داعش وواشنطن وليل الرمادي الطويل

Displaced Iraqis from Ramadi cross the Bzebiz bridge fleeing fighting in Ramadi, 65 km west of Baghdad, Iraq, Wednesday, May 20, 2015. Thousands of displaced people fleeing violence in nearby Anbar province poured into Baghdad province on Wednesday after central government granted them conditional entry, said a provincial official. (AP Photo/Karim Kadim)
أسوشيتد برس

تعد محافظة الأنبار ومركزها مدينة الرمادي كبرى محافظات العراق مساحة، حيث تبلغ 138.500 كم2، يقطنها نحو مليوني نسمة، وتقع غربي العراق، وترتبط بحدود طويلة مع سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية.

كما تلاصق محافظة صلاح الدين ومركزها تكريت، وتتجاور مع محافظة كربلاء، مثلما هي قريبة من بغداد العاصمة، حيث يبعد مركز المحافظة (الرمادي) 100 كلم عن بغداد، في حين تبعد الفلوجة عنها بنحو 50 كلم.

في 15 مايو/أيار 2015 وقع مركز المحافظة (الرمادي) بالكامل بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي قام بإعدام المئات من الأهالي، بعد أن اضطرت قوات الجيش العراقي إلى الانسحاب، مثلما تركت قوات الشرطة المحلية وقوة مكافحة الإرهاب مواقعهما.

إذا كان قد مر نحو عام على سقوط الموصل، ولم تتمكن أميركا التي تدعم القوات العراقية والبشمركة الكردية من استعادتها، فهل ستتمكن من استعادة الأنبار بسرعة؟ الشكوك وعلامات الاستفهام لها ما يبررها، مع سعي داعش لتثبيت أقدامها إستراتيجيا

يضاف إلى ذلك أن طيران قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لم يقدم الدعم المطلوب بحيث يرجح كفة القوات العراقية على كفة داعش، وظل أهالي الرمادي نحو عام يدافعون عن مركز المحافظة ضد داعش وهجماتها وانتحارييها، يستنجدون بالعشائر، ويتسولون السلاح، ليتمكنوا من الاستمرار في المواجهة، لكن المعركة في نهاية المطاف حُسمت لغير صالحهم بسبب اختلال موازين القوى.

قامت داعش بعد استيلائها على الرمادي بتدمير مباني الحكومة الأساسية، الأمر الذي اضطر السكان المدنيين، ولا سيما النساء والشيوخ والأطفال إلى هجرة جماعية هربا من انتقامها، ويقدر عدد الذين تركوا منازلهم بنحو 200 ألف شخص بحثا عن الأمان، حسب تقدير المفوضية العليا لحقوق الإنسان.

ويعاني النازحون من ظروف قاسية بسبب الإجراءات الأمنية المشددة التي أدت إلى اكتظاظهم عند مشارف العاصمة بغداد، وذلك بسبب مطالبتهم بإيجاد كفيل شخصي لهم، بزعم الخوف من تسلل بعض العناصر الإرهابية من تنظيم داعش أو غيره.

لقد سبب وقوع مركز محافظة الأنبار بيد داعش صدمة جديدة، بخصوص قدرة الجيش العراقي وفاعليته، ناهيك عن تماسكه وعقيدته العسكرية، وهو أمر طالما شكك به الأميركيون.

من جهة أخرى، فإن الصدمة شملت أوساطا عراقية وعربية غير قليلة، بسبب عدم مبالاة الولايات المتحدة، لدرجة أن هناك من اتهمها بترك الأنبار تقع بيد داعش وتركيزها على مصفاة بيجي، ومثل هذا الرأي لم يكن حكرا عن بعض العراقيين والعرب، بل أكده جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأميركي.

وأظهرت الإستراتيجية العسكرية الأميركية التي تقود التحالف الدولي عدم جدواها بل عجزها حتى الآن عن القضاء على داعش، حيث تنامى التنظيم واحتل المزيد من الأراضي التي لم يكن يسيطر عليها عند احتلاله "المفاجئ" للموصل في يونيو/حزيران 2014.

وقبل السؤال عن ما الذي يمكن فعله للقضاء على داعش، لا بد من صيغة أخرى للسؤال، ما السبيل للقضاء على التطرف والتعصب وأسبابهما الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية وسياسات الاستتباع وعدم عدالة النظام الدولي وغير ذلك؟

لعل داعش تمثل أحد مظاهر التطرف الأكثر تعقيدا وهمجية، وإذا كانت هزيمته عسكريا ضرورة ملحة، لكنه لا يمكن القضاء على هذا المرض المستعصي، دون استئصال الفكر المتطرف، كي لا يفقس بيضه ويأخذ أسماء وأشكالا مختلفة، وهذا الفكر هو الذي لعب دورا أساسيا في صعود داعش وأخواتها، خصوصا في ظل شح الحريات وضعف الدولة الوطنية، وتغول السلطة، وصراعات ما قبل الدولة، الطائفية والمذهبية والإثنية.

معركة استعادة الأنبار قد تطول لأسباب منها أن الجيش العراقي لا يزال ضعيفا ومُنهكا، بل مثقلا بما حصل في الموصل ومؤخرا في الأنبار، ويفتقد إلى عقيدة عسكرية موحدة، خصوصا أن تأسيسه كان أقرب إلى اتحاد مليشيات لا يتمتع بالمهنية المطلوبة

لقد فشلت الولايات المتحدة طيلة ربع القرن الماضي في تقدير القوة الحقيقية لقوى التكفير الإسلاموية، وكانت ردود الأفعال ضد سياستها سببا في انتشار الجماعات المتطرفة، ابتداء من شمال أفريقيا في العام 1998 مرورا باحتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، ثم قصف قوات حلف الناتو والتحالف الدولي لليبيا وبعدها التدخل في سوريا، وتعويم المشكلة السورية، وصولا إلى نيجيريا.

وأخيرا فشل سياسة واشنطن في منع حملات التجنيد لصالح داعش، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وهو ما ذهب إليه بول بيرمان أحد منظري السياسة الخارجية الأميركية.

إذا كان الهدف هو تدمير التنظيم، فإن سياسة "الاحتواء" أو مقاومة إغراء التدخل العسكري لا تعني سوى تحجيم التنظيم أو تقليص نفوذه وليس القضاء عليه، وبين هذا وذاك اختلاف كبير بين الغايات والوسائل، وبين الحسابات القصيرة المدى والإستراتيجية البعيدة الأمد.

إذا كان قد مر نحو عام على سقوط الموصل، ولم تتمكن الولايات المتحدة التي تدعم القوات العراقية والبشمركة الكردية من استعادتها، فهل ستتمكن من استعادة الأنبار بسرعة؟ الشكوك وعلامات الاستفهام لها ما يبررها، حيث تتربع داعش وتحاول تثبيت أقدامها في خطوات إستراتيجية جديدة لا تقوم على الهجوم فحسب، بل تسعى بعد هجومها لاحتلال المدن والبقاء فيها والعمل على إدارتها، ضمن خطط شاملة في إطار تنظير سياسي جديد يهيئ لإقامة دولة الخلافة الإسلامية.

معركة استعادة الأنبار قد تطول وقد تبدأ متقطعة لعدد من الأسباب:

– أولها أن الجيش العراقي لا يزال ضعيفا ومُنهكا، بل مثقلا بما حصل في الموصل ومؤخرا في الأنبار، ويفتقد إلى عقيدة عسكرية موحدة، خصوصا أن تأسيسه كان أقرب إلى اتحاد مليشيات، حيث لا يتمتع بالمهنية المطلوبة والحرفية المفترضة والولاء الوطني، بل إن ولاء بعض منتسبيه وقادته أكثر لأمراء الطوائف أو لزعماء بعض الجماعة السياسية، المذهبية والإثنية.

– وثاني هذه الأسباب أن الخلافات السياسية لا تزال تعصف بين الأصدقاء الأعداء المشاركين بالعملية السياسية، وهي خلافات إقصائية وتهميشية، وكل طرف يريد الحصول على امتيازات على حساب الآخر، ناهيك عن تلكؤ الجهود للتوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية.

– وثالثها غياب إرادة سياسية موحدة تستطيع مواجهة التحديات الخطيرة لتنظيم إرهابي مثل داعش، ولا يمكن والحالة هذه مواجهة داعش بأجندات خاصة وفي إطار إستراتيجيات وتكتيكات غير متفق عليها.

– ورابعها أن الخلاف يمتد إلى أن بعض القوى تراهن على واشنطن (الأكراد، السنية السياسية، اتحاد القوى الوطنية)، في حين تشكك أخرى بنواياها وتعتبر قصفها الجوي غير مُجد، بل أحيانا فيه تواطؤ مع داعش، ويذهب هذا الفريق أكثر من ذلك حين يقول إنه سيقاتل الأميركيين فيما إذا أرسلوا قوات برية (مثلما هي الشيعية السياسية، ممثلة بمقتدى الصدر ومنظمة بدر وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وغيرهم من جماعة الحشد الشعبي).

لا يمكن هزيمة تنظيم داعش عسكريا، فضلا عن القضاء عليه سياسيا في العراق، إذا كان له عمق إستراتيجي في سوريا، فالأمر يحتاج إلى إستراتيجية موحدة، في العراق وسوريا، وتعاون دولي وإقليمي فعال ضده، لأنه يمثل الخطر الحقيقي الأكثر دموية

وتراهن هذه القوى على إيران وتعدها المنقذ أو الظهير للتصدي لقوات داعش في حين تعتبرها قوى أخرى، ولا سيما العشائر السنية وكتلة اتحاد القوى الوطنية، ضالعة بمسألة الهيمنة على العراق، مستغلة وجود داعش، بل إن خطرها لا يقل عن خطر داعش.

– وخامسها أن البعض يراهن على الحشد الشعبي الذي يتألف غالبيته الساحقة من الشيعة السياسية، في حين أن هناك من يرفض دخوله إلى مناطق غرب وشمال العراق العربية السنية، خصوصا بعد الانتهاكات التي اتهم بها في تكريت، كما أن البشمركة الكردية تعارض وجوده في المناطق التي تسيطر عليها.

– وسادسها أن هناك من يدعو لتأسيس الحرس الوطني ليكون رافدا للجيش العراقي، خصوصا من أهالي المحافظات ليتمكن من إدارتها، لكن هناك من يرفض ذلك، حتى إن النقاش في البرلمان لم يتمخض عن الوصول إلى اتفاق، ولا سيما بانعدام الثقة والحرب الباردة الدائرة بين "الحلفاء" الذين يشكك بعضهم بالآخر.

– وسابعها هناك من يطلب تسليح العشائر السنية والبشمركة الكردية بمعزل عن الحكومة الاتحادية، وهو ما رفضه مجلس الشيوخ الأميركي أواسط يونيو/حزيران الجاري وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن تأييدها لقراره، في حين أن القوى المتنفذة في البنتاغون تريد المضي في هذه الخطوة التي تم الترويج لها بصورة دعائية وصاخبة، وربما لأهداف بعيدة المدى.

– وثامنها ازدواجية سياسة واشنطن وانتقائيتها، فهي كانت قد غضت النظر على وجود تنظيم داعش واحتلاله ما يزيد على ثلث الأراضي السورية، في حين أنها تحركت وإن ببطء لقصف بعض مواقعها بعد احتلالها محافظة الموصل في العراق وتمددها نحو محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي ديالى وكركوك.

ولا يمكن هزيمة تنظيم داعش عسكريا، فضلا عن القضاء عليه سياسيا في العراق، إذا كان له عمق إستراتيجيي في سوريا، فالأمر يحتاج إلى إستراتيجية موحدة، في العراق وسوريا، وتعاون دولي وإقليمي فعال ضده، لأنه يمثل الخطر الحقيقي الأكثر دموية، ليس على سوريا والعراق ودول المنطقة فحسب، بل إن خطره أصبح عالميا، وحركته عابرة للحدود والبلدان والقارات، بما فيها على الغرب نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.