الأوروبي في الاتجاه المعاكس. ولا يحتاج المرء إلا إلى الاستماع إلى الساسة الذين يدعون إلى عقد الاستفتاءات لكي يدرك إلى أين قد تقودنا الديمقراطية المباشرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.