المبادرة الفرنسية.. ضياع للقدس وتراجع عن المكتسبات

الجدار العازل جنوب القدس يلتهم أراض من بلدة بيت جالا وبيت لحم
الجزيرة

تنسيق من تحت الطاولة
سقف منخفض
رد دبلوماسي خجول
الجدار الديمغرافي

بدأت حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة مسارها العملي بالتخبط المتتالي في صراعات ومناكفات سياسية، مع ارتفاع مستوى الصراخ المتبادل بين مكوناتها الحزبية الائتلافية، وبينها وبين أطراف المعارضة التي يتزعمها رئيس حزب العمل إسحق هرتسوغ.

ففي حمى تلك الصراعات تتداخل كل العناوين المدرجة، الداخلية الإسرائيلية الصرفة، والخارجية المتعلقة بالعلاقات الإسرائيلية مع الولايات المتحدة، ومسار العملية السلمية التسووية الغارقة في سباتها العميق منذ سنوات طويلة، وتحديدا مع تواتر الحديث عن وجود مشروع قرار أو مبادرة فرنسية سيتم تقديمها لمجلس الأمن لاستئناف العملية السياسية التفاوضية.

كما بدأت نفس الحكومة مشوار عملها، بإطلاق سلسلة من المواقف العملية التي تهيل المزيد من التراب على ما تبقى من عملية التسوية، كان منها على سبيل المثال طرح عطاءات جديدة لبناء المزيد من الوحدات الاستيطانية التهويدية في قلب الأحياء العربية الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس وعلى محيطها، كما في إقدام بنيامين نتنياهو على تسمية وزارة خاصة باسم وزارة شؤون القدس، وتعيين الليكودي الصهيوني المتعصب "زئيف ألكين" وزيرا لها، في خطوة سياسية لها دلالاتها القاطعة بالنسبة لمصير المدينة ومسار العناوين المعقدة أصلا في إطار العملية السياسية الغارقة في سباتها العميق.

بدأت الجهود الفرنسية لإعادة استيعاب الوضع التفاوضي المنهار بين الفلسطينيين والإسرائيليين بترحيب أميركي مضمر، وبتنسيق غير مرئي مع أميركا منذ أن انهارت جهود جون كيري خلال العامين الماضيين، بما في ذلك انهيار ما سمي بـ"مفاوضات التقريب"

فما الذي يجري الآن بشأن مدينة القدس في ظل الحديث عن مشروع القرار أو المبادرة الفرنسية بالتشارك مع الولايات المتحدة لإعادة إطلاق العملية السياسية بين الطرف الرسمي الفلسطيني والطرف الإسرائيلي؟

تنسيق من تحت الطاولة
في حقيقة الأمر، بدأت الجهود الفرنسية لإعادة استيعاب الوضع التفاوضي المنهار بين الفلسطينيين و الإسرائيليين بترحيب أميركي مضمر، وبتنسيق غير مرئي (من تحت الطاولة) مع الولايات المتحدة منذ أن انهارت جهود الوزير الأميركي جون كيري خلال العامين الماضيين، بما في ذلك انهيار ما سمي بـ"مفاوضات التقريب" التي جرت في العاصمة الأردنية عمّان طوال النصف الأول من العام 2014.

وهي المفاوضات التي انتهت إلى طريق مسدود نتيجة التهاون الأميركي مع الطرف الإسرائيلي بالنسبة لعدة مواضيع كان أهمها استمرار عمليات تهويد الأرض الفلسطينية واستيطانها، وابتعاد واشنطن عن اتباع منطق الضغوط على الطرف الإسرائيلي وتسليطه على الطرف الفلسطيني فقط.

الدور الفرنسي الذي نتحدث عنه، ظهر على السطح جليا عندما حاول الفرنسيون تقديم مسودة أولية لمجلس الأمن لمشروع قرار لاستئناف مفاوضات التسوية المتوقفة على مسارها الفلسطيني الإسرائيلي كبديل لمشروع القرار الفلسطيني بشأن الاعتراف بدولة فلسطين، لكن الفرنسيين تمهلوا في حينها، وباتوا الآن على مقربة من تقديم مشروع إطار لاستئناف العملية التفاوضية كما أكد على ذلك قبل أيام خلت وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس.

مشروع القرار الفرنسي، الذي تم تسريب مضمونه، يشير البند الأول منه والأكثر أهمية فيه لحل "دولتين لشعبين"، والذي يستند إلى حدود العام 1967، وعلى تبادل الأراضي (من أجل نسخ المستعمرات وإدامتها). فيما تحدث المشروع الفرنسي عن قضية القدس كمدينة موحدة وكعاصمة مشتركة، بحيث تقع الأحياء اليهودية والمواقع المقدسة لليهود تحت "السيادة الإسرائيلية" الكاملة، والأحياء الفلسطينية والأماكن المقدسة للمسلمين تحت سيادة فلسطينية (لاحظوا عبارة: تحت سيادة فلسطينية!) وهنا الطامة الكبرى بالنسبة لموضوع القدس.

فيما يعالج البند الثالث الترتيبات الأمنية على طول الحدود الفاصلة بين الكيانين، بما في ذلك تواجد طويل الأمد لقوات الجيش الإسرائيلي في منطقة الأغوار على الحدود الأردنية الفلسطينية مع نشر قوات دولية، وبحيث تكون دولة فلسطين منزوعة السلاح تماما.

أما قضية اللاجئين الفلسطينيين فيجري التعامل والتعاطي معها بطريقة مشتركة ومتوافق عليها (بعيدا عن القرار 194 القاضي بحقهم في العودة إلى أرض الآباء والأجداد في فلسطين)، وصولا إلى الاعتراف المتبادل بين الكيانين وإنهاء الصراع. مع وضع جدول زمني شبه مفتوح، سواء للمفاوضات أو لتطبيق الاتفاق.

سقف منخفض

مشروع المبادرة الفرنسية التي يجري التداول الآن بشأنها داخل كواليس الدبلوماسية الغربية بالتواصل مع الطرف الرسمي الفلسطيني والطرف الإسرائيلي، مجرد مبادرة نظرية لا تحمل آلياتها، وتبتعد عن قرارات الشرعية الدولية ومرجعياتها وتهبط إلى تحت سقفها

الأمر الملفت هنا، أن مشروع القرار المفترض أو المبادرة الفرنسية، والتي يجري التداول الآن بشأنها داخل كواليس الدبلوماسية الأميركية والأوروبية وبالاتصال والتواصل مع الطرف الرسمي الفلسطيني والطرف الإسرائيلي؛ محض مبادرة نظرية لا تحمل آلياتها، وتبتعد عن قرارات الشرعية الدولية ومرجعياتها وتهبط إلى تحت سقفها، لتجعل من منطق ما يتم التفاوض بشأنه والاتفاق عليه بديلا لقرارات ومرجعية الشرعية الدولية.

وهو ذات الموقف الأميركي الذي قاد العملية السياسية باتجاه الجدار المسدود منذ سنوات طويلة، ذلك لأن المبادرة الفرنسية تكرر المكرر، لكن بطبعة دولية أوسع نتيجة المشاركة الفرنسية مع الولايات المتحدة التي كانت وما زالت حتى الآن الراعي العملي الوحيد لعملية التسوية بعيدا عن اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة) التي لم يعد أحد يسمع بها.

والأهم من كل ذلك في مشروع المبادرة الفرنسية، أن الغموض يسيطر على قضية القدس، حيث تميل الأفكار الفرنسية نحو تبني الموقف الإسرائيلي كاملا في ما يخص المدينة العربية الفلسطينية المقدسة، حين تطرح شكلا محدودا من أشكال السيادة الفلسطينية الشكلية على المقدسات الإسلامية في المدينة فقط.

والأمر ذاته في القضايا المتعلقة بالترتيبات الأمنية ونشر قوات "الجيش الإسرائيلي" في الأغوار، واستبعاد موضوع الجدول الزمني المحدد لتترك الأمور على غاربها تحت رحمة عامل الزمن الذي تستفيد منه إسرائيل لإحداث المزيد من الوقائع الديمغرافية على الأرض، وخصوصا في منطقة القدس والمستعمرات الكبرى ذات البعد الإستراتيجي والمقامة فوق مناطق محتلة من الضفة الغربية لجهة توسيعها وتسمينها.

رد دبلوماسي خجول
رد الفعل الرسمي الفلسطيني على المبادرة/المشروع الفرنسي -وكما تشير بعض التسريبات المتواترة كل يوم- يتحفظ على المبادرة الفرنسية بشكل دبلوماسي فائق الكياسة وخجول.

فالتحفظ الفلسطيني الرسمي يدور خصوصا لجهة موضوع تبادل الأراضي، حيث يصر الطرف الرسمي الفلسطيني على الحد الأدنى من تبادل الأراضي وتحديدها، وأيضا تحديد التواجد "الأمني الإسرائيلي" في الأغوار لفترة انسحاب لا تتجاوز العامين فقط، ويطالب بصيغة أكثر تشددا في موضوع السيادة الفلسطينية في القدس الشرقية وجبل الهيكل (المسجد الأقصى المبارك) ويصرون على جدول زمني لا يتجاوز العامين لإنهاء الاحتلال.

 
أما باقي القوى الفلسطينية وخصوصا فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فأعلنت بشكل واضح رفضها لمنطق المشروع الفرنسي ودعوتها لإعادة بناء كل العملية السياسية على أساس الرعاية الدولية وتحت سقف قرارات الشرعية الدولية كرزمة واحدة.

الغموض يسيطر على قضية القدس في المبادرة، حيث تميل الأفكار الفرنسية نحو تبني الموقف الإسرائيلي كاملا في ما يخص المدينة الفلسطينية المقدسة، حين تطرح شكلا محدودا من أشكال السيادة الفلسطينية الشكلية على المقدسات الإسلامية في المدينة فقط

وعلى ضفة الموقف الإسرائيلي، يبدو أن مواقف نتنياهو وائتلافه الحكومي أبعد كثيرا من المقترحات الفرنسية بالرغم من التعاطي الدبلوماسي معها من ناحية الأخذ والرد. ففي نهج حكومته الجديدة لم يرد ذكر حل الدولتين إطلاقا، بينما يشكل استمرار البناء في المستعمرات وتوسيعها خيارا مستقبليا حقيقيا، وهذا الموقف معروف جيدا في المواجهة الشديدة التي اندلعت بين رؤساء وزارة الخارجية الإسرائيلية والفرنسية عند لقائهم في القدس المحتلة في العاشر من مايو/أيار 2015.

الجدار الديمغرافي
الآن ومع الحديث عن مشروع المبادرة الفرنسية، وفي حمى سوق المزاودات والأصوات السياسية العالية داخل "إسرائيل" في صفوف الائتلاف الحاكم، وبين الائتلاف والمعارضة، يواجه نتنياهو ومعه تلك الأصوات التي تحمله مسؤولية تصفية "القدس اليهودية" من خلال توسيع حدودها الإدارية منذ حكومته السابقة، وإغراقها بالقرى والأحياء العربية الفلسطينية المحيطة بها، والقبول بمسألة تقسيمها في إطار التجاوب الأولي الذي أبداه مع مشروع المبادرة الفرنسية.

تلك الأصوات ترتفع عقيرتها الآن وهي تقول "قدس يهودية، صهيونية وديمقراطية"، مشيرة إلى أن عموم سكان القدس الكبرى الآن (وفق خريطة الاحتلال) بعد توسيع حدودها الإدارية بشكل متتال، يبلغ نحو (860) ألف نسمة، نحو ثلثهم من المواطنين الفلسطينيين (أصحاب الأرض الحقيقيين)، ونحو ثلثهم أصوليون يهود، والثلث الأخير يهود صهاينة ينتمون لتيارات وقوى "اليمين القومي العقائدي الصهيوني".

لذلك يقول العديد من صناع القرار الإسرائيلي "ليس ثمة في العالم عاصمة معظم سكانها لا يتماثلون مع كامل الهوية القومية لدولتهم. إن السبيل الوحيد للحفاظ على القدس اليهودية كعاصمة لإسرائيل هو إصلاح هذا الخطأ، بإعادة الـ28 قرية إلى الضفة الغربية ومواصلة بناء الجدار الأمني الذي بدأه أرييل شارون في القدس في 2004.

هذا الجدار يجب مواصلته جنوبا وغربا كي تصبح قرى مثل جبل المكبر وصور باهر والولجة، خارج النطاق البلدي للقدس. هكذا تعود القدس لتكون مدينة فيها أغلبية يهودية مستقلة. وبالطبع، فإنها ستضم في نطاقها كل الأحياء اليهودية التي أقيمت بعد 1967″.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.