"عاصفة الحزم" والاعتزاز الوطني والقومي

مؤيدون لعاصفة الحزم اليوم الجمعة في مدينة إب
وكالة الأناضول


ماهية "الاعتزاز الوطني"
عاصفة الحزم ومشاعر الاعتزاز

الدولة صورة ذهنية في عقول مواطنيها، وتتشكل هذه الصورة بحسب أخلاقية الدولة وقوتها، ويصح منا القول أيضا بأن الدولة في جوهرها إدراكات فردية وجمعية شعورية ولاشعورية تجاه محددات كونها "دولة" ذات شعب وأرض وحكومة واستقلال وسيادة، إن في إطارها الداخلي أو في محيطها الخارجي.

مثل هذا الرأي يؤمن بأن الآلة الإعلامية ضالعة في رسم هذه الصورة وتلوين إدراكات المواطنين حيال دولتهم وفق مبدأ أن "الخريطة الذهنية ليست هي الواقع بالضرورة"، إلا أن هذا لا يعني أن الدولة قادرة على تشييد صور ذهنية مختلقة لفترات طويلة، فالحقائق قدر محتوم، لا ترد ولا تدفن ولا تؤجل ولا تخدع.

يتشكل الاعتزاز الوطني من جراء عوامل عديدة تتفاعل فيما بينها بشكل معقد لتنتج مشاعر أو اتجاهات إيجابية تجاه الوطن، ويعني هذا تخلق صورة ذهنية إيجابية تعزز الشعور بالفخر والانتماء والولاء والوطنية والتماهي والتضحية للوطن

والصورة الذهنية للدولة ثمرة عوامل معقدة، وهذه الصورة إن كانت إيجابية فإنها تحمل المواطنين على توليد الشعور "بالاعتزاز الوطني". و"الدولة الذكية" هي تلك التي تتعلم كيفية تغذية مواطنيها بمشاعر الاعتزاز الوطني على نحو مستدام، ويدخل في ذلك تضييق هوامش المشاعر السلبية المضادة لها، وذلك لحقيقة تقلب مشاعر الاعتزاز الوطني، إذ لا تدوم على حال، فهي مفتقرة إذًا إلى تغذية دائمة بقوالب ملائمة وأقدار كافية.

وفي هذا المقال مدارسة مختصرة لبعض المحددات العلمية والاستنتاجات التحليلية في سياق الاعتزاز الوطني والعوامل المؤثرة في تشكيله، مع ربط ذلك "بعاصفة الحزم". ذلك أنني والآلاف غيري نرى أنها عززت مشاعر الاعتزاز الوطني داخل المملكة العربية السعودية بكل قوة، ليس ذلك فحسب، بل عززت أيضا مشاعر الاعتزاز القومي في الأقطار العربية، بجانب تغذية الاعتزاز على المستوى الإسلامي، كما في بعض الدول الإسلامية الكبرى.

ليكن هذا مجرد فرضية قابلة للتأكيد أو الدحض، ولنباشر في تقليب الأدبيات العلمية المتخصصة واستجلاب بعض نتائجها، لنكون قادرين إذ ذاك على اختبار تلك الفرضية، قبولا أو رفضا.

ماهية "الاعتزاز الوطني"
ثمة دراسات علمية عديدة حول "الاعتزاز الوطني" في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية، وبعد قراءة تحليلية لبعضها يمكننا الخروج بقدر جيد من الفهم لبعض أبعاد هذا الموضوع، وتتعين الإشارة إلى أن تلك الدراسات أجنبية، حيث لم أعثر على دراسات عربية (وفق بحثي في قاعدة بيانات دار المنظومة على سبيل المثال)، وأكثر المطروح في الأدبيات العربية حول "الانتماء الوطني" و"الوطنية"، أما "الاعتزاز الوطني" فثمة مقاربات فكرية لا أكثر، وربما أقل للأسف الشديد.

ويبدو أن الدراسات الأجنبية ليست مكثفة بشكل كبير، وقد لاحظت أن أغلب الدراسات حديثة، مما لا يعطي نتائج تراكمية بشكل كبير، ولكن هذا لا ينفي أنها مفيدة في تأسيس فهم معقول حول هذه المسألة المهمة. ولعلي أعرض لبعض الحقائق والنتائج والتحليلات المنطقية، وليكن ذلك في نقاط عشر مختصرات:

1- يتشكل "الاعتزاز الوطني" جراء عوامل عديدة تتفاعل فيما بينها بشكل معقد لتنتج مشاعر أو اتجاهات إيجابية تجاه "الوطن"، ويعني هذا تخلّق "صورة ذهنية إيجابية" تعزز الشعور بالفخر والانتماء والولاء والوطنية والتماهي والتضحية للوطن.

2- تعد "الهُوية الوطنية" ذخيرة أساسية لتصنيع مشاعر الاعتزاز الوطني، وهذا يعني أن الدولة التي تفتقر إلى "هوية وطنية قوية" ستعجز عن إيجاد مثل تلك المشاعر على نحو حقيقي متماسك، مع تأكيدي أن الهوية الوطنية تستلزم تقوية مستمرة "للهوية الجماعية" المستندة إلى عوامل صلبة من شأنها تغذية اللحمة الوطنية والشعور بالتفرد عن بقية الدول.

3- تَعمّق مشاعر الاعتزاز الوطني بطريقة مبالغ فيها يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ قد يقود ذلك إلى تجذر "نظرات شوفينية" محقرة للدول الأخرى، وقد تخلق نوعا من مشاعر "التخدير" لبعض الأجيال، فلا يقومون بما يجب عليهم تجاه الوطن الذي يرونه "قويا" أو "مكتفيا" بما لديه من مقدرات وذخائر ومكتسبات.

العوامل التي توجد الاعتزاز الوطني كثيرة، وتشمل: تاريخ الدولة وثقافتها وأدبها وحرياتها وديمقراطيتها ومنجزاتها وقوتها العسكرية والاقتصادية ومستويات الرفاهية والإنجازات الرياضية. ولا شك أن قوة الدولة في الفضاء الدولي أحد أهم تلك العوامل

4- لئن كان الاعتزاز الوطني اتجاها إيجابيا حيال الوطن، فإن ذلك لا يعني البتة أنه "كتلة مشاعرية كلية"، بل هو "كتل مشاعرية تجزيئية"، فالوطن ليس شيئا واحدا بل أشياء عديدة، على أنه يعد إنجازا للدولة إن هي أفلحت في جعل الاعتزاز الوطني "شعورا جمعيا" في فضائها المجتمعي العام.

5- الكتل المشاعرية التجزيئية تعني أن الاعتزاز الوطني مسألة نسبية وفق عوامل أو متغيرات عديدة، فمثلا قد يشعر الناس بقدر كبير من الاعتزاز حيال تاريخ الدولة أو ثقافتها، في حين لا يشعرون بذات القدر من الاعتزاز حيال قوتها العسكرية.

6- العوامل التي توجد "الاعتزاز الوطني" كثيرة، وهي تشمل: تاريخ الدولة وثقافتها وأدبها وحرياتها وديمقراطيتها ومنجزها العلمي والتقني وقوتها العسكرية والاقتصادية ومستويات الرفاهية والإنجازات الرياضية. ومما لا شك فيه أن "قوة الدولة" في الفضاء الدولي أحد أهم تلك العوامل.

7- تختلف أهمية تلك العوامل وتأثيراتها من سياق إلى آخر، ويصعب إعطاء محددات دقيقة حول ذلك، وتؤكد الوقائع التاريخية أن لكل من السياق العام والخاص تأثيرا على ذلك. فعلى سبيل المثال، تلعب القوة العسكرية دورا كبيرا في تشكيل الاعتزاز الوطني في السياقات التي تبرز فيها مهددات للكيان الوطني ولوحدته وسيادته، وينطبق مثل هذا الأمر على مقدار القوة في السياسة الخارجية للدولة.

8- الفضاء الشعوري العام في أي دولة إذا لم يكن معبأ "بالاعتزاز الوطني" فهو حري بأن يكون معبأ بما يمكن أن يسمى مشاعر "الخزي الوطني".

9- النقص أو الضعف في عوامل الاعتزاز الوطني يؤدي إلى تغذية الشعور "بالخزي الوطني"، وهذا أمر منطقي لأنهما متقابلان.

10- تفيد بعض الدراسات بأن ثمة عوامل خاصة من شأنها ترسيخ الشعور بمثل هذا الخزي، مثل: العنصرية والفساد والساسة السيئون و"السياسة الخارجية المتهالكة".

عاصفة الحزم ومشاعر الاعتزاز
من خلال العرض السابق يمكن لنا التقرير بأن "عاصفة الحزم" شكلت منعطفا واضحا في تعزيز مستويات "الاعتزاز الوطني" و"الاعتزاز القومي" أيضا، وقد تجلى ذلك في حجم التأييد الشعبي المطلق من قبل السعوديين لعاصفة الحزم منذ لحظاتها الأولى، بجانب تأييد واسع لدى النخب العربية وفئات عريضة جدا من الشعب العربي، بل تعدى ذلك إلى شعوب مسلمة كالأتراك والباكستانيين والماليزيين. وقد حظيت بمشاركة مشرفة من عدد من الأقطار الخليجية والعربية والإسلامية ودعم عربي وإسلامي ودولي كبير.

وهنا نسأل: ما الذي دفع السعوديين والعرب والمسلمين إلى حمل ذلك الشعور بالاعتزاز؟ حسنا، يمكننا أن نقول الكثير في ضوء ما سبق لنا تقريره في النقاط الفائتة.

لقد مر على العرب زمان طويل استكانوا فيه لقوى إقليمية ودولية وسكتوا على تدخلات سافرة من تلك القوى، وأضحت تلك التدخلات خالقة لتهديدات متزايدة للأمن القومي وللأمن القُطري (لبعض الدول العربية بشكل مباشر أو غير مباشر)، وبات الإنسان العربي محملا بخيبات تكبر مع مرور أزمنة محبطة، يملؤها الساسة بكل كلام مفرغ من الفعل الحقيقي والتحريك الذكي للتروس التي يجب تحريكها، سياسيا واقتصاديا وقانونيا وعسكريا.

ومثل هذا المسلك الخانع أورث مشاعر عميقة "بالخزي الوطني" و"الخزي القومي" لدى أكثر الفئات في عالمنا العربي والإسلامي.

عاصفة الحزم شكلت منعطفا واضحا في تعزيز مستويات الاعتزاز الوطني والقومي أيضا، وقد تجلى ذلك في حجم التأييد الشعبي لها من قبل السعوديين، بجانب تأييد واسع لدى النخب العربية وفئات عريضة جدا من الشعب العربي

وفي مثل هذه الأيام الصعبة جاءت "عاصفة الحزم" "بقيادة سعودية قوية"، وترتيبات جديدة "لسياسة خارجية متوازنة"، تعيد اللحمة الواجبة على المستويات القومية والإسلامية، وتعيد في الوقت ذاته ترتيب الأولويات والغايات المستهدفة، وتجدد النظر في قائمة العداوات والصداقات وفق عوامل أكثر تماسكا كما يبدو لنا في المشهد الحالي والمتوقع في مراحل تالية، مع توجيه ذكي لدفة العاصفة سياسيا وإعلاميا، ونأي جلي عن الأطر الطائفية الضيقة، مما خلق شعورا عميقا بأنها "حرب أخلاقية" و"حرب عادلة"، بل "حرب واجبة" بامتياز، وبخاصة أنها انطلقت من دولة بحجم السعودية لتخفف من وتائر شعورنا بالانضغاط من تحركات "ملالي إيران" وتدخلاتهم السافرة في دولنا العربية وتبجحهم بقضمنا الواحد تلو الآخر.

لقد استيقظ الناس على فعل سياسي رشيد، وإرادة قوية وقرار صارم نابع من الإيمان بأن ثمة سيادة وطنية وقومية ووحدة للدول يجب أن يحافظ عليها بكل نفيس، فتوجت بعمل عسكري قوي حكيم، مع حيازته على قبول دولي كبير ومتنام.

ومثل هذا الصنيع الجيد في "عاصفة الحزم" يؤكد أن الساسة قادرون على خلق مناخات تحفز على اعتزاز وطني وقومي بنّاء، من شأنه تعزيز الانتماء والولاء لأقطارنا العربية، وبما يكرّس الوحدة والاستقرار والسيادة، وبما يرفع سقوف الوطنية الحقة والتضحية الواجبة.

وأحسب أن عملا كهذا يمكن أن يقلل من هوامش انضواء بعض الفئات الشابة تحت ألوية جماعات التطرف والعنف، مع دفعهم إلى إعادة الإيمان بالأطر الحكومية الرسمية، وفي هذا تجنيب لهم من التعرض لحملات غسيل فكري تجهد لأن توصلهم إلى ألوان من "الكفر المغلظ" ببرامج الإصلاح السلمي التدريجي والنهج الديمقراطي.

ومثل هذه المسائل بحاجة إلى دراسات معمقة في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية، مع إعادة تشديدي على أن "الاعتزاز الوطني" و"الاعتزاز القومي" حالة شعورية متأرجحة، تزيد بأخلاق الدولة وقوتها، وتنقص بانحطاطها وضعفها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.