حدود التأييد الشعبي للسياسات النووية الإيرانية
تعتيم رسمي
استياء شعبي
حرب المعلومات
بينما أقر مجلس الشورى الإيراني قبل أيام من انقضاء مهلة التوصل لاتفاق نهائي بشأن أزمة إيران النووية قانونا لـ"إلزام الحكومة بالحفاظ على المنجزات النووية" بغية تقليص سقف تنازلات المفاوض الإيراني، يسدل سياج من الغموض أستاره ليلف حقيقة الموقف الإيراني الشعبي من البرنامج النووي والسياسات التي يتبعها نظام الولي الفقيه في إدارة ملفاته.
والواقع أن نظام ولاية الفقيه لا يفتر عن التفاخر بالتأييد الشعبي الجارف الذى يغمر به الشعب الإيراني سياساته حيال البرنامج النووي كما الإستراتيجية التفاوضية التي يتبناها ذلك النظام في المفاوضات الجارية بهذا الخصوص مع السداسية الدولية، انطلاقا من ثوابت واعتبارات مفادها أن ذلك البرنامج إنما هو قضية تتعلق بالعزة الوطنية للأمة الإيرانية في الأساس، فيما لم تتورع دوائر بحثية ووسائل إعلام غربية عن التشكيك في تلك المزاعم الرسمية الإيرانية طارحة معطيات مغايرة تماما لما يروجه نظام طهران بهذا الصدد.
تعتيم رسمي
لما كان الدعم الجماهيري يمثل ظهيرا شعبيا ويشكل مساندة لا يستهان بها لصانع السياسة الخارجية بأية دولة، أبى نظام طهران إلا حشد وتجييش التأييد الشعبي لسياساته فيما يخص البرنامج النووي الإيراني عبر وسائل شتى، أبرزها تغييب جموع الشعب عن التفاصيل والحقائق المتعلقة بمثل هذا النوع من القضايا، التي يحتكر الخوض فيها وإدارة شؤونها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية ودائرته المقربة داخل الحوزة العلمية الدينية، فضلا عن الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخبارية التابعة له ولا سيما الحرس الثوري.
لا يفتأ النظام الإيراني يفاخر بالتأييد الشعبي الجارف الذى يغمر به الشعبُ الإيراني سياساته النووية كما إستراتيجيته التفاوضية، انطلاقا من ثوابت واعتبارات مفادها أن ذلك البرنامج إنما هو قضية تتعلق بالعزة الوطنية للأمة الإيرانية في الأساس |
وانطلاقا من ذلك النهج، لطالما انتهج الولي الفقيه إستراتيجية متعددة الأبعاد في ضبط وتحديد وتوجيه اتجاهات الرأي العام الإيراني إزاء أنشطته التقنية والتكنولوجية الدقيقة ذات الطبيعة العسكرية، تقوم على:
تقديس البرنامج النووي، فقد حرص مرشد الثورة وحواريوه على تصوير امتلاك طهران لبرنامج نووي متطور وأنظمة صواريخ بالستية متقدمة كمظاهر للعزة والكرامة والفخار للأمة الإيرانية، واعتبار التفريط فيها أو تقديم أي تنازلات بشأنها مجلبة للخزي والعار، ومدعاة لتدخل قوى الاستكبار الخارجية في شؤون البلاد بغية إجهاض ثورتها وتقويض نظامها توطئة للنيل من استقلاليتها وسيادتها ووحدتها واستقرارها.
احتكار القرار، فلطالما عمد نظام الولي الفقيه إلى تضييق الدائرة المعنية بإدارة الملف النووي الإيراني إلى أضيق نطاق ممكن، وآثر عدم السماح لأية أجهزة أو دوائر رسمية أو غير رسمية أخرى بالدولة بالانخراط في فعالياته أو الإدلاء بدلوها في مجرياته والوقوف على مستوى تطوره وكفاءته، أو حتى الخوض في مناقشات أو سجالات تتصل بتقويم جدواه.
وقد امتد ذلك التضييق القسري والصارم ليطول النواب المنتخبين داخل مجلس الشورى أو البرلمان، والذين دأبوا بدورهم، منذ فترة طويلة، على التعبير عن استيائهم جراء استبعادهم من المشاركة في عملية صنع القرار المتعلقة بمثل هذا النوع من القضايا المصيرية، بينما انتخبهم الشعب لتمثيله في أروقة اتخاذ القرار والنيابة عنه في محافل كهذه.
تجفيف الجدل، حيث يحظر النظام الإيراني على الجماهير التعرض، من قريب أو بعيد، للتفاصيل المتعلقة بالبرنامج النووي، إذ لم يسمح لمؤسسات الرأي العام أو الدوائر البحثية بالخوض في أية موضوعات تنحو باتجاه تقويم السياسات النووية للبلاد أو الحديث عن جدوى المضي قدما في البرنامج النووي، رغم اشتداد وطأة العقوبات وتعاظم تأثيرها السلبى على البلاد والعباد، بما في ذلك قضايا الأمان المرتبطة بالمنشآت النووية، وما يحيط بها من ظروف وملابسات تبعث على القلق بهذا الصدد، خصوصا أوضاع محطتي بوشهر وأصفهان النوويتين.
الملاحقة الأمنية، إذ لم تتورع السلطات الإيرانية عن توقيف كل من تسول له نفسه خرق الحظر الفولاذي المفروض على كل القضايا المتصلة بالملف النووي، حيث انتهي الأمر بأستاذ العلوم السياسية صادق زيبا، الذى شكك في الفائدة المرجوة من مواصلة ذلك البرنامج مع اشتداد وطأة التداعيات الموجعة للعقوبات الدولية والأحادية التي تثقل كاهل الاقتصاد الإيراني منذ سنوات إلى حُكم ضده بالسجن لمدة 18 شهرا.
وإلى أبعد من ذلك ذهب نظام الولي الفقيه في مساعيه الرامية إلى إسكات الأصوات المرتفعة المنتقدة لهذا الوضع المأساوي، حينما دهمت أجهزته الأمنية منزل المعارض الإصلاحي والمرشح الرئاسي الأسبق مير حسين موسوي وصادرت أجهزة حاسوب ومتعلقات أخرى خاصة به قبيل إلقائه خطابا أمام أنصاره عن العوامل التي قادت إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية بالبلاد، ومن بينها إستراتيجيات النظام في إدارة الملف النووي بالطبع، حيث خشيت السلطات من أن يحرك خطابه سخط الشعب الحانق، بما في ذلك أنصار الحكومة والمرشد، في ظل الأوضاع الاقتصادية القاسية التي تعصف بالبلاد.
استياء شعبي
بمقدور أي مراقب يجيد الغوص في أعماق الداخل الإيراني أن يلمس فيما وراء التكاتف والتلاحم الظاهريين بين الدولة والمجتمع الإيرانيين في مواجهة أعداء الثورة الإسلامية وقوى الاستكبار العالمية، غيابا واضحا للإجماع الحقيقي حول عدد من القضايا الوطنية الجوهرية، بدءا من اعتماد نظام ولاية الفقيه ذاته آلية للحكم وتحقيق مرامي الثورة التي انضوى تحت لوائها طيف واسع يضم مختلف التيارات السياسية من اليمين الديني إلى اليسار وانتهاء بالليبراليين، مرورا بتوجهات وآليات السياسة الخارجية، بشقيها الإقليمي والدولي، وصولا إلى السياسات المتعلقة بإدارة الملف النووي.
رغم حظر السلطات والأجهزة الأمنية الباطشة داخل إيران لأى نقاش بشأن جدوى تجشم مغامرة الاستمرار في ذلك البرنامج، بدأت بعض الألسن تلوك -على استحياء- أسئلة تتصل بالفائدة المرتجاة منه، ولا سيما بعد أن أثقل كاهل غالبية الإيرانيين بالعقوبات المنهكة وأرهقهم بالانكماش الاقتصادي المقيت |
وبناء عليه، لم يحل وجود قطاع شعبي إيراني عريض متمسك بالثوابت الخاصة بالبرنامج النووي مهما كان الثمن باعتبارها مدعاة للعزة والفخار والمنعة للأمة الإيرانية، دون ظهور قطاع آخر يتبنى في المقابل موقفا مغايرا إزاء ذات الثوابت.
ففي الآونة الأخيرة، وتحديدا منذ العام 2010 حينما أضحى مواطنون إيرانيون كثر يستشعرون التداعيات السلبية الموجعة للعقوبات الدولية المتفاقمة على بلادهم، بدأ الجدل يتصاعد تدريجيا داخل الغرف المغلقة، وفى العلن أحيانا، بشأن الأعباء الاقتصادية والأمنية والسياسية الناجمة عن المضي قدما في تطوير البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية وفق سياسات يلفها الغموض إلى حد أثار مخاوف دول الجوار وغذى النزعات العدوانية والنوايا التصعيدية العقابية لدى القوى الغربية حيال طهران.
ورغم حظر السلطات والأجهزة الأمنية الباطشة داخل إيران لأي نقاش بشأن جدوى تجشم مغامرة الاستمرار في ذلك البرنامج، بدأت بعض الألسن تلوك -على استحياء- أسئلة تتصل بالفائدة المرتجاة منه، ولا سيما بعد أن أثقل كاهل غالبية الإيرانيين بالعقوبات المنهكة وأرهقهم بالانكماش الاقتصادي المقيت.
فرغم ادعاء طهران أنها تتوخى منه سد عجز الطاقة المتنامي لديها، تؤكد تقديرات شتى أن الطاقة المتوخاة منه لن تمد البلاد بأكثر من 2% فقط من احتياجاتها من الطاقة، بينما تتعاظم أعباؤه السياسية، كما تتخطى كلفته الاقتصادية مئات البلايين من الدولارات.
وبينما دعت "الحركة الخضراء" التي كانت تناهض الرئيس السابق أحمدي نجاد في العام 2009 إلى ما أسمته "دبلوماسية نووية براغماتية" تجنب الشعب الإيراني الأثمان الباهظة التي يتكبدها جراء المواجهة مع الغرب بجريرة مواصلة البرنامج النووي، كان للتيار الإصلاحي -الذي جمد مساعي تطوير البرنامج النووي إبان وجود ممثليه في رئاسة الجمهورية في الفترة الممتدة من 2003 إلى 2005- نصيب الأسد من الرؤية النقدية لنهج الاستمرار في البرنامج النووي.
فقد ارتأى أنصار ذلك التيار أن أضرار ذلك البرنامج قد فاقت خسائر الحرب التي خاضت إيران غمارها ضد العراق في الفترة من 1980 إلى 1988، وأن انتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية الراهنة يتطلب اتفاقا نوويا ملائما مع السداسية الدولية، ولا يرى أولئك الإصلاحيون سبيلا لعودة إيران إلى الأسرة الدولية واندماجها بالاقتصاد العالمي سوى القبول بما يفرضه المجتمع الدولي من قيود على مشاريع تطوير برنامجها النووي بما قد يساعد على تبديد الشكوك العالمية التي تحيط بذلك البرنامج.
ومن جانبه أكد النائب السابق لرئيس البرلمان محمد رضا خاتمي أن قيادات إصلاحية قد بعثت برسائل عديدة إلى المرشد الأعلى أوضحوا فيها أن الإصرار على تخصيب اليورانيوم بنسب متنامية ليس في مصلحة إيران.
وفي العام 2012، دعا وزير الداخلية الإصلاحي السابق، عبد الله نوري، القيادة الإيرانية إلى عدم الاستهانة بما يعانيه الإيرانيون في حياتهم اليومية بسبب سياسات حكومتهم، وألا يسمحوا لقضية واحدة، مهما بلغت من الأهمية، أن تهدد بقاء النظام واستقرار البلاد برمتها.
حرب المعلومات
تشى تصريحات ومخرجات دراسات الجانبين الإيراني والغربي بتضارب واضح في الروايات الإيرانية والبيانات الغربية المتعلقة بحجم التأييد الشعبي لمواصلة البرنامج النووي الإيراني.
دونما انحياز، غير مستند إلى دراسات علمية دقيقة، لأى من الروايتين الإيرانية أو الغربية، ربما لا يختلف اثنان على أن إصرار نظام طهران على المضي قدما في تطوير البرنامج النووي لبلاده تحت وطأة العقوبات الدولية والأحادية المتفاقمة، مع غياب أفق زمنى واضح اتفاق نووي نهائي مع السداسية الدولية من شأنه أن يستنفد رصيد المساندة الشعبية مهما بلغ حجمها |
ففي حين أكد باحث إيراني مقيم في طهران لكاتب هذه السطور أنه أعد بحثا حول الموقف الشعبي من البرنامج النووي اعتمد بالأساس على دراسات ميدانية واستطلاعات للرأي، وخلص منها الباحث، المؤيد للاستمرار في البرنامج النووي، إلى أن 40% من المستطلعة آراؤهم لا يرون جدوى من الاستمرار في ذلك البرنامج طالما بقيت العقوبات المؤلمة التي تئن من وطأتها البلاد، أوردت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأميركية أن موقع التلفزيون الإيراني الرسمي على الإنترنت أجرى استطلاعا للرأي حول ذات القضية في يوليو/تموز 2012، وجاءت ردود أكثر من 60% من الذين شاركوا في التصويت مؤيدة لتجميد إيران تخصيب اليورانيوم مقابل رفع تدريجي للعقوبات الدولية.
وذكرت الصحيفة أن التصويت اختفى من الموقع بشكل غامض، بعد أن بدأت مواقع أخرى إيرانية نشر نتائجه، ثم اتهم التلفزيون الإيراني إذاعة "بي بي سي" التي تبث باللغة الفارسية بقرصنة موقعه على الإنترنت وتزوير النتائج، لتظهر أن الغالبية يؤيدون إنهاء إيران لتخصيب اليورانيوم مقابل رفع تدريجي للعقوبات الدولية، وهى الاتهامات التي نفتها "بي بي سي" جملة وتفصيلا.
في المقابل، وفى مسعى منه للتقليل من تأثير العقوبات الدولية والأحادية الجانب على عزيمة وإرادة الإيرانيين علاوة على توفير الظهير الشعبي المعضد للموقف التفاوضي للوفد الإيراني المفاوض لم يفتأ النظام الإيراني يبالغ في تصوير حجم التأييد الشعبي للسياسات المتعلقة بالبرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.
وبدوره لا يكف المرشد الأعلى للثورة الإسلامية عن تجديد دعمه التام للحكومة والوفد المفاوض، داعيا الجماهير ومختلف القوى السياسية في إيران للاصطفاف خلفهما في مواجهة الخارج، بغرض التصدي للعقوبات المقيتة التي تنوء بالبلاد، واستبقاء حق إيران في امتلاك برنامج نووي "سلمى".
على أية حال ودونما انحياز، غير مستند إلى دراسات علمية دقيقة ومعمقة وموضوعية، لأى من الروايتين الإيرانية أو الغربية، ربما لا يختلف اثنان على أن إصرار نظام طهران على المضي قدما في تطوير البرنامج النووي لبلاده تحت وطأة العقوبات الدولية والأحادية المتفاقمة، مع غياب أفق زمنى واضح لإدراك اتفاق نووي نهائي مع السداسية الدولية ينال مباركة الجماعة الدولية قاطبة من شأنه أن يستنفد -بمرور الوقت- رصيد المساندة الشعبية لذلك الإصرار، مهما بلغ حجمها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.