ميركل والسيسي.. ربحا الدجاجة وربحنا قشر البيضة!

المتظاهرون بجوار الفندق الذي نزل به السيسي رفعوا شعارات رابعة وهتنفوا بسقوط الديكتاتورية العسكرية بمصر. الجزيرة نت
الجزيرة

هل جنينا من رحلة السيسي إلى ألمانيا فرحتنا العارمة بالحرج الشديد الذي تعرض له، وجنى هو ونظامه والألمان اتفاقيات الطاقة والتعاون العسكري لمكافحة "الإرهاب الإسلامي" في مصر، فضلا عن "الاعتراف الألماني الصريح" بالانقلاب؟!

يبدو أن هذا هو الحصاد المر للرحلة للأسف الشديد، فقد هلل الإعلام المعارض للانقلاب وزغردت أخواته من مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهرات المضادة لقائد الانقلاب في برلين، وأثنت ثناء كبيرا ومستحقا على شجاعة الشابة المصرية "فجر العادلي" التي صرخت في وجه السيسي أثناء اجتماعه مع المستشارة الألمانية هاتفة: يسقط يسقط حكم العسكر.

وكرر الإعلام المعارض للانقلاب باهتمام كبير الحديث عن رفض رئيس البرلمان الألماني الالتقاء بالسيسي، بل تحدث باحتفاء واضح عن انتقاد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -أثناء لقائها السيسي- للأحكام التي أصدرها القضاء المصري ضد المعارضين السياسيين، وأن موقف ألمانيا واضح تجاه أحكام الإعدام الكثيرة التي صدرت ضد الإخوان المسلمين وأنصارهم.

احتفاؤنا الصارخ بإحراجات السيسي والوفد "الفني" الذي رافقه تمت على الرغم من أن الجانب الآخر للرحلة السعيدة صب في صالح الانقلاب بامتياز، ولم يكن سريا بأي معنى، ولم يجر في كواليس أو غرف مغلقة، ولو افترضنا أن بعضه كان سريا فإن بعضه الآخر كان علنيا أمام أعين الدنيا

إلا أن هذا كله لم يغير شيئا ذا قيمة على الأرض، ولم يقدم خطوة واحدة إلى الأمام في مواجهة الانقلاب، وأكبر ما يمكن أن يؤدي إليه هو أن يُحكَم على الأبرياء بالمؤبد، أو الإعدام البطيء، بدلا من الإعدام الفوري!!

والعجيب أن احتفاءنا الصارخ بإحراجات السيسي والوفد "الفني" الذي رافقه تم على الرغم من أن الجانب الآخر للرحلة السعيدة صب في صالح الانقلاب بامتياز، ولم يكن سريا بأي معنى، ولم يجر في كواليس أو غرف مغلقة، ولو افترضنا أن بعضه كان سريا -وهو ما ترفضه الديمقراطية الألمانية أصلا- فإن بعضه الآخر كان علنيا أمام أعين الدنيا وكاميرات العالم!!

وهذا البعض المعلن كان عبارة عن اتفاقيات أولية وغير أولية، عسكرية وتجارية تضخ دماء جديدة في جسم الانقلاب المعتل، وتعين على إنعاشه من أزماته الطاحنة التي يمر بها، وتساعده على حراسة نفسه ومعاقبة خصومه الفعليين والمحتملين بالقوة العسكرية تحت سماء "محاربة الإرهاب" المطاطة التي يمكن أن يدخل تحتها أي معارض لإجرام النظام. وفي المقابل سيجني الألمان فرصا اقتصادية خاصة في ظرف إقليمي ودولي دقيق.

نعم، وقف السيسي في لقاء ميركل موقف التلميذ المهذب أمام معلمته التي ستمن عليه ببعض المعونات والمساندات، لكن هذا هو الذي صنع المشهد المؤلم كله، أعني أن الإرادة الغربية الداعمة للسيسي ومجموعة الجنرالات الحاكمة لمصر عزمت عزما أكيدا على بقاء الانقلاب واستمراره، لأنه لا مصلحة للغرب -في أعرق ديمقراطياته وأحدثها على السواء- في أن تُحكَم "أسواقها التجارية والثقافية" بمشروعات وطنية تعمل لصالح بلدانها وشعوبها، بقطع النظر عن كون هذه المشروعات إسلامية أو غير إسلامية، والأفضل لها أن يكون في الحكم مثل هؤلاء المغامرين الأغرار.

إذن هي الرأسمالية ترعى الاستبداد في أشرس حالاته، وتجني الرحيق لنفسها ولو من فم الثعبان، وتستمر في سيرتها الاستعمارية المعهودة، وتحقق نظريتها القائمة على السعي إلى إقامة مجتمع الرفاهية في بلادها على حساب الآخرين.

لقد نجحت المستشارة الألمانية بدبلوماسيتها الناعمة في صرف الانتباه عن هذه الحقيقة المرة للقاء، ووقفت موقف الواعظ الذي يوجه كلامه للديكتاتور ويتهم قضاءه بالقسوة، وغطت بهذا على الحقيقة المرة، وهي أن الحاكم المصري الذي تتحدث إليه جاء على ظهر دبابة خشنة دهست جسم الوطن والمواطن، وغطت الديمقراطية المصرية الوليدة بسرابيل من الدم القاني، وها هو يجد الدعم ماديا ومعنويا، سياسيا واقتصاديا من واحدة من أكثر التجارب الديمقراطية استقرارا في العالم.

صارت المسألة كأنها أحكام إعدام قاسية أو حتى ظالمة يجب رفعها، مع أن صرخات الجماهير المعارضة للانقلاب في مصر وخارجها ما زالت ترتفع منذ عامين، وتدفع الثمن غاليا من دمها كل يوم في شوارع مصر وفي معتقلاتها القاسية، لا لأجل أحكام الإعدام هذه الصادرة بحق مجموعة من الأشخاص مهما يكن شأنهم، ولكن حتى لا يُعدَم الوطن كله، وحتى تكسر مصر أغلالها إلى الأبد.

والحقيقة أن الإعلام العربي والدولي تعمد ألا يتنبه إلا قليلا لحقيقة الزيارة، فقد أبرز في عناوينه انتقاد الألمان لملف حقوق الإنسان في مصر وأحكام الإعدام الكثيرة التي صدرت بحق "المعارضين"، وترك الجانب الأهم للتفاصيل الداخلية من الأخبار والتحليلات.

ومن التحليلات التي خرجت عن هذا الخط ما نشره موقع مجلة دير شبيغل الألمانية في الثالث من يونيو/حزيران منتقدا استقبال المستشارة الألمانية للسيسي، وأنه "على الرغم من أن ميركل ذكرت سابقا أنها لن تدعو الزعيم المصري لزيارة ألمانيا إلا بعد إجراء الانتخابات البرلمانية التي لا يحتمل أن تكون حرة ولا نزيهة أصلا، فإنها دعته حتى دون أن يتحدد أي موعد للانتخابات".

تكشف الزيارة تلك الطبيعة الرأسمالية التي ترعى الاستبداد في أشرس حالاته، وتجني الرحيق لنفسها ولو من فم الثعبان، وتستمر في سيرتها الاستعمارية المعهودة، وتحقق نظريتها القائمة على السعي إلى إقامة مجتمع الرفاهية في بلادها على حساب الآخرين

وكشفت محررة دير شبيغل رانية سلوم في هذا المقال الذي جاء تحت عنوان "برلين ترسل رسالة سيئة باستقبالها للسيسي" عن السبب في هذا التحول، فذكرت أن دعوته لزيارة برلين كان قد سلمها وزير الاقتصاد الألماني سيغمار غابريل أثناء مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في مارس/آذار الماضي، عقب توقيع اتفاقيات تفاهم بحوالي عشرة مليارات يورو!

وأضافت الكاتبة ما تريد هذه السطور تأكيده، وهو أن استقبال السيسي منحه الاعتراف الدولي الذي يحتاج إليه، أو على الأقل -كما يمكن أن نقول- ضاعف من دعم موقعه في الحكم دوليا، ومنحه شرعية تصفها سلوم بأنها شرعية "زعيم يحكم مصر بوحشية أكثر مما فعل حسني مبارك.. إنها صفعة على وجه من قاتلوا من أجل الديمقراطية في مصر. وترسل رسالة بأن ألمانيا التي امتدحتكم مرة تخونكم الآن".

ومع أهمية هذا المقال وما أشار إليه فيما بعد من سجل سيئ للقاهرة في العلاقات الإقليمية، من تدخلات مصرية في ليبيا ودفعها إلى الحرب الأهلية، وعدم القيام بوظيفة الوسيط النزيه بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ فإنه تبقى مجموعة من الحقائق الثابتة شاخصة للعيان، وأولاها أن المجتمع الدولي لم يرض ببقاء الانقلاب في مصر على أنه أمر واقع، بل هو يسعى بقوة إلى مد حبال الحياة وتوفير أسباب البقاء له في مواقعه المهتزة، وأسباب ذلك هي تحقيق مصالح سياسية واقتصادية لن تحققها له أنظمة وطنية حرة.

وثاني هذه الحقائق أن الظهير الخارجي مهم للثورة المصرية، خاصة في الجانب الإعلامي والحقوقي، إلا أن أهم أوراق الحسم تبقى في الداخل، نظرا لأن طرفي المواجهة الأساسيين في المشهد المصري قادران على خوض مواجهات اجتماعية طويلة المدى ومتنوعة الأساليب، كما أن أجزاء منهما قابلة للتحول أو تغيير الموقف، مما يمكن أن يمثل متنفسا لكل طرف على حساب الآخر حتى تُحسَم المعركة لأحدهما.

وثالث هذه الحقائق هو أن الظهير الخارجي أكثر أهمية للنظام منه للمطالبين بعودة الشرعية واستكمال التجربة الديمقراطية في مصر، وطول الأمد قد يؤدي إلى تراخي الأيدي الخارجية المساعدة للانقلاب، أو حتى يغير مواقفها، إلا أن حشر أطراف دولية جديدة من وقت إلى آخر -مثل ألمانيا- قد يكون أسلوبا مهما لإطالة عمر الحكم العسكري، وهذا هو جوهر المسألة الذي يجب أن نتنبه إليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.