الحوار الوطني السوداني.. خطوات مهتزة

Members of the general assembly for the national dialogue, chaired Sudanese President Omar al-Bashir, attend a session on August 20, 2015 in the capital Khartoum. Bashir said he was ready for a two-month ceasefire with rebels in Sudan's border regions to allow national dialogue talks to take place to address the country's myriad problems, offering insurgents an amnesty. AFP PHOTO/ ASHRAF SHAZLY
غيتي إيميجز

الحوار بمن حضر
بين الحوار ومضامينه
الحوار البديل

كان يعتقد أن مشكلة الحوار الوطني السوداني الحقيقية تكمن في عدم اتفاق أطياف القوى السياسية المختلفة على نقطة يبدأ منها الحوار، ولكن عوضا عن إزالة هذه العقبة ما فتئت الحكومة السودانية أيضا تقذف بكرات اللهب في وجوه كل من المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي والمعارضة معا.

آخر تحد قدمه البشير إبان زيارته الأخيرة للصين هو عزمه على تمزيق أية قرارات ‏تصدر عن مجلس الأمن الدولي ومجلس السلم الأفريقي تفرض عليه نقل الحوار الوطني إلى خارج السودان، أو تعمد إلى إزاحته عن رئاسة الحوار. ‏

الحوار بمن حضر
مر عام ونصف منذ أطلق الرئيس السوداني عمر البشير دعوته قوى المعارضة السودانية إلى طاولة الحوار الوطني. وقبل إعلان الرئيس كان قد بدأ الهمس بين أعضاء حزب المؤتمر الوطني الحاكم بضرورة الحوار، بعيد انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013، التي قتلت فيها مليشيا الدفاع الشعبي حوالي 200 شخص.

إزاء تغير قواعد اللعبة السياسية من وقت لآخر، هناك تفسيرات ترى أن تعنت الحكومة السودانية عن الحوار الوطني ناتج بشكل أساسي عن أن وضع السودان كدولة لا يبشر بتحولات حقيقية على مستوى الانفتاح السياسي والديمقراطية

وفي يناير/كانون الثاني 2014 انطلق "مشروع الحوار الوطني" بنداء إلى أحزاب المعارضة كافة. ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن اعتقل قيادات من قوى المعارضة كان من المفترض مشاركتها في هذا الحوار المزعوم، كما شددت الحكومة قبضتها على النشاطات السياسية، وزادت أكثر من التضييق على حرية التعبير. كما ارتفعت محصلة العمليات العسكرية وزادت تبعا لها المواجهات بين القوات الحكومية مدعومة بقوات الدعم السريع من جهة وقوات التمرد من جهة أخرى.

هذه الدعوة ذهبت ببعض الظن في أن الحكومة أيضا منقسمة على نفسها ويعتورها تضارب القرارات والآراء. وبدأ الناس يتساءلون عمن يرسل الدعوة إلى الحوار ومن يقف في طريقه بتصعيد الأحداث، وهل يمكن أن تصل الحكومة إلى قدر من الجدية على عكس ما هو معروف عنها.

وإزاء تغير قواعد اللعبة السياسية من وقت لآخر، هناك تفسيرات ترى أن تعنت الحكومة السودانية عن الحوار الوطني ناتج بشكل أساسي عن أن وضع السودان كدولة لا يبشر بتحولات حقيقية على مستوى الانفتاح السياسي والديمقراطية. ليس هذا فحسب بل إنها بصدد تدمير المجتمع المدني، فالدولة المركزية يدعمها جيش موال وقوة شرطة كبيرة، وهذان الجهازان يقعان تحت سيطرة ديكتاتورية وبيروقراطية تتدخل في أدق التفاصيل حتى في مبدأ إمكانية الحوار مع المعارضة.

وحسبما وصلت إليه نتائج جلسات الحوار السابقة فإن القرارات كانت تتم على مستويات شخصية، يتخذها نافذون في الدولة وليست نابعة من سياسة عامة وكصوت معبر عن جهاز الدولة نفسه.

جاء التلويح بالحوار مرة أخرى بعد مضي عام ونصف على جناح الشك في بند تأسيس دولة مدنية حديثة قائمة على نظام ديمقراطي حقيقي، حيث لم يكن ذلك من بنود الحكومة. تخللت الأشهر الماضية من هذا العام مقاطعات عديدة أبرزها كان مقاطعة أحزاب آلية الحوار المعروفة بـ"7+7″ اجتماعا مع الرئيس البشير قبل الانتخابات، حيث علقت مشاركة بعض الأحزاب وأبعد ممثلو أحزاب أخرى.

ونظرا لاستدراك الحكومة المتأخر فما كان منها إلا انتهاج سياسة اللااتفاق، وفي أفضل الأحوال التخدير حتى تتجاوز عملية الانتخابات في أبريل/نيسان من العام الحالي، بما لها وما عليها. وبعدها قامت بالدعوة مرة أخرى إلى الحوار "بمن حضر".

بين الحوار ومضامينه
بدأت الدعوة إلى الحوار بما هو متوقع من نظام الإنقاذ في أجواء تجميد مشاركة بعض الأحزاب وتشتيت البعض الآخر، فنتج عن سلسلة الحوار الطويلة والفاشلة هذه انكماش الأحزاب بزهدها في المشاركة في الحوار أو انقسامها بين مؤيد له ومعترض عليه وسط سيول من المزايدات.

ما يباعد الشقة في التوافق على حوار جامع وما جعل جلسات الحوار الوطني تواجه العديد من التجاذبات والمواجهات والتوترات اتساع مساحات التباعد المتمثلة في أزمة الثقة الحادة التي يحاول الطرفان تأصيلها.

يقوم كل طرف برد الآخر إلى أصله الأيديولوجي، فالحكومة تنعت الجبهة الثورية بالشيوعية والعميلة، رغم احتوائها على أطياف عديدة من الانتماءات الحزبية، ومن بينها حركة العدل والمساواة المحسوبة على الإسلاميين قديما وحديثا، وتصنف فصيلا عسكريا لحزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي، بالإضافة إلى انتماءات أخرى.

بدأت الدعوة إلى الحوار بما هو متوقع من نظام الإنقاذ في أجواء تجميد مشاركة بعض الأحزاب وتشتيت البعض الآخر، فنتج عن سلسلة الحوار الطويلة والفاشلة هذه انكماش الأحزاب بزهدها في المشاركة في الحوار أو انقسامها بين مؤيد له ومعترض عليه

وفي الوقت نفسه ترد الجبهة الثورية نظام الخرطوم إلى أصله، وهو انتماء غالبية قياداته إلى الجبهة الإسلامية التي حاربت الحركة الشعبية لتحرير السودان في أحراش الجنوب لعقود، وعانت مرارات التنافس من الحزب الشيوعي السودان في سابق عهدهما.

هناك أيضا تسيد وهم الانتصار لموقف الحوار مما يحول دون تقديم أي طرف لتنازلات تبدو ضرورية لكي يسير ركب الحوار إلى مقصده، فكل طرف يتوقع من الآخر أن يأتيه صاغرا. وحتى لو تمت بعض التنازلات الصغيرة سرعان ما يتم التباهي إعلاميا بغلبة طرف على الآخر المتنازل، مما يفقد خطوات الوفاق نحو حوار جاد وواقعي منطقه السليم.

وهذا التصلب في المواقف هو ما يدعو كل طرف إلى التمسك بجميع المطالب ثقة منه في أنه سوف يتم تلبيتها، وفي هذا يتم تغليب المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية والاكتفاء بالانتصارات الوقتية المتمثلة في الجلوس إلى الحوار. ولذلك تبدو الآن عناصر التباعد بين أطراف الحوار في أوسع مساحاتها مما يفسر سر الفشل عقب كل جولة.

تتعرض الرؤية العامة لبعض التشويش بسبب تصريحات الرئيس البشير، ذلك أن المؤيدين للحوار مثل ثابو أمبيكي الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق، رئيس اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى الذي كان مكلفا منذ 2009 بملف مشكلة دارفور والمكلف حاليا بمهمة تسهيل الحوار الوطني كان يتحرك وفقا لوهم ألقاه النظام الحاكم في روعه، وهو التصور المتمثل في أنهم يستطيعون بالفعل التوصل إلى فهم يمكن السودان من الوصول إلى حالة الاستقرار في ظل النظام الحاكم الحالي.

ويستند ذلك الوهم إلى افتراضين زائفين؛ الأول أن نية الحكومة خالصة فيما يتعلق بالجلوس إلى الحوار، والثاني أن لجنة الحكماء الأفارقة قادرة على مساعدة الفرقاء للوصول إلى حوار يحل الأزمة جذريا.

تعكس موافقة أحزاب المعارضة في مشروع الحوار السوداني المعروفة بآلية (7+7)، رضوخها لرغبة المؤتمر الوطني الحاكم بتأجيل بداية الحوار إلى أكتوبر/تشرين الأول، وأكثر من ذلك فإنها تشير إلى شكها في جدوى الحوار، كما قد تعني أنها تحاول التأثير على الحركات المسلحة الرافضة لإقناعها باللحاق بالحوار. وهذا هو ما دعا الجبهة الثورية وقوى المعارضة السودانية للاتجاه لطرح حوار بديل.

الحوار البديل
كان الحزب الحاكم يأمل في أن تكون القوى السياسية المعارضة قد فقدت قاعدتها من فرط سياسة التشتيت والتشريد الذي تعرضت لها من قِبل الحكومة، ولكن عاد البشير وصرح مؤخرا بأن على الحزب الحاكم أن يتحسس قاعدته التي بدأت في التلاشي، وذلك بضرورة فتح باب الحوار مرة أخرى. هذه القاعدة التي تتباكى عليها الحكومة أو المعارضة لا وجود لها، فما يوجد الآن شعب متذمر من الفئتين معا ولا يرى في الأفق تغييرا مؤملا لانعدام وجود البديل.

يواصل الطرفان تزعم قاعدة متلاشية، ومن أجلها عقدت الجبهة الثورية والقوى السودانية المنسحبة من الحوار الوطني اجتماعا نهاية أغسطس/آب الماضي في أديس أبابا. أقر الاجتماع رفض الحوار القائم حاليا باعتباره مبتورا، ومن ثم الشروع في طرح حوار بديل في حال تمسكت الحكومة بالعملية بدون مستحقاتها المطلوبة.

نسبة لموقف الجبهة الثورية الذي بدا مهزوزا فإنه من المحتمل تقويته بطرق باب منظمات المجتمع المدني، وهي المؤسسات والهيئات التي كان شغلها في عهود سابقة لنظام الإنقاذ هو ملء الفراغ الممتد بين الدولة والمجتمع، خاصة أن هذه التنظيمات المهنية والفئوية بأشكالها المختلفة لها دور مقدر في العمل الوطني إبان مرحلة النضال ضد الاستعمار.

كان الحزب الحاكم يأمل في أن تكون القوى السياسية المعارضة قد فقدت قاعدتها من فرط سياسة التشتيت والتشريد الذي تعرضت لها من قِبل الحكومة، ولكن البشير قال مؤخرا إن على الحزب الحاكم أن يتحسس قاعدته التي بدأت في التلاشي

ولكن لكي ينجح هذا الحوار لا بد من الاستفادة من أخطاء الماضي حيث تم وأد هذه المنظمات بتسيسها وإبعادها عن دورها التنموي والحقوقي، مما باعد بينها وبين المنتمين لها من الفئات المختلفة طلابا وعمالا ونساء. ولكي يتحقق ذلك لا بد أن يتم التوافق على معالجة فورية لهذه الجوانب الحقوقية والتنموية، كرفع الظلم عن المحالين للصالح العام في مختلف القطاعات بعد أن انتهج النظام سياسة التمكين وقام بفصل كل من لا ينتمي إليه.

وقد تتيح هذه المحاولة فرصة ذهبية للحوار بين السودانيين على المستوى القاعدي، يجمع بين تحالف القوى المعارضة كقوى سياسية وهذه التنظيمات كقوى اجتماعية متنوعة، حتى يتسع ماعون الحوار لكل القضايا التي تحصرها الحكومة والمعارضة الآن في السلطة فقط بعد أن ذهبت الثروة مع الريح الاستوائية.

فالمواطن العادي الآن تهمه لقمة العيش بغض النظر عمن يحكم، ووصوله إلى هذا الدرك الأسفل من اليأس من الإصلاح السياسي بسبب تكالب الحكومة والمعارضة على حد سواء على المناصب التي يحتكرها الحزب الحاكم ويوزعها في صفقات وترضية دون النظر إلى مشاكله.

لا يشكك أحد في أن الحوار فرصة للسودان لصياغة عقد اجتماعي جديد تشترك فيه القوى والشرائح الرئيسية في المجتمع، لإيجاد حلول توافقية لتسوية قضايا النزاع التي تفتك بأقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

إلى هنا والحوار يعد شيئا مطلبيا ملحا ومتفقا عليه، ولكن عندما تتصاعد مطالبات القوى المعارضة نحو طموح التغيير وبناء نظام سياسي ديمقراطي حقيقي واضعا الأسس لبناء دولة مدنية حديثة، تتوجس الحكومة التي تتمسك بالسلطة بوهم الخلود خيفة، وتعود إلى مربع اللااتفاق على صيغة موحدة لعقد حوار جاد ينهي حالة الاضطراب السياسي والاقتصادي والأمني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.