فجر العادلي.. عدالة ثورة تفجر مشروع طاغية

تغريدات هاشتاغ #فجر_العادلي

الحوار الذي أجري على شاشة القناة الألمانية الأولى "أي آر دي" (ARD) عرّف المجتمع الألماني بوضوح على المرأة التي أفسدت قبل ذلك المؤتمر الصحفي المشترك ما بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وقائد الانقلاب المصري عبد الفتاح السيسي.

فيوم صرخت تلك الإعلامية المحجبة على الملأ أن الضيف المصري ما هو إلا "قاتل سفاح نازي"، تحولت إلى نجم يستحق الاكتشاف، خصوصا أن حياد المهنة يقتضي من الإعلامي عدم الخروج عن النص.. خروج سبقها فيه الإعلاميون المرافقون للضيف بمقاطعة كلمته بالتصفيق مرارا في فضيحة أثارت السخرية.

ورغم أن المقارنة بين الموقفين غير عادلة، فإن ما فجّر ذهول الحاضرين -بعد رفض ميركل الاستماع لأسئلة الإعلامية الشابة- وقع عباراتها الشديد بحساسيتها المفرطة لدى المجتمع الألماني، ورمزية الربط بين ماضي ألمانيا النازي بحاضر مصر الانقلابي الممعن -بفضل الدعم الغربي- في حرق وسحل وقتل وسجن الأحرار، ورمزية ربط الماضي بمستقبل خصته الزيارة بعقود أنعشت قطاع الطاقة الألماني المهدد بشطب آلاف الوظائف.

باختصار أعادت صرخة الإعلامية الشابة -الشرقية المظهر، الألمانية اللسان- للأذهان مشهد حذاء الإعلامي العراقي منتظر الزيدي صوب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في مؤتمر صحفي ببغداد.. رسائل لم تخل من الابتكار مع تحقق الأهداف

باختصار أعادت صرخة الإعلامية الشابة -الشرقية المظهر، الألمانية اللسان، والإنسانية المحتوى- للأذهان مشهد حذاء الإعلامي العراقي منتظر الزيدي صوب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في مؤتمر صحفي ببغداد، وقالبي حلوى ألبسهما محتج هولندي رأس وزير حكومي أثناء خطاب رسمي.. رسائل لم تخل من الابتكار مع تحقق الأهداف.

وفي مجتمع يتتبع أخبار النجوم ويبحث عن غير المألوف، يمسي سباق وسائل الإعلام وراء هوية نجم الحدث أمرا متوقعا، والمفارقة -كما تبين لاحقا- أن وسائل الإعلام ذاتها غيبت احتجاجات المرأة الشابة حين قدمتها للمعنيين بطرق ديمقراطية متعارف عليها، باعتبار مكان الانتهاكات الحقوقية الإنسانية مدار الاحتجاج عالما ثالثا، يتقدم فيه الاقتصادي السياسي المصلحي على الديمقراطي الإنساني.

لا نتحدث هنا عن نجم عادي بقدر ما نتحدث عن موقف له رمزيته في مجتمع له حساسيته -بشكل ما- تجاه الأجنبي، ناهيك عن حساسية مضاعفة تجاه الحجاب، مبنية على صورة نمطية مسبقة رسختها آلات شيطنة إعلامية لما هو إسلامي، مدعومة بخطاب ينسب نفسه للإسلام على شاكلة أفلام قطع الرؤوس بالإنجليزية، أو نداء متحدث لتنظيم دولة "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) يدعى العدناني لمسلمي الغرب بالعربية يطالب المسلمين في الغرب باستهداف الغربيين.

فضول معرفة هوية من نقلت الفضائيات صرختها "قاتل.. فاشي.. نازي" -ثم إخراجها من القاعة على يد الأمن قبل إخلاء سبيلها دون ملاحقة قانونية- يقابله إذن بحث جهابذة الشيطنة عن مادة إعلامية دسمة تشوه صورة تلك المرأة، وتوزع أدوار بطولة إفساد المؤتمر على نحو غير عادل بين اثنين، طاغية زائر أشبعته وسائل الإعلام استهزاء وسخرية انسحبا على مرافقيه المنعوتين بالمصفقين، وجريئة -تبين أنها مواطنته- أسدلت بطريقتها الخاصة ستار مسرحية هزلية أقرب للفوضى في مجتمع يسوده التنظيم.

تداخل الأحداث فاتحة الباب للكثير من التأويلات ربما دعاها لإجابة طلب مجلة رصينة أكثر إنصافا كـ"ديرشبيغل" مقابلتها، لتسلط الأضواء على ابنة عائلة مصرية إسكندرانية قدمت للدراسة بألمانيا، ليعمل الأب فيها عالما في مجال الكيمياء الحيوية، فيما تخصصت الأم بعلم الإدارة، فولدت ابنتهما فجر العادلي بمدينة ماينتس، وبعد تفوق مدرسي ملفت التحقت لدراسة الطب بواحدة من أشهر كليات الطب في العالم بجامعة هايدلبيرغ العريقة.

قارئ المجلة -التي تخاطب النخبة المثقفة- وجد نفسه بعدها أمام واحدة من أكثر الناشطات الشابات بألمانيا فعالية، إذ تنشط كعضو بارز بعدد من المنظمات الشبابية ومنها "الاتحاد المصري الألماني من أجل الديمقراطية"، وكل ما سبق أخبار سيئة لانقلابيي بلادها، عند مقارنة القارئ بين مستوى نجمتنا العلمي والثقافي والسياسي وبين سخرية الإعلام الألماني من فضائح انقلابيين معززين بسجل مذهل في إجهاض الديمقراطية والتنمية، بما يعكس فارق الثقافة.

وهي مقارنة ساخرة تكتمل بتهديد المتغلب للآخر بسحب جنسيته، بعد امتلاء السجون بصفوة المجتمع من علماء وأكاديميين وحقوقيين وسياسيين وإعلاميين وثوار وطلبة، تقدم منهم ما يزيد على 2600 لأداء امتحانات الثانوية العامة بالسجن!

خلاصة القول، لم يغب عن المجلة العريقة الواسعة الانتشار تقديم الوجه الإعلامي لفجر العادلي كمراسلة صحفية لمحطة إذاعة راين فيله وبعض الصحف المحلية، وبما يمكنها من حضور مؤتمر صحفي تصفع فيه ما تبقى من نفاق سياسي وفاشية انقلابية، وحيث لم يسعفها -ما بدا أشبه بالمسرحية- من سؤال للمستشارة الألمانية -لا السيسي-: لِم تدعمين الانقلابيين رغم إقرار تاريخ ألمانيا باستحالة ضمان الاستقرار والرفاهية بدون دولة القانون؟ ولم حنثت بعهد قطعتيه على نفسك بعدم دعوة الانقلابي لزيارة ألمانيا قبل إجراء انتخابات برلمانية مصرية؟

عندما سألت المجلة العادلي إن كان صراخها بالمؤتمر قد تجاوز الخطوط الحمراء؟ أجابت: "لو لم أصرخ، لما سمع صوتي أحد. ولو كان المؤتمر بمصر لما استطاع أن يصرخ بوجهه أحد. فعلتها بألمانيا بلا خوف".

عندما سألت مجلة ديرشبيغل العادلي إن كان صراخها بالمؤتمر قد تجاوز الخطوط الحمراء؟ أجابت: لو لم أصرخ، لما سمع صوتي أحد. ولو كان المؤتمر بمصر لما استطاع أن يصرخ بوجهه أحد. فعلتها بألمانيا بلا خوف

خوف اعترى يوما نبي الله موسى إذ تطلب الأمر تبليغ رسالة ربه لفرعون زمانه -بمصر الأمس لا ألمانيا اليوم- وبأوجه مقارنة ملفتة بين الحالتين. ففي زمن غياب المعجزات، صدحت صرخة الشابة الصغيرة من أعماق بنائها الفكري وتكوينها الثقافي ليصيب تأثيرها صميم سلطان جائر وزبانيته.

وفي زمن المعجزات ابتلعت عصا موسى عليه السلام سحر وهيبة فرعون. وليس سرا أن مطبلي طغاة اليوم من إعلاميين وفنانين وراقصين أحفاد من طينة تلك الحاشية التي أحاطت بفرعون ذلك الزمان.

ربما ذهل قارئو ديرشبيغل باكتشافهم أن الفتاة التي ترفع شعارات "رابعة" عضو فاعل بمنظمة الشبيبة التابعة للحزب الديمقراطي الاجتماعي الشريك في الائتلاف الحاكم مع حزب ميركل. حول هذه النقطة تعلق العادلي: "شعرنا بخيبة الأمل بعد إرسالنا وأعضاء الاتحاد الألماني المصري من أجل الديمقراطية خطابات مفتوحة لبرلمانيين ألمان دون رد، حتى من نواب حزبنا سوى أندريا نالس التي بادرتنا: وجهوا رسائلكم إلى أنجيلا ميركل نفسها! لأرد: نوابنا منتخبون من الشعب، وعليهم توصيل رسالة أبناء الشعب".

وعن سبب رفع ناشطة حزبية ألمانية علامة "رابعة" التي يرفعها الإسلاميون، أردفت أن "رابعة" لا تخص الإخوان المسلمين فحسب، بل هي رمز لمقاومة انقلاب فاشي وإشارة تاريخية لمذبحة فض تجمع أحرار احتشدوا بميدان رابعة بالقاهرة في أغسطس/آب 2013، كأبشع مذبحة بتاريخ مصر الحديث، قُتل وحرق فيها أكثر من ثمانمئة إنسان.. سبب وجيه لنعت السيسي بالقاتل.

التحدي الأصعب للناشطة الشابة أمام الإعلام، تمثل بمحاورتها نخبة من رجال الإعلام والسياسة والمجتمع وجمهور أستوديو برنامج الإعلامي الشهير غونتر ياوخ على الهواء مباشرة بشاشة القناة الألمانية الأولى "أي آر دي" (ARD)، ليس فقط لكونه من أعلى البرامج مشاهدة بألمانيا، ولا لأن ضيوفه قامات سياسية ومجتمعية مخضرمة بامتياز، تحسب ألف حساب لمحاور مباشر ذكي، بل لكونها تجربة مبكرة لشابة في العشرينيات، تستضيف أبناء جيلها -عادة- برامج هي للشباب والتسلية والفن والموضة أقرب.

"هل بمقدور الساسة التصدي لأزمات العالم؟" كان موضوع حلقة غونتر ياوخ التي قدر لي متابعتها مباشرة بمناسبة قمة الدول الصناعية الكبرى السبع، وتضمنت الموقف المتعين اتخاذه إزاء موسكو على ضوء تطورات الحرب الباردة الحالية كالأزمة الأوكرانية.

 
ومع ضيوف بوزن بيتر آلتماير وزير مكتب المستشارية الألماني وقيادي من حزب "العادلي" الاشتراكي العضو بالائتلاف الحكومي، والرئيسة السابقة للكنيسة الإنجيلية بألمانيا، وناشر صحيفة "هاندلزبلات" الاقتصادية المعروفة في واحد من أكبر اقتصاديات العالم، أخذت العادلي موقعها.
 
وقياسا على الصورة المسبقة إزاء المرأة الشرقية في أذهان القوم، توقعت أن ما يجول بخلد مشاهد الأستوديو أو الشاشة -ممن لم يدرك مقابلة ديرشبيغل- واحد من اثنين: الأول وجود الشخص الخطأ في مكان خطأ، لا ناقة له فيه ولا جمل. فمداولات ساسة وخبراء فوق العادة بموضوع بالغ التعقيد من صلب السياسة والاقتصاد العالمي والأوروبي، لا تنسجم بالضرورة مع قضايا إنسانية تهم ضيفة صغيرة يصطدم مظهر حجابها -بدبوس رابعة- بالنموذج العلماني المدعوم من الغرب والذي يمثله جنرال كالسيسي.
 
والثاني: أن من يتقن الاحتجاج بنبرة عالية -وتجلياته مؤتمر ميركل الصحفي- لا يبرع بالضرورة بمحاورة تحلل الوقائع وتشخص العلل وتناقش الإستراتيجيات وتقدم الحلول وتستوعب الرؤى وتطرح البدائل وصولا لتوافقات المتحاورين.

ما حدث تلك الليلة -بعد حوار المخضرمين لفترة- كان مختلفا. قدم غونتر ياوخ وسط عاصفة تصفيق جمهور -عانق شجاعتها- مع عرض مشاهد صرختها الشهيرة بوجه ميركل.. صرخة تبينوا أنها نتاج سنتين من استنفاد كافة وسائل الضغط والتواصل مع مكتب وحزب وحكومة وبرلمان ميركل حول الالتزام الأخلاقي المطلوب تجاه انتهاكات حقوق إنسان مصر، وما يترتب عليه من إيقاف دعم الفاشيين.

نقطة التقطها المقدم بذكاء مخاطبا العادلي: "هل تعلمين أن المخاطَب باحتجاجاتك لا يبعد عنك سوى متر ونصف؟"، لتسقط الكرة بملعب الوزير -بالأستوديو- والذي أهمل الرد على اتصالات ومكاتبات فريق العادلي، ولم يجد الأخير خلاصا من الحرج سوى الإشادة بشباب مثقف واع يمثله نموذج فجر العادلي، مقرا أن كل ما فعلته الصواب بعينه.

العادلي في حوار تلفزيوني: ما يهمكم هنا بأوروبا وقف تدفق المهاجرين، وما يهمني بدراسة الطب معرفة أسباب المرض لا علاجه فحسب. أليس دعم الدكتاتوريات هو ما يتسبب في موجات المهاجرين تلك؟

ولربما التقط الحاضرون من وحي الموقف أن ديمقراطية رافعي شعار رابعة لا تقل -إن لم تزد- عن ديمقراطية حكوماتهم أنفسهم!

الرسالة الثانية التي نجحت العادلي بإيصالها بخطاب قوي العبارة صادق المحتوى دون تجريح، تتعلق بالسياسة الأخلاقية، منتقدة طرح بعض الساسة شعارات لا يلتزمون بها لاحقا -كحقوق الإنسان مثلا- مستشهدة بالتزامات قطعتها ميركل على نفسها عام 2011 دون أن تلتزم بها، كصفقات السلاح ودعم الدكتاتوريات.

الرسالة الثالثة هي استحالة الفصل بين مسؤوليات السياسيين العالمية وتحمل نتائجها الإقليمية والمحلية. تقول العادلي: ما يهمكم هنا بأوروبا وقف تدفق المهاجرين، وما يهمني بدراسة الطب معرفة أسباب المرض لا علاجه فحسب. أليس دعم الدكتاتوريات هو ما يتسبب في موجات المهاجرين تلك؟

الناشطة الشابة أذهلت الجميع بقوة حضور وعمق طرح وشمولية وعي، ليقر المتحاورون -بطريقة أو بأخرى- أنها القدوة والمثال الذي يحتاجه الشباب الغربي للتغيير، إن لم نقل شباب الربيع العربي في تحدي انتقالهم من السلبية إلى الإيجابية ومن الوعي إلى التأثير.

"أصابت امرأة وأخطأ عمر" حقيقة أعلنها خليفة العدل عمر. و"الإسلام مكون أساسي في النسيج المجتمعي الألماني" حقيقة فجرها وولف الرئيس الألماني السابق. معادلة الوصل بينهما بسيطة: بطولتك الحقيقية أن تكون أنت النموذج والقدوة.

فجر العادلي ومنتظر الزيدي قصة إلهام واحدة لكل من يطبع في الحياة ببصمة وموقف وبطولة، علنا على الهواء أمام سلطان جائر أو مجتمع منصف أو غير منصف، أو بهدوء بعيدا عن الأضواء.. وبالطبع بعيدا عن تلميع الإعلام نجوما مصطنعين يدفعون ثمن نجوميتهم الزائفة كما يدفعها غيرهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.