"تجفيف الينابيع" راهنا وفي تجارب سابقة

MOSCOW, RUSSIA - OCTOBER 4: Muslims living in Moscow perform Eid al-Adha prayer at the square and streets surrounding the Central Mosque located near the Prospekt Mira subway station, Moscow, Russia on October 4, 2014.

 

يعود مصطلح "تجفيف الينابيع" للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وتقوم فكرته على أن محاربة ما يسمى "الإسلام السياسي" لا يمكن أن تنجح من دون تجفيف ينابيع التدين في المجتمع، وأطلقه مطلع التسعينيات على خلفية صراعه مع حركة النهضة وزج بعناصرها وقادتها في السجون.

هناك للمفارقة من استخدم المصطلح قبل بن علي، وبعده أيضا، أعني الكيان الصهيوني، الذي كان ساسته يمعنون تفصيلا وتوضيحا، ودائما في حق حركة حماس، حين كانوا يقولون إنك لا تستطيع مكافحة البعوض (بعوض الإرهاب بحسب رأيهم) بقتل البعوض واحدة واحدة، بل لا بد من تجفيف المستنقع!!

لسنوات بدا أن البرنامج قد حقق نجاحا كبيرا في تونس، حيث غابت ملامح التدين من المجتمع، وبالطبع بعد أن طالت الحرب كل مظاهره، من الحجاب وصولا إلى مراقبة الناس في المساجد، وبين ذلك تشجيع كل عناصر الانحلال، وحاز بن علي تبعا لذلك الكثير من شهادات حسن السلوك الغربية، لا سيما أن ما جرى كان يتزامن مع الحرب التي كانت دائرة في الجارة الجزائر بين الإسلاميين وبين الجيش إثر الانقلاب على العملية الديمقراطية، ودخول ما باتت تعرف بالعشرية السوداء.

لسنوات بدا أن برنامج التجفيف قد حقق نجاحا كبيرا في تونس، حيث غابت ملامح التدين من المجتمع، وبالطبع بعد أن طالت الحرب كل مظاهره، من الحجاب وصولا إلى مراقبة الناس في المساجد، وتشجيع كل عناصر الانحلال، وحاز بن علي تبعا لذلك الكثير من شهادات حسن السلوك الغربية

على أن المشهد ما لبث أن تغير فجأة مع مطلع الألفية الجديدة إثر بروز ظاهرة الفضائيات ومن يسمون الدعاة الجدد، وشيوع ظاهرة الصحوة الدينية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وبالطبع لأسباب عديدة، منها ما ذكرنا، ومنها ما جاء كردة فعل على الهجوم الأميركي الذي أعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة, والذي حمل شعارات صليبية بسبب رعونة جورج بوش الابن.

قبل تجربة تونس، حدث شيء مماثل في سوريا بعد الصدام المسلح بين الإخوان المسلمين ونظام الأسد (الأب) مطلع الثمانينيات، من دون أن يُستخدم ذات المصطلح "تجفيف الينابيع"، ولكن جوهره كان حاضرا بحرب شعواء على كل مظاهر التدين، مع "انفتاح" مقصود أيضا لتغييب الصحوة الدينية. وللتاريخ، فقد سجل النظام نجاحا كبيرا أيضا، لكن المشهد ما لبث أن تغير بعد ذلك بعقدين، وتحديدا في الألفية الجديدة، ولذات الأسباب التي ذكرنا في حالة تونس.

ثمة تجربة أخرى سبقت تونس وسوريا، وسجلت هي الأخرى نجاحا كبيرا، تمثلت في مرحلة ما بعد الصدام بين نظام جمال عبد الناصر وبين الإخوان في الخمسينيات، وضمن ذات المقاربة، وكانت النتيجة هي تغييب التدين من المجتمع المصري لسنوات طويلة، تكاد تقترب من عقدين وأكثر، قبل أن تعاود صعودها مطلع الثمانينيات، ليس فقط بسبب الانفتاح السياسي الذي أحدثه السادات كما هو رائج في أوساط النخب اليسارية والقومية والليبرالية، بل أيضا بسبب الأجواء المحيطة في عموم المنطقة.

من هنا يمكن القول إن الصحوة الدينية لها بُعد داخلي يتعلق بالسياسات الداخلية الرسمية من قبل هذا النظام أو ذاك، ولها بعد خارجي يتعلق بالأجواء العامة في المنطقة، وهذا البعد الأخير صار أكثر وضوحا مع تطور وسائل الاتصال الحديثة، بينما كان أقل تأثيرا في السابق، وإن كان حاضرا على نحو جيد أيضا.

اليوم، هناك في مصر، وفي دول عربية أخرى، من يريد تكرار ذات التجربة، وباستخدام ذات السياسة، ودائما من أجل محاصرة ما يسمى الإسلام السياسي بعد صعوده خلال مرحلة الربيع العربي، ومن يتابع الهجمة على التدين ومعالمه، من حجاب وتراث وصولا إلى نسبة موجات العنف السائدة إلى الدين، سيلمس ذلك دون شك.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للنجاحات التي سجلت سابقا لهذه السياسة أن تتكرر هذه الأيام؟

ما جرى بمصر  خلال الشهور  الماضية دليل فشل تلك السياسة، فحين شرع النظام في تطبيقها، وأطلق كلابه في وسائل الإعلام لتسخيف رموز الدين، لم يلبث المجتمع أن انتفض، بما في ذلك الأزهر التابع للدولة، وهو ما اضطر السيسي إلى التراجع والنأي بنفسه عن الهجمة على الدين ورموزه

الجواب هو لا بكل تأكيد، من دون أن ينفي ذلك ما سيكون لها من تأثيرات متفاوتة، والسبب الأهم لذلك هو أن الصحوة الدينية لم تبلغ في يوم من الأيام، ومنذ عقود طويلة بما في ذلك في التجارب المشار إليها، ما بلغته في المرحلة الراهنة، تحديدا منذ مطلع الألفية الجديدة، بدليل ما يلمسه الجميع من إقبال على مظاهر التدين بكل أشكالها.

ويعني ذلك أن ظاهرة التدين صارت أكثر عمقا من المستوى الذي يمكن معه اقتلاعها، ومن سيفعل ذلك سيدخل في صدام مع المجتمع برمته، مع أن العملية ستتم بالتدريج بكل تأكيد، وشعارات التجديد وما شابه، لا سيما أن كثيرا من الأنظمة لا تزال في حاجة إلى أنماط من التدين التقليدي لمواجهة التدين المسيس إذا جاز التعبير. وهناك بالطبع عنصر آخر يتمثل في هذا الانفجار الطائفي بسبب غرور إيران، والذي يعلي بدوره من أنماط تدين متشددة ردا على ذلك، وبالطبع من منطلق الشعور بالخطر على الهوية.

ما جرى في مصر خلال الشهور القليلة الماضية دليل على ما ذكرنا، فحين شرع النظام في تطبيق سياسة تجفيف الينابيع، وأطلق كلابه في وسائل الإعلام لتسخيف رموزه، لم يلبث المجتمع أن انتفض، بما في ذلك الأزهر التابع للدولة، وهو ما اضطر السيسي إلى التراجع والنأي بنفسه عن الهجمة على الدين ورموزه. لكن ذلك لا يعني أن الحملة ستتوقف، إذ ستمضي، ولكن بطريقة أكثر ذكاء وعلى نحو أنعم.

والحال أن الحرص الذي ينبغي أن يبديه المخلصون من أبناء الأمة على موجة التدين الراهنة لا ينطلق من حرص على الدين وحسب، لا سيما أن تأثيراته الإيجابية على الناس لا تحصى (أفرادا وجماعات)، وإنما أيضا من حرص على البعد المسيس منه، لما له من تأثير على لجم مسارات الاستبداد والفساد، حتى لو لم يحقق مبتغاه النهائي في المسار السياسي، مع العلم أن ظاهرة التدين ما تلبث أن تنحسر حين تكف عن التأثير في حياة الناس، وتبني قضاياهم.

من هنا، يبدو أن على الإسلاميين أن يعودوا إلى ميادين الدعوة ما وسعهم ذلك، من دون أن يهملوا جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا العامة، لأنهما مساران متكاملان يرفد أحدهما الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.