الأزمة اليونانية.. الأبعاد والتحديات

Pensioners queue outside a national bank brunch, as banks only opened for pensioners to allow them to get their pensions, with a limit of 120 euros, in Athens on July 2, 2015. Greece's left-wing government 'may very well' resign if a referendum this weekend on bailout conditions results in a 'Yes' vote, Finance Minister Yanis Varoufakis said in a radio interview Thursday. AFP PHOTO / ARIS MESSINIS
غيتي إيميجز

مسار أزمة
حقيقة الاستفتاء
استنتاجات واحتمالات

خمس سنوات عجاف قضتها اليونان تحت إدارة لجنة الترويكا (لجنه ثلاثية مؤلفة من ممثلين عن البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي واللجنة الأوروبية)، ورغم ضبط إيقاع الأزمة الاقتصادية، لم تلبث انعكاسات السياسة الاقتصادية المطبقة أن ظهرت بالأفق بعد مرور خمس سنوات.

فعوامل مثل ارتفاع مستوى الفقر والبطالة إلى 1.5 مليون عاطل عن العمل وانحسار القوة الشرائية بتخفيض الرواتب والمعاشات بنسبة تصل إلى 40%، وهبوط الناتج القومي من 240 إلى 190 مليار يورو وارتفاع إجمالي الدين العام من 126% للناتج القومي اليوناني إلى 176% وهجرة 300 ألف من الشباب اليونان إلى الخارج لطلب الرزق وحياة أفضل، وأخيرا الفشل في إجراء إصلاحات جذرية كانت دوافع الشعب اليوناني لضرورة التغيير في النظام السياسي بإجراء انتخابات نيابية.

مسار أزمة
بعد استلام حزب الائتلاف الراديكالي اليساري (سيريزا) بقيادة أليكسيس تسيبراس إلى السلطة في 25/01/2015 لأول مرة منذ العام 1974، انطلقت المفاوضات بين الحكومة اليونانية الجديدة والدائنين من أجل إيجاد حل جذري للأزمة الاقتصادية اليونانية.

تركز الخلاف بين اليونان وأوروبا على مواضيع خفض المعاشات والرواتب، ورفع سن التقاعد، وخفض النفقات الدفاعية، وإلغاء الاتفاقات الجماعية بين أرباب العمل والنقابات اليونانية، وأخيرا رفع ضريبة الاستهلاك

كان المطلب الأساسي اليوناني في المفاوضات هو إعادة جدولة الديون المتضخمة نتيجة الفوائد المرتفعة، بشطب جزء منها لتصبح قابله للسداد. في المقابل حصلت اليونان على تمديد اتفاقية الدين لأربعة أشهر لتأمين السيولة النقدية ريثما تستكمل المفاوضات النهائية.

إعلان

ولم تنجح محاولة التقريب الأخيرة بعد مرور خمسة أشهر بين المقترح اليوناني المتضمن إجراءات تقشفية بقيمة حوالي 8 مليارات يورو، والمقترح الأوروبي، وقيمته 11 مليارا، بدون أي تطرق إلى موضوع جدولة الديون، إلى نتيجة، ففشلت المفاوضات.

كانت نقاظ الخلاف تتركز على مواضيع خفض المعاشات والرواتب، ورفع سن التقاعد، وخفض النفقات الدفاعية، وإلغاء الاتفاقات الجماعية بين أرباب العمل والنقابات اليونانية التي تنسق كل ما يتعلق بالعمالة لمنع الاستغلال، وأخيرا رفع ضريبة الاستهلاك حيث أصر الطرف الألماني على رفعها في الجزر اليونانية المقابلة للشواطئ التركية من 13% إلى 23%، وهو ما فسر على أنه تعزيز للمصالح السياحية الألمانية الموجودة على الأرض التركية على حساب المصالح اليونانية.

كانت ردة فعل تسيبراس على الاقتراح الأوروبي "النهائي" بإعلان استفتاء عام في البلاد كورقة تفاوضية للتصويت الشعبي للقبول بحزمة التقشف الأوروبية، واستُكملت عملية الاستفتاء دستوريا بتبني البرلمان اليوناني له بـ178 صوتا من أصل 300.

كانت الإجابة الأوروبية على الموقف اليوناني مباشرة وقاسية حيث صدر قرار سياسي للبنك المركزي الأوروبي بقطع السيولة المالية قبل انتهاء صلاحية برنامج الدعم بأربعة أيام، وهي المتفق عليها في 30/6/2015.

أدى قرار قطع السيولة إلى إجبار الحكومة اليونانية على إغلاق البنوك، وفرض رقابة على حركة رؤوس الأموال، مما أدى إلى شلل جزئي في قطاعات النقد والتجارة والصناعة والسياحة التي تشكل العماد الرئيسي للاقتصاد اليوناني.

عمليا، كان هدف قرار البنك المركزي الأوروبي ممارسة ضغط أقوى على الحكومة اليونانية بهدف إلغاء الاستفتاء أو التصويت بـ(نعم) في أحسن الأحوال، والقبول باقتراح جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، المقدم في اللحظة الأخيرة قبل انقضاء مدة سداد قرض صندوق النقد التي تقدر بـ1.5 مليار يورو.

إعلان

ورغم الرفض المبدئي قدمت حكومة تسيبراس اقتراحا مضادا مدته سنتان من دون أي وعود بمحاولة التأثير على نتيجة الاستفتاء، فكانت إجابة الدائنين بالرفض، وهكذا أصرت اليونان على موضوع الاستفتاء. في المقابل أطلقت وسائل الإعلام الخاصة حملة شرسة للتأثير على الرأي العام اليوناني، وصلت حد الإرهاب النفسي من أجل التصويت بـ(نعم).

هناك أمران لم يتوقعهما تسيبراس في فترة الإعلان عن الاستفتاء، الأول أن البنوك أصبحت بعد خمس سنوات محصنة من عواقب الأزمة اليونانية، بدليل أن الأسواق العالمية والبورصات لم تتأثر جديا كما كان هو نفسه يتنبأ، خصوصا بعد أن أعلنت اليونان عدم قدرتها على سداد القرض المطلوب للدائنين، ويعود سبب استقرار الأسواق إلى أن الأوروبيين استطاعوا نقل الديون من على كاهل البنوك الخاصة إلى كاهل دافعي الضرائب الأوروبيين، والثاني هو قطع السيولة النقدية من البنك المركزي الأوروبي قبل انقضاء صلاحية برنامج الدعم الأوروبي، ومن المعلوم أن اليونان لا يحق لها طباعة عملة اليورو.

هناك ثلاثة احتمالات لإنهاء الأزمة، يتمثل أولها بضخ السيولة النقدية من البنك المركزي الأوروبي إلى البنوك اليونانية لعودة الحياة لطبيعتها، وفي الوقت نفسه البدء بمفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاقية ترضي الطرفين بعد استرجاع الثقة المفقودة

حقيقة الاستفتاء
كان السؤال المطروح على الناخبين هو التصويت بـ(نعم) أو (لا) لحزمة التقشف الأوروبي، ولكن سرعان ما انقلب الأمر إلى تصويت لصالح أو ضد البقاء ضمن أوروبا، وذلك نتيجة الضغوط الأوروبية وحملة الإعلام اليوناني المناصر للدائنين، بالإضافة إلى عدد كبير من رجال الكنيسة، ورئيسي الوزراء السابقَين كوستاس سمييتيس وكوستاس كارامنليس ورئيس الجمهورية الحالي بروكوبيس بافلوبولوس.

هذا إضافة إلى الدعم المطلق لـ(نعم) من طرف حزب اليمين المحافظ رغم اعتراض قسم كبير من أتباعه الراغبين بالتصويت ضد سياسة التقشف.

لقد أراد الأوروبيون من هذا الاستفتاء إسقاط حكومة تسيبراس اليسارية، وتقليص قدرات القوى اليسارية الناهضة بقوة في دول تعاني أزمات اقتصادية مثل إسبانيا والبرتغال.

إعلان

استنتاجات واحتمالات
كشف الاستفتاء الخلاف بين الحكومات الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي في موضوع منع السيولة النقدية عن اليونانيين، كما تسبب بانقسام حاد في المجتمع اليوناني وصل إلى داخل كل بيت.

كذلك أطاحت نتيجة الاستفتاء برئيس حزب الديمقراطية الجديدة أدونيس ساماراس، لمساهمته في تعميق الانقسام داخل حزبه الذي اقترب من مرحلة الانقسام، على خلفية قيامه بإرهاب اليونانيين لدفعهم للتصويت بـ(نعم).

كانت نتيجة الاستفتاء صاعقة، حيث حصلت الحكومة اليسارية على نسبة 61% من أصوات الناخبين، رغم بيئة الخوف التي أحاطت بعملية التصويت. هذه النتيجة عززت شرعية رئيس الوزراء، ليس على صعيد الرأي العام اليوناني وحسب، بل داخل حزب سيريزا كذلك.

تسارعت التطورات السياسية بعد إعلان النتائج، فكان أول قرار بعد الاستفتاء هو إقالة وزير الاقتصاد يانيس فاروفاكيس بسبب عدم الرغبة الأوروبية بوجوده في جلسات التفاوض، كذلك حصل تسيبراس على مباركة أحزاب المعارضة بعد اجتماع رؤساء الأحزاب السياسية اليونانية، وذلك للمرة الأولى منذ العام 2012، بهدف إبرام اتفاقية مقبولة شعبيا مع الدائنين، في المقابل كانت رسائل وتصريحات الساسة الأوروبيين إيجابية مع حذر شديد.

إن آليات وأعراف الاتحاد الأوروبي لا تتضمن في معاهداتها التأسيسية كيفية خروج أي عضو فيها من المنظومة النقدية لليورو، لكنه يبقى خيارا فرديا خاصا بكل دولة عضو، في حال رغبت بالخروج بعد طلب منها.

عمليا، هناك ثلاثة احتمالات لنهاية الأزمة الاقتصادية اليونانية، الأول يتمثل بضخ السيولة النقدية من البنك المركزي الأوروبي إلى البنوك اليونانية لعودة الحياة لطبيعتها، وفي الوقت نفسه البدء بمفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاقية ترضي الطرفين بعد استرجاع الثقة المفقودة.

ولكي تكون الخطة الاقتصادية المستقبلية ناجعة، يجب أن تركز الاتفاقية على التنمية والتكافل الاجتماعي والإصلاحات، وألا تقتصر على إجراءات تقشفية وجبائية فقط. إن الازدهار الاقتصادي لن يكتمل بدون جدولة الديون، وهذا ما أقر به مؤخرا صندوق النقد الدولي، وما أكد عليه كل من وزيري الاقتصاد الأميركي والفرنسي، وحامل جائزة نوبل الاقتصادي بول كورغمان.

إعلان

إن من مصلحة الاتحاد الأوروبي إبقاء المسألة اليونانية أوروبية بحتة ودون تدخل صندوق النقد الدولي. إضافة لذلك يفرض العامل الجيوبوليتيكي على الأوروبيين تقدير مكانة اليونان في جنوب شرق أوروبا وأهميتها في ردع الصعود القومي الروسي الجديد، وهذا يجب أن يعزز مسيرة التفاوض والاتفاق.

إن هذه المفاوضات هي الفرصة الأخيرة لليونان مع الأوروبيين، ولن يكون الوصول إلى نتيجة إيجابية بين الطرفين أمرا سهلا، لأن أي اتفاق يتطلب إقرار 18 برلمانا أوروبيا ليكون ساري المفعول، وهذا يحتاج وقتا رغم صعوبة الموقف الاقتصادي اليوناني. إن أي اقتراح للحكومة اليونانية يجب أن يعتمد على البرنامج المقدم من جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية قبل الاستفتاء مع بعض التعديلات الطفيفة لاختصار فترة التفاوض ومعرفة شروط ومتطلبات كل طرف.

الاحتمال الثاني يتمثل باستمرار قطع السيولة النقدية وعدم الوصول إلى اتفاق سريع بحيث ستُجبر حكومة أثينا على صك عملة محلية تسمى بـ"دراخمة" لتغطية حاجات السوق التجارية والاقتصادية والنقدية.

الاحتمال الثاني يتمثل باستمرار قطع السيولة النقدية وعدم الوصول إلى اتفاق سريع بحيث ستُجبر حكومة أثينا على صك عملة محلية  لتغطية حاجات السوق. وعليه ستمرّ البلد بأزمة خانقة لمدة سنتين تقريبا ستحرم التجار من الوصول إلى الأسواق العالمية

وبناء عليه، ستمرّ البلد بأزمة خانقة لمدة سنتين تقريبا ستحرم التجار من الوصول إلى الأسواق العالمية، حيث ستشهد الفوائد ارتفاعا حادا يقود إلى غلاء فاحش وبطالة خانقة وزيادة مستوى التضخم وانخفاض الناتج القومي وإغلاق محلات وشركات ومنشآت تجارية. لكن تخفيض قيمة العملة المحلية سوف يكون أقل ضررا على الاقتصاد على المدى البعيد، حيث ستتعرض الدراخمة لتقلبات قبل أن تتجه نحو الاستقرار.

هناك احتمال ثالث وهو الحصول على السيولة من المودعين، وتلك كخطة إنقاذ داخلية مشابهة لتلك التي طبقتها قبرص بعد قطع الأموال عن بنوكها من قبل البنك المركزي الأوروبي.

هناك معطيات إضافية يجب أخذها بعين الاعتبار من أجل الوصول لحل نهائي، مثل مشكلة التهرب الضريبي حيث يتعين على اليونانيين أن ينسوا ثقافة عدم دفع الضرائب، وذلك لمساعدة بلدهم، إضافة إلى تطبيق نظام مركزي حاسوبي يراقب كل النشاطات التجارية.

إن فتح قائمة لاغارد المحتوية على ألفي اسم من نبلاء المجتمع من الذين هرّبوا أموالهم للخارج سيدر مليارات اليورو على الخزينة العامة، وذلك بالتعاون مع الحكومات الأوروبية من خلال كشف بيانات الإيداعات. كذلك على الساسة من كلا الطرفين أن يدركوا الفوارق في موضوع القدرة على تحمل اليورو كعملة صعبة بين دول الجنوب الأوروبي المدينة مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال مقارنة بدول الشمال الصناعية العملاقة مثل ألمانيا المسيطرة على البنك المركزي الأوروبي.

أخيرا، يبقى ترتيب اليونان في الدول المتقدمة بفضل ناتجها القومي الذي يصل إلى 190 مليار يورو أثناء الأزمة. فهذا البلد استطاع -ودون أن يحصل على أي مساعدة أوروبية (دفعات) منذ عام تقريبا- سداد حوالي 7 مليارات من موارده الداخلية للدائنين.

وتلك معطيات قوية تعطي أثينا القدرة على متابعة مسيرتها الاقتصادية ضمن الاتحاد الأوروبي أو خارجه. كما يجب التأكيد بأن 75% من اليونانيين يرغبون في البقاء في منطقة اليورو، ويعتبرون بلدهم جزءا من العالم الغربي منذ مخطط مارشال (1947) وإعلان مبدأ الرئيس الأميركي ترومان عام 1947.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان